fbpx

على طريق شِكا.. الجميل والمشؤوم والصناعي

تخلص المصنع لدى إقفاله من أطنان الحطام الأسمنتي الأسبستي في شِكا برميها في البحر فأعادها الموج إلى الساحل مع المد، ثم جرى التخلص منها في مكب نفايات غير مؤهل في منطقة حامات، حيث يقع المكب على جرفٍ فوق واحدة من أجمل المناطق السياحية في البلاد
ــــــــ المـكـانــــــــ حالة أرض
إلسي حداد
1 سبتمبر 2022

أول ما يراه المرء عند الصعود إلى شمال لبنان، مساحة مرتفعة بيضاء وضخمة، هذا هو جبل شِكا، المعرّض دائمًا للحرائق والانهيارات، المثير للإعجاب، والبعيد عن أن يكون جميلًا في آن؛ بعد أن جُرّد من طبيعته الأصلية. في إحدى مقالاته كتب روبرت فيسك “جبال لبنان تُمحى من على الخريطة”.

هنا في الشمال، في شِكا والكورة، قصة معقدة عن العدالة البيئية، فيها كل شيء؛ المحاجر، مصانع الإسمنت، القطع الجائر للأشجار، انهيارات على الطرق بسبب تاريخ المقالع العنيف، حرائق في ما تبقى من الغابات، تلوث الهواء، الأمراض التي انتقلت إلى سكّان المنطقة من التلاعب بالهواء وبث السموم فيه.

لجأت إلى “جوجل مابس”، لرسم خريطة لرحلتي، عثرت على بقع بيضاء في المناطق الخضراء وحددت مساري. استيقظت باكرًا في نهار أحد، وغادرت بيت العائلة في كفرشخنا في قضاء زغرتا آخذة طريقي إلى كفرحزير في قضاء الكورة.

بدأت البحث وسؤال أهل المنطقة. وكلما سألت أكثر أصبح الأمر أكثر تعقيدًا، وبدلاً من الفهم، حلّ الالتباس. الكثير من التناقضات والكثير من المعلومات المضللة وطبعًا الخوف. بدأ الناس يطالبونني بتوخي الحذر: لا تتوقفي في الأماكن المهجورة، لا تذهبي إلى هذا المكان أو ذاك. شعرت كما لو أنني أغامر في أرض غريبة ويتوجب عليّ الاستعداد للأسوأ. 

من الواضح أن أولئك الذين يقفون وراء المحاجر والمصانع ليسوا سوى سياسيين وأشباه إقطاعيين ممن يمسكون السلطة في البلاد منذ أمد طويل أو مقربين منهم.

كسارة كفر حزير ومهلة الدمار الشامل

توجهت إلى موقع كسارة كفرحزير، التي كانت فاعلة حتى وقت قريب جدًا. بحسب بيان للجنة كفرحزير البيئية فإن هذه الكسارة “اقتلعت وأهلكت ملايين أشجار الزيتون والتين واللوز، وأدت الى انتشار مرض عين الطاووس الفطري بشكل خطير بعد حفرها مقالع في وسط غابة زيتون الكورة التي حولتها إلى بحيرات ومستنقعات. كما أطلقت مليارات أطنان غازات الاحتباس الحراري، وأدت الى تغيرات مناخية خطيرة إحدى نتائجها فقدان موسم الزيتون واللوزيات والقضاء على زراعات الكورة الصيفية. 

تسببت في انبعاث كميات هائلة من الغبار المجهري والزئبق وسائر المعادن الثقيلة ورماد الفحم الحجري والبترولي المتطاير؛ ما أدى إلى التسبب بمجزرة إبادة سرطانية لشباب الكورة رفاق ومزارعي شجرة الزيتون”. (نوفمبر/تشرين أول 2021).

توقف عمل الكسارة بعد نزاع طويل بين أهل المنطقة والمالك، صراعاتٌ أطلقت عليها الصحف تعبيرات كبيرة من قبيل “مسلسل تدمير الكورة”، “أم الجرائم”، “أهل كفرحزير ينتفضون”. توقفت الكسارة بالفعل لكن مع سنوات عملها الطويلة ما زال منظرها قائمًا، رغم أن الأرض تلعق جروحها، ويظهر ذلك من بعض البقع الخضراء التي بدأت تنمو هنا وهناك.

