fbpx

15.. 16.. 17..

17 أتوبيس نقل عام بمواتير أكبر من 5000 سي سي بيعدوا قدام بيتي كل صبح. 

الـ 3 ساعات إللي بين 9 صباحًا لـ 1 الضهر كنت بطلعهم من الساعة وأحطهم على المكتب

أحاول أركز فيهم علشان ما تشتتش مع أصوات مصارعة النقل العام اللي جايه من الشارع

لحد ما اقتل آخر ثانية

لكن أول ما الساعة بتيجي 12 زاانج! بتحصل مفاجأة! 

مسابقة الكلاكسات

كل وحش نقل عام جنبه وحوش ملاكي صغيرة بتصرخ، بيطير منها كلاكس ورا كلاكس

في دوامة مزعجة ملهاش نهاية

وده طبعًا لأن الحركة المرورية في الوقت ده كانت بتتكدس على شكل أيس كريم من العربيات

اللي بتسيح في شوارع وسط البلد 

وغريزة البقاء بتدفع السواقين إنهم يضربوا الكلاكس بأقصى ما يمكنهم كأنه مخرجهم

فتتحول الشوارع الجانبية لمتاهة فئران بيهرب فيها السواقين بعربياتهم

من مصيدة حياتهم اليومية

أو بيزنقوا على بعض  في رحلة البحث عن فكة الخمسة جنيه 

إللي يبدو إن نص ركاب وسائقي القاهرة مازالوا بيدورا عليها

الصمت

الصمت بمنتهى البساطة هو الغياب الكلي أو النسبي للصوت المسموع

يعني أي مكان مستوى الصوت فيه أقل من 20 ديسيبل يعتبر مكان صامت

وده معناه إن أبسط الأصوات زي التنفس والشجر يعتبروا في عداد الصمت

لأنهم أقل من 20 ديسيبل

آما صوت الإنسان العادي فبيتراوح ما بين 30 إلى 60 ديسيبل

مؤخرًا، أصبحت أصوات المعدات في العاصمة أعلى من أصوات البشر

وده مصدره حركة الهدم الواسعة اللي عايشاها القاهرة في الوقت الحالي

المدينة كلها بقت شبه مكعبات لعب الأطفال

إللي ممكن في دقيقة تقع على الأرض

وأحيانًا بشوفها شبه منشر الغسيل، مبانيها غير متساوية

وممكن أصحى ألاقي مبنى زاد ومبنى وقع. 

يبدو إن ده توجه عام في الفترة الأخيرة.. مش نشر الغسيل طبعا!

لكن دوشة التغيير وإعادة البناء.. عملية أشبه بالقص واللصق إللي بنعمله على ملفات الوورد. 

ما أنكرش إني تساءلت ذااات يوم..

امتى هتيجي لحظة مش هسمع فيها حِسّ؟

ويعني ايه تجربة زي دي..

انطباعاتي عن اللحظة دي مش بتلاقي صورة سابقة علشان أقارنها بيها

وعلشان كده كل انطباعاتي بتتفتت وبتدوب على شكل دخان في قعدة رايقة بالليل. 

بس ساعات.. الدوشة بتاخد مستوى يناسب الحدث.. وده مش شيء وحش أبدًا لأن الكل بيشارك فيه وبيحبه

يمكن من باب إن الدوشة لازم يتعلّى عليها بدوشة أدوش منها زي ما كلنا عارفين.

لكن فيه نوع محدد من الضوضاء ممكن فعلًا يصيب الشخص بلحظات من الجنون.. 

جنون أشبه بميدان السيدة عائشة بعد الضهر مثلًا..

إللى بتحصل فيه مباريات ملحمية بين صاج العربيات ودخان العوادم.. ولحوم البشر.. وأحيانًا لحوم الحيوانات

مستويات الصوت في الأماكن دي ممكن تتجاوز 100 ديسيبل

يعني ما يكفي إنه يتلف سمع الشخص تمامًا لو استمر في سماعه لفترة طويلة.

لكن لأن صوت زي ده أصبح مناسبة موسمية

قررت أدور على الصمت في مكان تاني أقدر أنزل منه للمدينة في أسرع وقت علشان محسش إني عطلان

وفي نفس الوقت، أقدر أعيش من غير مهرجانات النقل العام

إللي بتطارد دماغي من ساعة الصحيان لحد الليل.

أول حاجة سمعتها لما نقلت سكني من وسط البلد لمكان على أطراف القاهرة الكبرى كان صوت الهواء

وده لأن المساحات واسعة والبيوت صغيرة والشوارع عريضة

الأماكن الجديدة دايمًا ليها طابع مميز

كأنك بتفتح علبة ملفوفة بشياكة بس فاضية من جوه

أنا بشوف  المدينة الجديدة بالشكل ده فعلًا..

علبة صغيرة بفتحها ألاقي فيها شوارع فاضية ومحلات مقفولة وبيوت لسه مسكنتش

مكان لسه محدش عرفه ولا لحقت تتصور فيه ذكريات، مكان لسه فيه صمت..

لكن بعد فترة قليلة من الصمت ده سمعت وحوش جديدة

صوت أفكاري، وإللي كان مشوش عليها قبل كده أصوات وسط البلد. 

أسئلة زي.. هتعمل إيه؟ هنتحرك فين؟ هنعمل ايه امتى؟ إيه اللي جي؟ هنوصل ازاي؟

متاهة من الأسئلة المكررة..

