أتذكر تلك اللحظة التي دخلت فيها السوق لأول مرة، انتقلت عبر الزمن. كان ممرًا طويلًا تتسابق فيه الروائح لتلامس حواسي: رائحة الشيح والميرمية ودخان الهيشي. في ثوانٍ معدودة، عدت إلى خيمة جدتي، ثم حصدنا القمح معًا. ترددت أصداء صوت “التراكتور” وجرس الأغنام خلفي. بينما كان قلب ابن الريف والبادية يشتاق لأيام مضت، لتلك الذكريات التي تحملها الأجيال في سهراتها ومواويلها، تلك اللحظة التي أستطيع فيها الهروب من صخب الحياة المعاصرة، لأشكو فيها غربتي وسط صراعات العالم الحديث.
في قلب جنوب الأردن، تقبع مدينة معان عاصمة الأردن الأولى، وعلى هامشها يمتد شريطُ طويل تتقابل فيه المحلات والمخابز والدكاكين القديمة، التي يعود معظمها إلى فترة حكم العثمانيين في المنطقة. يجسد سوق البدو ذاكرة حية، المقصد الأخير الباقي لسكان البادية الجنوبية والشمالية، الباحثين عن حاجاتهم الأساسية، حاجاتٍ في عصرِ وفرة الاستهلاك لا يطلبها أحد اليوم سواهم، ورغم وفرة الإنتاج إلا أن سوق البّدو وحده من يلبيها لهم.
ماضي حاضر
يلتبس التاريخ عليّ عندما أسير في سوق البدو، لا شيء اليوم أحتاجه من السوق، فالثورة الصناعية اندلعت منذ مئتي عام، واخترعت آلة طحن القهوة والهيل، لذا لن احتاج “مهباشاً”، كما لن يلزمني “سعن” لخض الحليب ساعات طويلة لطرحِ اللبن الحامض، بعد أن تكفلت الرأسمالية بإيصال أنواع عديدة من مشتقات الحليب إلى السوبر ماركت القريب من منزلي.
قبل مائتي عام وفي التوازي مع ذروة الثورة الصناعية والقطار البخاري في أوروبا، عاشَ سوق البدو أيضاً ذروة أيامه، حمل أسماء عديدة كالسوق السلطاني وسوق معان عندما لم يكن لسكان محافظة معان سوق آخر غيره، استفاد حينها من توهج معان كعقدة وصل على طريق الحج وقوافل التجارة بين الشام وشبه الجزيرة العربية. كان هذا قبل أن تصطف الجمال والخيول والدواب جانباً، مفسحة المجال للسيارات والشاحنات والسفن والطائرات، ليموت الطريق الذي عاشت عليه معان وسوقها مئات السنين.
لحظة دخول السوق، تتغير الرائحة، ليست رائحة الزمن والتاريخ، إنما روائح حجارته القديمة التي تصدر رائحة خفيفة بعد المطر، وروائح العطارة والأعشاب ودخان الهيشي “الدخان العربي”، الذي ينفثه تجار السوق ورواده طوال اليوم، طابعاً على شواربهم لوناً أصفر غلب الشيب، تمتزج هذه الروائح مع رائحة الماشية والأقمشة، أفكر في نفسي، أليست هذه رائحة الزمن والتاريخ؟ ربما هيَ، فمن يجزم أنه شمّها حقاً.
يعتاش السوق اليوم على نوعين متناقضين من الزبائن، السياح الذين قد يمرون صدفة خلال جولتهم بجنوب الأردن، فيشترون قطعاً نحاسية وتراثية للزينة أو التذكار، والبدو القادمين من القرى المجاورة والبادية الشمالية في المملكة، يشترون ما يلزم يومياتهم من دلال القهوة ولوازم صيد وبيوت الشعر وأدوات المطبخ، ليعودوا إلى مضاربهم فور انتهاء تسوقهم، بفضل النوع الثاني استمر السوق وحظيَ بآخر أسمائه “سوق البدو”.
انحصر وقت ذروة نشاط السوق لساعتين فحسب، بين العاشرة والثانية عشرة ظهراً، يزدحم بالبدو القادمين بسياراتهم قديمة الطراز، المتهالكة والمتآكلة، بعضها غير مرخص قانونياً، ولا تحمل لوحات أرقام، تذكرني بالحمير والبغال التي كان الناس يتنقلون عليها قبل وجود السيارات تؤدي وظيفتها في التنقل وحسب، فيما يبدو مشهدهم كأنهم قادمون من ثمانينات القرن الماضي، خصوصاً مع الصور القديمة لملك الأردن الراحل الحسين بن طلال والمعلقة على سياراتهم المحملة بالعلف والماشية ولوازم الصيد.
رمق أخير..؟
لكل تاجر من تجار السوق زبائنه من البدو يعرفهم جيداً، يعرف آبائهم وأنسابهم وعشائرهم، ويذكر قصص الأجيال السابقة، لذا تسيطر “سواليف” الماضي على عملية البيع والشراء، كأن الهدف هو الحديث لا الربح، فتتوالى الأحاديث عن اختلاف الأسعار ما بين الماضي والحاضر، وعن المحلات التي بدأت تغلق أبوابهاً، بعد أن حافظت على حياتها لعشرات السنين.