بالنسبة إلى محجر شِكا، القصة مختلفة تمامًا؛ الضرر لا رجعة فيه. قبل حوالي عشر سنوات، كلفت “هولسيم لبنان” الشركة المالكة أصلًا للمقلع فريق خبراء من المجلس الوطني للبحوث العلمية – لبنان (CNRS) وجمعية الغابات والتنمية والمحافظة (AFDC) تصميم مخطط ترميم بيئي للموقع، يشرف عليه “المكتب الإقليمي لغرب آسيا” ROWA. ولكن الجبل لن ينمو مرة أخرى، الجبال لا تفعل ذلك أبدًا.

رغم ذلك ما زالت الشركة تنشر على موقعها أن مشروع إعادة تأهيل المحجر الذي أطلقته يعمل على “استعادة مساحة 132000 متر مربع في شِكا لتعزيز التنوع البيولوجي واستعادة الغطاء النباتي”.

رغم توقف الكسارات في المنطقة قانونًا، لكن ما حدث فعليًا بحسب لجنة كفرحزير البيئية أن شركتي “الترابة الوطنية”و”هولسيم” حصلتا على مهلة من وزيري البيئة والصناعة، وقامتا بنشر عشرات الشاحنات “معتدية” على أراضٍ زراعية وأخرى للبناء في بلدتي شِكا وبدبهون، بين البيوت السكنية وفوق المياه الجوفية، وبين بساتين الزيتون التي تزيلها، (نشر حساب لجنة كفرحزير البيئية على فيسبوك فيديو بتاريخي 26 و16 آب (أغسطس) 2022 للشاحنات وهي تعمل في المقالع يعلّق فيه الناشط البيئي جورج عيناتي واصفًا المهلة الممنوحة لشركات المقالع بـ “مهلة الدمار الشامل”).

طريق شِكا البحري.. حيث استوطن السرطان

على طريق شِكا البحري أقود سيارتي بطول المنطقة الصناعية. لم آتِ إلى هنا منذ فترة طويلة، لقد نسيت كم هي جميلةٌ هذه المنطقة، لكنها أيضًا مشؤومة وصناعية. ومع ذلك، فإن البلدة الساحلية الصغيرة محفوظة جيدًا، ما أن تدخلها فإنك لا ترى أي شيء خارج عن المألوف فيها. أخالُ أن الناس عاشوا هناك لفترة طويلة لدرجة أنهم لا ينتبهون إلى شكل الإنشاءات الضخمة التي تشبه كائناتٍ فضائيةٍ تحيط بالبلدة. أجسامٌ غريبةٌ تملأ المشهد وتندمج معه بطريقة غريبة.

ذكرني الأمر برحلاتي الأولى إلى الشمال؛ كنت دائمًا مفتونة بهذه المصانع الضخمة، حتى أنني لم ألحظ الواجهة البحرية أبدًا. أوقفت السيارة وبدأت أتجول. قابلتُ عددًا قليلاً من الأشخاص وتحدثنا عن المصانع والتلوث.

علمتُ أنه على الرغم من إغلاق مصنع Eternit في شِكا، مستخرِج الأسبست (الحرير الصخري)، في 2002، بعد أن اشتغل لخمسة عقود، لا يزال خطر هذه المادة المسرطنة يلوح في الأفق على السكان. فبحسب منظمة الصحة العالمية قد يظهر تأثير هذه المادة المسرطنة على الإنسان بعد عشرين عامًا من تعرّضه لها. أما منظمة العمل الدولية فقد حظرت العمل بهذه المادة منذ عام 1986، واضعة استثناءات قليلة محدّدة بشروط صارمة.

تخلص المصنع لدى إقفاله من أطنان الحطام الأسمنتي الأسبستي في شِكا برميها في البحر فأعادها الموج إلى الساحل مع المد، ثم جرى التخلص منها في مكب نفايات غير مؤهل في منطقة حامات (بلدة مجاورة لشِكا في قضاء البترون)، حيث يقع المكب على جرفٍ فوق واحدة من أجمل المناطق السياحية الساحلية في البلاد.