يعني الدوشة إللي كانت حواليا في الشارع قعدت جوا دماغي

ومع مرور الوقت خلقت جوايا صراعات مكنتش قادر أسمعها في زحمة المدينة

وهنا كان لازم أسأل السؤال الأهم من تاني.. يعني إيه صمت؟ 

العالم إللي احنا عايشين فيه النهارده مش الضوضاء هي اللي بتميزه

لكن نقدر نقول إنها استحالة الصمت

بمعنى أننا أصبحنا محاصرين بكم كبير من  الإشارات إللي بتحاصرنا

وبتخلينا دايمًا محبوسين في عالم افتراضي صممناه في تليفوناتنا..

أما الواقع الحقيقي.. فمن الوارد يكون بيحصل لما نغمض عينينا عن العالم الافتراضي..

فربما.. ربما تكون الحقايق مستخبية في الصمت.

يبدو الكلام فلسفي شويه، وهو بالفعل فلسفة..

الفيلسوف الإنجليزي النمساوي لودفيج فيتجنشتاين طوّر مصطلح سماه الصمت اللغوي

بيفترض من خلاله إن الصمت هو مظهر من مظاهر التواصل

وإن التفكير ممكن يتعبر عنه إما باللغة أو بالصمت

يمكن علشان كده كان بيقول “ما لا يُعبر عنه بالكلام حتما يتناقله الصمت”

دلوقتي أقدر أقول إني في مكان هادي، وإن مكانش صامت..

بعدت عن مميزات القرب من الأماكن الحيوية في وسط البلد

وسكنت في مدينة جديدة على أطراف القاهرة.. 

لكن الصبح.. اكتشفت حفلة جديدة

في اللحظات دي الزلط بيترمي على الرمل والأسمنت في غسّالة حديد كبيرة

ملموم حوليها 5 أنفار أغلبهم من بني سويف والفيوم

ناقصهم طواقي مكسيكي ويبقوا أشبه بشخصيات من فيلم كاوبوي من الستينات

بعد لحظات الخليط ده بيتحول لمادة سائلة لونها رمادي اسمها “مونة”

بينقلها العمال للمبنى اللي بيتبني بعربية نقل يدوية ولما تنشف بتتحول لحيطان وعواميد. 

وطبعًا بعد الحيطة ما تتشد والعمود يتنصب لازم يتعلق عليهم حاجات

ويتركب فيهم حلوق وتتمد جواهم مسارات كهرباء.

يبدو إن الدوشة اللي هنا بترد على الدوشة اللي في القاهرة 

وكأن إللي بيتهد في العاصمة بيطرح مكانه بناء جديد في الضواحي

الكل اتصاب بعدوى البناء

المسئولين والسكان هنا بيقولولي إن إللي اشترى قبل 10 سنين ومعرفش يشطب بيجري دلوقتي إنه يخلص ويثبت أوضاعه.

سواء كانت شركات أو أفراد أو أجهزة المدن الجديدة نفسها

خصوصًا مع الاتجاه العام لتقنين أوضاع المجتمعات العمرانية الجديدة

وتوقعات ارتفاع أسعار سلع كتير منها مواد البناء.

بعض دراسات علم البيئة الصوتية بتأكد إنه مفيش مكان على الأرض متأثرش بالصوت البشري،

وإن في كل أنحاء الكوكب مفيش يوم بيمر من غير مانسمع على الأقل صوت واحد،

سواء أصوات الطيارات في الجو.. لأزيز المحركات على الأرض وتحت الأرض..

هل ده معناه إن الصمت الوحيد اللي ينفع يتحقق هو صمت الأفكار؟

أو يمكن الوصول لأقرب حالة أقدر أغفل فيها بإرادتي عن أي صوت حواليا

زي إني أنظم نفسي مثلا فأتعامل مع الصمت على إنه حالة مش مكان

وساعتها أقدر أحققه بدل ما أدور عليه.

ماذا يعني الصمت؟

أين نعثر على الصمت في مدينة تُهدَمُ وتُبنى كل يوم مثل القاهرة، ثم كيف يمكننا القبض عليه وتسجيله؟
كريم كيلاني
29 أبريل 2022
46 دقيقةاستمع

التعرّض المتكرر لأصواتٍ تفوق 100 ديسبل يُسبّب أضرارًا جسيمة للأذن البشرية تؤدي مع الوقت إلى اتلاف السمع نهائيًا.. حقيقةٌ علمية يُمكن لمدينة مثل القاهرة أن توفّر شروطها كل يوم.. خاصةً لساكني وسط المدينة مثلي.

والكثير مِمن يسكنون هذه المدينة يمكن اعتبارهم صيّادي صمت، يطاردونه كلما سنحت فرصةٌ للراحة، وإن كان من الصعب -حتى في أكثر البلدان هدوءًا- أن تجد مكانًا لا يصله صوتُ أثرٍ بشري.

البحث عن الصمت، والسكون إليه، هو محاولة لحجب الضوضاء التي تلفظها القاهرة ويلقطها الميكروفون.. لكن خروجي من وسط المدينة المعرض للإزالات والتجريف لم يكن حلًا نهائيًا، في رحلتي للبحث عن الصمت.

ففي الأطراف والضواحي وجدت حمى من نوعٍ آخر.. التسابق في البناء والإنشاءات، وهي إن كانت معاكسة لحمى الهدم، إلاّ أنها في الحساب الأخير ضوضاءٌ تردّ على أخرى.