تطغى الحسرة في أحاديثهم عن المرحوم فلان الذي باع ورثته دكانه بعد مماته أو التاجر الفلاني الذي عجز عن دفع إيجار الدكان بسبب قلة البيع وقلة الإقبال على الشراء، فتختصر أبواب المحال المغلقة في وقت الذروة حال السوق ومستقبله.
ورث معظم التجار محالهم ودكاكينهم عن آبائهم وأجدادهم، ويسعون للحفاظ على توريث أبنائهم المهنة وتعليمهم أصولها، لذا يبدو من المألوف رؤية ثلاثة أجيال متعاقبة يعملون معاً في دكان واحد من الجد فالأب ثم الحفيد يوزعون المهام فيما بينهم ويحافظون على الإرث.
العم أبو ماجد أبو طويلة أحد أقدم التجار في السوق، ووجهه الإعلامي، لم يسبق لوسيلة إعلامية زارت سوق البدو إلا و صورته، إجادته للإنجليزية التي درسها في الجامعة الأميركية في بيروت، جعلته يحظى بلقب شكسبير معان، لكن اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في شبابه منعه من استكمال دراسته، فعاد إلى محل والده في سوق البدو ليدير تجارته، يزيد عمره اليوم عن ثمانين عاماً، يستقبل الزبائن والراغبين بالتصور معه و تصويره في حين ينشغل ابنه يحيى ذو الأربعين عاماً في بيع الزبائن، يرفض أبو ماجد التقاط صورة له دون أن يكون مرتدياً الشماغ، غضب خجلاً عندما التقطت له صورةً دونه أثناء تصويري دكانه.
على عكس شكسبير معان يوجد أبو ناصر كريشان، أحد أهم تجار الماشية على مستوى المحافظة، لا يحب التصوير ولا المقابلات، ولا يكترث لغد السوق بقدر ما يعيش يومه الحالي في العمل فقط، يترك في النفس انطباعا حاداً عن تجارته وانشغاله، يدير تجارته المشبعة بلا شك بسواليف السوق والتاريخ، فيما تعلو مكتبه داخل الدكان صور عديدة ومختلفة لصقور وطيور جارحة نادرة، وعندما سألته عن سبب تواجدها بكثرة في دكانه قال: بأنه يهوى صيد الصقور وتربيتها والاحتفاظ بصورها فالطيور الجارحة زينة البادية.
طريق مزينة بقماش وألوان خيوط
تنعكس حالة الحركة بالسوق، على القماش المفروش على طرقاته لتبدو ساحات عامة، القماش هو أكثر السلع وفرةً في السوق وطلباً، فهو خام بيوت الشعر ورمز ثقافي لجنوب الأردن، فهو دار البدوي، مضافته، ومكان فرحه وحزنه، وبالرغم من أن العديد من البدو سكنوا بيوتاً أسمنتية الآن، إلا أن نصب بيت شعر إلى جانب بيت الأسمنت، أمرُ واجب، لا مفرّ منه.
ينتقي الزبون نوع القماش حسب السعر الذي يمكنه دفعه، ثم يحدد القياس الذي يريده، ليتم تجهيز القماش للخياطة، يبسط بعدها في أرضية السوق أمام المارة، ليستغرق النساجون في خياطته من ثلاث إلى خمس ساعات، معظم النساجين هم عمال مصريون وافدون، إبراهيم الصعيدي مثلاً تعلم حياكة بيوت الشعر في سوق البدو منذ عشرين عاماً وما يزال يعمل فيها حتى الآن.
كأنها حالة نفي
تلقى السوق العديد من الضربات التي تركت أثرها فيه من “سيل معان” عام 1966 عندما تعرضت المدينة لكارثة طبيعية أودت بالكثير من الأرواح حتى آخر ضربة قبل سنتين من الوقت الحالي بعدما تم نقل “مجمع باصات” من طرف سوق البدو إلى قلب مدينة معان، الأمر الذي أضر بالتجارة في السوق. قبل ذلك كان المسافرون يمرون عبر سوق البدو إذا كانوا متجهين إلى المدينة، وهذا بدوره كان يحسن من حركة البيع بطبيعة الحال.
على عكس الأسواق الطبيعية التي تنشط في المساء، ينتهي اليوم بسرعة لدى تجار سوق البدو وتشرع المحال في إغلاق أبوابها قبيل وقت الغذاء، مع عودة البدو المبكرة إلى قراهم البعيدة، وقبل المغيب تعود الحركة إلى السوق بشكل خفيف، زبون ما يمر مصادفةً، إكمال خياطة بيت شعر يجب تسليمه لصاحبه اللحوح في الصباح.
بعد المغيب بقليل، يهبط الليل فتغلق الدكاكين جميعهاً أبوابها وتنعدم الحركة، ويعود سوق البدو شارعاً معتماً فارغاً هامشياً على طرف المدينة ومساحة آمنة للقطط المشردة بعيداً عن ضوضاء المدينة، ليبدو سوق البدو منفياً في أقصى المدينة المنسية، يحاكي حال زبائنه وتجاره، مستعداً لفنائه القريب.