fbpx

حلم طويل

في مدينةٍ بعيدةٍ اسمُها حلب، هناك شخصٌ يحملُ اسمي ويجولُ في بقايا مدينتي متسائلاً: ماذا لو كانت الحرب مجرّد حلم؟
5 نوفمبر 2024

تركتني الحربُ مشوّشاً، أكادُ لا أصدّقُ أنّي عشتُها، وحينَ أروي ذكرياتٍ من سنينِ الحربِ في حلب، أشعرُ بأني أروي ذكرياتِ شخصٍ آخر، شخصٍ بعيدٍ يحملُ اسمي ويجولُ في مدينتي.

ربما كانت طريقةُ تعايشي مع الحرب، كشابّ اختبرها في عمرٍ مبكّر، هي أن أنسحبَ إلى خيالي هرباً من الواقع، أو أن أجلبَ خيالي إلى الواقع ليُسانِدني في مواجهته. قمتُ بذلكَ على مدى سنواتٍ طويلة، حتى اختلطَ الواقعُ بالخيال، وصرتُ أشعرُ بالغرابةِ أمامَ كلّ فظاعاتِ الحرب؛ الغرابة بدل الحزن، الغرابة بدل الخوف، والغرابة بدل الفرح بالنجاة. ربّما كانَ ردُّ فعلي غيرُ الطبيعيّ نوعاً من التأقلم، لأنَّ الردَّ الطبيعي هو أن أتألّم، ومّنْ يريدُ أن يتألَّم لمدَّةِ عشرِ سنينٍ متواصلة؟

في يومٍ من أيامِ الحرب، وجدتُ كاميرا قديمة في دُرجِ أهلي هي ذاتُها التي صوّراني بها وأنا صغير. شعرتُ بأنَّ التصويرَ قد يكونُ فرصةٌ لإعادةِ الاتصالِ بالواقعِ والخروجِ من ضبابِ الخيال. بحثتُ عن أفلامٍ للكاميرا، ولم أجد غيرَ أفلامِ أبيضٍ وأسودٍ منتهيةَ الصلاحية. صوّرتُ فيلماً كاملاً، وحين حمّضته، لم ينجُ منهُ سوى بضعةِ صور بسببِ قلّة جودتهِ وقلّة خبرتِي. كانت الصورُ غريبةً وبعيدةً عن الواقعِ الذي أحاولُ التقاطه؛ غير ملوّنة، تفاصيلها غير واضحة، لا يمكن تمييز الوجوه فيها، وحين قمتُ بالتزويم على تلك الوجوه تفتَّتَتْ إلى بيكسلاتٍ تخيَّلتُها حبَّاتِ رمادٍ لا تحتاجُ أكثرَ من نفخةٍ حتَّى تختفي إلى الأبد.

هكذا انتهى بي الأمرُ للغوصِ أكثرَ في ضباب المُتخيَّل، كأنَّما قدري أن أرى الواقعَ من خلالِ عدسةِ الخيالِ وأن تكونَ تلكَ أداتي لفهمه. لكنّي لم أعُد أشعرُ بأنَّ الاقترابَ من الخيالِ هو ابتعادٌ عن الواقع، صرتُ أفهمُ أنَّ بوسعِ الإنسانِ أن يقتربَ من نقيضينِ في آنٍ واحدٍ أو أن يحاولَ ذلكَ على الأقل، ربما يشبهُ ذلكَ محاولةَ كتابةِ الشعر.

في مدينةٍ بعيدةٍ اسمُها حلب، هناك شخصٌ يحملُ اسمي ويجولُ في بقايا مدينتي وهو لا يصدّقُ الدمارَ الذي تراهُ عيناه. إنَّهُ محاطٌ بالضباب، ضبابِ سؤالٍ يحيطُ بهِ من كلّ الجّهات ويُشعره بالأسى والأمل في آن: «ماذا لو كانت الحرب مجرّد حلم؟»

في حلمي رأيتُ امرأةً تمشي بين حطامِ ذكرياتها

رأيتُ دليلاً سياحياً يُنهي دوامَهُ ويعود إلى الحاضر

رأيتُ امرأتين منقّبتين تتفاديان نظرةَ رجل

رأيتُ خروفين أسودين يبتعدان عن القطيع ويقتربان من ضبابي

رأيتُ عائلةً صغيرةً مُحاطةً بأبنيةٍ كبيرةٍ وشعرتُ بخوفِ أب

ورأيتُ رجلاً يحاولُ الابتعادَ عن الحربِ فلمْ أقترب منه

في حلمي رأيتُ عتمةً تلاحقُني وهربتُ إلى الليل

رأيتُ بلادي تنظرُ إليَّ نظرةً لم أفهمها

رأيتُ رجلاً يذهبُ من مكانٍ إلى آخر وتمنيتُ لو أكون مثله

ورأيتُ ابناً يودّع أباهُ من شرفةٍ لا تطلُّ على الكثير

في حلمي رأيتُ يداً تمتدُّ إليّ، وبدلاً من الأخذِ بها، صوَّرتُها

في حلمي رأيتُ ضبابي يغلّفُ غيري وشعرتُ بالألفة

في حلمي رأيتُ نهايةَ شيٍ ما لمْ أستطع تمييزه

أتمنى أن يكون نهاية هذا الحلم.