fbpx

البحر الميت.. صور الملح والغرق

عندما بدأت التصوير كان عليّ أن أتصالح مع حقيقة أن البحر الميت يغرق ببطء، يجف، ويموت، فسعيت إلى توثيق هذا الغرق
ــــــــ حالة أرض
باولا فران
19 أغسطس 2022

أمشي على شاطئه لمسافاتٍ طويلةٍ بانتظام. يجذبني السكون الهادئ والضوء الغامر الذي يُسكِت العالم من حولي بينما يتردد صوت خطواتي على التضاريس القاسية. أغرق في كل ما يحيط بي: رذاذ الماء، الأزرق اللامع، الصافي والثقيل في آن. 

محمّلٌ بمعادنه الكثيرة، البحر هنا قليل الحركة والحماس، تتراكم تكويناته الملحية على الشاطئ. الجو العام قمري وسينوغرافيا المكان سريالية، خاصة عند الفجر والغسق، حينما يغطي وجه الماء خمارٌ فضي.

يستغرق الوصول من عمان إلى البحر الميت أكثر من ساعة، يهبط بك الطريق المتعرج إلى الأسفل عبر التلال الملتفّة حول الأراضي القاحلة، وما أن تتجاوز أخدود وادي الأردن، حتى تقع على مزيجٍ مذهلٍ من البياض والزرقة، مع جروفٍ صخريةٍ عاريةٍ ينتهي انحدارها مباشرة إلى البحر.

عند أخفض نقطة من سطح الأرض

لقد وصلت. أنت الآن في أخفض نقطةٍ على وجه الأرض؛ الهواء ثقيل، والأكسجين كثير جدًا، والصمت مرتفع. عادةً ما أسير نزولًا إلى الشاطئ. ما يبدو من على الطريق المطلّ صورة مثاليةً للتنزه، يثبت أنه بيئة معادية لكثرة النتوءات والشقوق تحت قدميك. عدائيةٌ نعم لكنها آسرة. 

ينحسر البحر الميت بمقدار 30 إلى 50 سم في السنة، تاركًا ضفاف التلال الملحية عارية ومكشوفة. تشكّلت هذه التكاوين الملحية بفعل الجزْر البطيء والمتواصل، تضرب بياضها الأخّاذ العناصر والشمس والرياح ببطء. إنها ثمار انحسارٍ يفقد البحر الميت فيه باستمرار مياهًا أكثر من تلك التي تتدفق إليه.

المشكلة ليست بيئية فقط. صحيح أن التبخر يؤدي إلى انخفاض مستويات الماء، ولكن المياه أيضًا لا تتدفق بما يكفي إلى البحر لتجديده. القليل جدًا – يأتي من الوديان المجاورة، فالأردن هو من واحد من أفقر أربعة بلدان بمصادر الماء في العالم، ولا يتجاوز إجمالي هطول الأمطار السنوي 100 ملم في منطقة الوادي. 

القضية الرئيسية تكمن في المنبع، فمن إجمالي المياه التي كانت تتدفق إلى البحر الميت من نهر الأردن تصل الآن 10% فقط إلى وجهتها. ساهم الإفراط في ضخ المياه من المصدر قبل وصولها إلى الأراضي الأردنية، والكميات المفرطة المستخدمة في الزراعة على جانبي وادي الأردن في هذه الكارثة التي لا ترحم، والتي ما زال من الممكن تجنبها.

استند بحثي الفني إلى انهماكي بالموضوع البيئي، لذلك كان من الطبيعي جدًا بالنسبة لي استكشاف “موت” البحر الميت وتداعياته. تتطلب السرعة التي تنحسر بها المياه اتخاذ إجراءات فعلية، لكن الصراعات الإقليمية البيئية والجيوسياسية المستمرة لن تسمح بأي حل على المدى القريب.

رحلات لتوثيق الغرق 

في الأساس، عندما بدأت التصوير كان عليّ أن أتصالح مع حقيقة أن البحر الميت يغرق ببطء، ويجف، ويموت. وسعيت إلى توثيق هذا الغرق، ربما يمكن، رغم التشويه المتكرر لـ “الأدلة” و”البقايا”، أن يعيش لفترة أطول.

التقطت هذه الصور للأشكال التي يكوّنها الملح الذي تخلّى عنه البحر، يمكننا أن ننظر إلى الملح بوصفه رفات الماء. تقدم صوري نفسها كمتحف لعرض قصة البحر الميت، تحمل بصمات الجروف وسلاسل الملح مدمجة في كتل كما لو كان المرء ينظر إلى بقايا البحر في مستقبل (ليس بـ) بعيد، صور تعرض كما لو كانت الآثار المتبقية مما كان يومًا صرحًا مجيدًا. 

لقد سعيت إلى توثيق الاختفاء التدريجي للماء الأكثر ملوحة على وجه الأرض، التقطت الصور لـ “الأدلة” و”البقايا” بالألوان أولًا، ثم بالأبيض والأسود. شعرت أن تجريد الصور من ألوانها يمثل تلاشيها الأولي. 

للبحر الميت ضفتان، يقع بين أرضين، كل منهما ينظر إليه من منظور مختلف تمامًا. طبعت نيجاتيف الصور، وعلقتها لتطفو معًا ولكنها متعارضة بشكل جذري.

فوتوغرافيا بتقنية السيانوتايب: ستة أمتار قماش

لاحقًا استخدمت هذه النيجاتيف نفسه لبناء صور جديدة باستخدام تقنية الطباعة بالـ “سيانوتايب” على القماش. أصبحت صور السلاسل الملحية مليئة بالألوان، كأن عملية التصوير والطباعة أجبرت الحياة على التجدد فيها. 

كانت مطبوعات “السيانوتايب” قوية ومتفاوتة في درجاتها اللونية، فقمت بطباعتها على قماشة طولها ستة أمتار تتدرج ألوانها من الأغمق إلى الأفتح.  لم أعالج القماش قبل استعماله، سيستمر في التلاشي مع مرور الوقت، مثلما يتلاشى جسم الماء بلا توقف. 

بتقنية “السيانوتايب” نفسها، طبعت أيضًا مقطعًا من قصيدة “أشباح البحر الميت” لجورج إبراهيم والتي أعادت كتابة تاريخ الغرق. وضعت الكلمات المطبوعة بعناية على القماش في الساعات الأولى من الفجر، قبل شروق الشمس مباشرة، لضمان صبغها كلها في وقت واحد، وهكذا حصلت على مقتطف من الملح والكلمات والماء يبلغ طوله ستة أمتار. تقول هذه القصيدة العجز الذي أشعر به وأنا أشهد بنفسي اختفاء البحر الميت بمرور الوقت. 

إن التلاعب المستمر وصناعة المطبوعة إثر الأخرى، والاستكشاف بمواد مختلفة، والتبديل بين الصور النيجاتيف والبوزيتيف هي محاولة محمومة مني للتمسك بالعناصر التي تثبت وتشرّع حق البحر الميت في الوجود. تحدثتُ عن بيئة جميلة معادية. هذا هو بالضبط ما يبدو عليه هذا التركيب الفوتوغرافي: ممتع جماليًا لكنه بارد، مسالم لكنه عاجل.