الموعد بات ثابتاً على رزنامة الحرب؛ كلّ ليلةٍ، ينشر جيش الاحتلال الإسرائيلي تحذيرات يُطالب فيها اللبنانيين بإخلاء بيوتهم وأحيائهم وقراهم. أمامك خيار واحد، الخروج من البيت خلال بضع دقائق بالكاد تكفي قاطني الطوابق العليا لإغلاق الباب ورائهم ونزول الدرج.
أمامك دقائق عدّة لإلقاء نظرةٍ أخيرة على حياتك، ولكي تجيل بصرك فيها قبل أن تصير ركاماً. خمسة دقائق، عشرة دقائق، عشرون دقيقة.
كيف يحتسب المغادرون الوقت؟
ينتظر الجيش الإسرائيلي حلول الليل غالباً لبثّ تحذيراته هذه، في موعد الخلود إلى النوم. كلّ ليلٍة بتوقيت بيروت والجنوب والبقاع، يهدّد ويدعو الناس إلى الابتعاد عن محيط منازلهم ما يقارب 500 متراً، كما يُشير الإعلان التحذيري، في محاولة لإظهار حرصه على أرواح المدنيين.
كيف يقيس المغادرون خطواتهم؟ وماذا حين تسبق القذائف التحذيرات، كما يحدث معظم الوقت؟
كاميرات التلفزيون مثبّتة على التلال المحيطة ببيروت وبضاحيتها الجنوبية، في مناطق الحازميّة وبعبدا. تظهر شرارة النيران الأولى بعد القذيفة، يقرّب المصوّر عدسته… تلتهم النيران الشاشة.
تُخفق العينان غالباً في الإفلات من قبضة الشاشة. تلسعهما ألسنة النار، وسيرقد فيهما غبار وركام بعدما ينقضي المشهد.
أين ينتهي البيت؟ أحين يخلو من أهله؟ أو حين يتحوّل إلى صورة جوّيّة رماديّة؟
البيوت لا تبقى بيوتاً من الأعلى، في الخرائط الجويّة الداكنة المرفقة بتحذيرات جيش الاحتلال. أشكالها هندسيّة بأربعة أضلع تسوّرها خطوط حمراء. أسطحها منبسطة، تُفرغ البيت من فكرته ومن غرفه ويوميّات ساكنيه.
نرى الأرض بلا بيوت، ونرى البيوت أصغر من دعسةٍ قدمٍ واحدة، وأقلّ من يدٍ تفتح الباب لتدخل.