بسهولة يمكنك أن تفتح موضوع “الرحيل/الذهاب/الهجرة/الحرقة/الغربة/أوروبا/الهروب.. إلخ” مع الجزائريين. سمّه ما شئت، سيبقى معناه واحدًا: اجتياز البحر الذي يحدّ نهاية شمال إفريقيا.
فرنسا
قرأت مؤخرًا على موقع أخبار تأشيرة شنغن أن الجزائريين صرفوا أكثر من 31 مليون أورو في سنة 2022، وقدموا قرابة 400 ألف طلب فيزا لمختلف مراكز التقديم على التأشيرة. وجدتُ الرقم صادمًا، ومع قليلٍ من البحث في إحصائيات الموقع وقعت على ترتيب دول الجنوب التي حصلت على أعلى نسب رفض التأشيرة لأتفاجأ مرةً أخرى بالجزائر على رأس القائمة بنسبة 48,2 بالمئة، تليها نيجيريا وسريلانكا فغانا ثم هايتي.
غالبًا ما يكون الصيف فترة عملٍ بالنسبة لمراكز التقديم على التأشيرة لمختلف دول منطقة شنغن. لذلك قررت الذهاب إلى أكثر من مكتب طلب تأشيرة في الجزائر العاصمة لأشاهد وأسمع قصص النّاس. وصلت إلى مكتب طلب تأشيرة فرنسا، بمنطقة واد السمار شرق العاصمة، قبل منتصف النهار، وكانت الحرارة يومها خانقة.
ما عدا الطوابير التي تتوالى تحت ممشى مسقّف مثل خيمة، ينتظر بقية الناس من مرافقين أو ممن لم يحن دورهم بعد، في الشارع الضيق والموازي للطريق السريع. المحظوظ منهم يجد حجرًا يجلس عليه أو شجرةً يستظلّ بها. وبتدقيق النظر تفاصيل الشارع، يمكننا رؤية علامات الانتظار: شبابٌ حفروا أسماءهم على جذوع الأشجار، قطع كرتون على أماكن مُسوّاة من التراب حيث جلس أحدهم تحت ظلّ نبتة، علب طعام وزجاجات مياه فارغة.
المركز يوجد في منطقةٍ صناعية، وتصله بالسيارة أو التاكسي، وأقرب محطة قطار على بعد 40 دقيقة مشي. عند حديثي مع المنتظرين لاحظت أن كثيرين منهم جاؤوا من منطقة القبائل، وعمومًا كانت النساء أغلبية.
سألت العديد من الأشخاص هناك إذا ما كانت هذه هي المرة الأولى التي يتقدمون فيها بطلب تأشيرة لفرنسا، والإجابات كلها كانت مرّتان فما فوق. يعني، وبدون احتساب مصاريف ملف الفيزا والنسبة التي يأخذها المركز، يدفع كل واحدٍ منهم حوالي 80 يورو حق طلب الفيزا من السفارة.. وأغلبهم يدفعها أكثر من مرة، مع العِلم أن الأجر القاعدي في الجزائر هو 20 ألف دينار، أي 100 يورو تقريبًا بسعر صرف السوق السوداء.
هنالك كلمة يستعملها الجزائريون، وخاصةً الشباب، بشكلٍ واسع لدى الحديث عن حالات الرفض التي يتلقّونها لدى التقديم لتأشيرةٍ شنغن، يقول أحدهم: “عطاوني regret”، -روڤري- والكلمة الفرنسية تعني حرفيًا “ندم” أو “أسف”، وذلك لأن كل رسائل الرفض -والتي غالبًا ما تُكتب بالفرنسية- تبدأ بالجملة البروتوكولية “nous avons le regret de vous informer” أي “نأسف لإبلاغكم”. فجرت العادة على تسمية رسالة الرفض بالـ “روڤري”، ويقال “فلان عنده عشرة روڤري ومازال يدفع فيزا”.
أحد المنتظرين، واسمه رضا وعمره 34 سنة، جاء من مدينة برج بوعريريج، أخبرني أنه قدّم تسع مرّات للحصول على تأشيرة ولكنه لم ينجح. صرف أكثر من 120 ألف دينار (600 أورو تقريبًا) على ملفات التقديم. وعندما سألته عن سبب إصراره، أخبرني “ببساطة، هنالك فرص عملٍ أكبر.. وحبّيت نزهى ونعيش”.
إسبانيا
بالنسبة لي، كان مكتب طلب تأشيرة إسبانيا أسوأ مكانٍ زرته. يتواجد في شارعٍ منحدر نحو نهج سيدي يحيى بأعالي العاصمة، ويتجمهر الناس أمام المكتب فتتعرقل حركة السير صعودًا ونزولًا. أكثر من مرّة يخرج الموظفون لنَهر المنتظرين والمنتظرات، وحسب شهادات الناس فالمكان خانقٌ وضيق، ولا يشبه في شيءٍ مكتب تأشيرة فرنسا الواسع والضخم.
أخبروني أن سعر الحجز الإلكتروني ورسوم الملف تصل إلى 40 ألف دينار (تقريبا 200 يورو، أي ضعف الدخل الأدنى في الجزائر). إلا أن هذا لم يمنع إسبانيا من نيل أكبر حصة من الـ 31 مليون يورو التي صرفها الجزائريون، ربما لأنها الخيار الثاني بعد فرنسا التي يعاني الكثيرون من رفضها لملفاتهم. لكن تأزّم العلاقات بين الجزائر وإسبانيا على مدار عامَي 2022/2023، وإيقاف الرحلات بين البلدين، انعكس بالسلب على طلبات التقديم.
تحدثت مع جمال، ثلاثيني من منطقة القبائل، كانت تلك مرته الأولى التي يقدم فيها لإسبانيا. قال إنه حاول مع التأشيرة الأمريكية من قبل ورُفِضَ. وقبلها هاجر إلى تركيا ولكنه واجه عنصريةً من الأتراك، وتسبّب له الأمر في إحباط، قال: “كنت أحاول تقديم نفسي كل مرة كشمال إفريقي/أمازيغي، إلا أن الجميع كان يعاملني كعربي بسبب جواز السفر الجزائري”. لم يتأقلم، فعاد إلى البلاد.
كندا
قصدت أحد المكاتب المرخصة لاستقبال ملفات التأشيرة والهجرة نحو كندا، ويقع في شارع كلود ديبوسي وسط الجزائر. وذلك لسببين:
أولهما كون كندا هي وجهة الهجرة الأولى بامتياز لدى العائلات الصغيرة في الجزائر، أما عند الطلبة والشباب العاملين فهي تنافس فرنسا، خاصةً أن الأغلبية تتجه نحو كيبيك وضواحيها، ذات الثقافة الفرنكوفونية وحيث تتركز جالية جزائرية معتبرة العدد.
ثاني سبب هو الفيديو الذي انتشر على السوشل ميديا، وشاهدته منذ أشهر، لطوابير الانتظار أمام هذا المكتب حيث يتدافع النّاس وامرأة شابة تصرخ على أحدهم.. ربما سرقها؟ ربما كان متحرشًا؟ ربما تجاوزها في الطابور؟ كان الفيديو قصيرًا ولم نفهم السياق.
كان الوضع هادئًا، لكن حرارة بعد الظهر لم تمنع وجود طابورٍ طويل. أغلب من حدثتهم هناك كانوا يريدون مواصلة دراستهم هناك، حدّثوني عن تفاصيل معقدة لملفات الهجرة، استمارات وتقييمات، وعن طريقة معالجة للملفات أمريكية أكثر منها أوروبية.
مرة أخرى
في طريق العودة توقفت بشاطئ كيتاني، بحي باب الوادي، واقتربت من شبابٍ صغار كانوا يلعبون بابي فوت ويطلّون على البحر. أحدهم كان اسمه أمين، 24 سنة، أخبرني أن حبيبته سافرت فرنسا للدراسة، حاول طلب التأشيرة مرتين، فرنسا أولا ثم إسبانيا.. “عطاوني روڤري”، يقول أمين ثم يؤكد لي أنه سيقدّم مرةً أخرى.