وحين أخذ باحثون، في دراسة نشرت مؤخرًا، عينات من أسطح بيوت شِكا، تبيّن أن معظم أسطح المنازل “في حالة سيئة؛ حيث تم العثور على ألياف السربنتين والأمفيبول (من مكونات الأسبست) في عينات الأسطح؛ وقد تفاقم الخطر الذي تشكله الأسطح السامة بسبب التدهور بعد عقود من التعرض للعوامل الجوية”.

قيل لي إن 700 حالة سرطان موثقة في بلدة شِكا وحدها التي يسكنها 15 ألف نسمة، وعلمتُ أيضًا أن أكبر مصنعي أسمنت أوقفا آلاتهما، ويعملان اليوم فقط بالمخزون الذي يملكانه.

من شِكا إلى مرفأ بيروت

من المفارقات أن تقارير المحققين والخبراء الذين زاروا موقع انفجار مرفأ بيروت في 4 آب (أغسطس) 2020،  أثبتوا أن ألواح الأسقف مصنوعة من الأسمنت الأسبستي وقد كانت موجودة بين الأنقاض والنفايات، وأن ألواح العزل الحراري للأسبست وحشواته كانت موجودة في المستودعات وصوامع الحبوب ومباني الموانئ قبل الانفجار.

ورغم أن من الطبيعي وجود هذه المادة في مباني الموانئ لأنها رخيصة وتقاوم العوامل البيئية، لكن وجودها في الموقع المتفجّر يعني نفث المزيد من السم في الهواء الذي يتنفسه اللبنانيون. على مقربة من موقع انفجار مرفأ بيروت اليوم ثمة يافطة تحذير من منظمة الصحة العالمية كُتب عليها: “نتيجة لعمليات التنظيف بعد انفجار بيروت، قد يكون هناك تراكمٌ للنفايات المحتوية على الأسبست والتي ستشكل خطراً على الناس في البيئة المحلية وأولئك الذين يعيشون على مقربة من المكبّ حيث موقع التخلص النهائي منها”.

لا أستطيع إلا أن أذكر الخبر الذي قرأته وأنا أبحث في أثر الأسبست، ففي قضية تاريخية امتدت من 2012 حتى 2019، بين أخذ ورد ونقض، حكمت محكمة تورين الإيطالية في أيار (مايو) 2019 على الملياردير السويسري ستيفان شميدهايني، المساهم الأكبر السابق في شركة الأسبستوس الإيطالية Eternit Genova (عملت ما بين 1973 وأشهرت إفلاسها في 1989)، بالسجن أربع سنوات بتهمة وفاة عاملين قبل عقود بتأثير التسمم بالأسبست.وحكم عليه بدفع تعويضاتٍ لعائلاتٍ وعمّال آخرين تعرضوا للمادة نفسها. 

يجري الحديث اليوم عن 258 قضية ضد الشركة تطالب بحقوق العمال من ضحاياها. يذكرني هذا الخبر بإجراءات المحاسبة في لبنان، فلا أجد تعليقًا.

مصنع، بحر، مقلع

استدرت واتجهت نحو منطقة الهري، الجانب الجنوبي من شِكا أعلى جبل كفريا، حيث مصنع هولسيم الرئيسي، الذي أنشئ عام 1929. لشرح الحجم الضخم لهذا المصنع، يكفي أن أقول إن الطريق السريع والطريق الساحلي يمرّان عبر مقر المصنع ومعمله ومحطة الكهرباء الخاصة به.

أستمر في القيادة واكتشف كسارةً ضخمةً أخرى لا يمكن رؤيتها من الطريق السريع، تمتد على طول ضهور القبو وشِكا وكفرحزير من الجنوب. لقد دُمِّر جبل آخر.

في العصر، عدت إلى شِكا. تبدو الحياة هادئة في تلك القرية الصغيرة بمنازلها الجميلة المطلة على البحر. الناس ودودون. وصلت إلى الشاطئ العام، إنه نظيف حقًا. حتى رواد الشواطئ يقومون بتعبئة القمامة الخاصة بهم ويحملونها معهم في نهاية اليوم، وفقًا لتعليمات اثنين من حراس الشاطئ المحليين.

لكن المصانع موجودة على مسافة بعيدة.

ترددت على شِكا والكورة والقرى المجاورة أربعة أيام متتالية، شاهدت كسارات الحجر وحفارات الرمل، بعضها مهجور والبعض الآخر ما زال يعمل.

كيف يكون كل هذا ممكنًا؟

في لبنان ثلاث شركات تحتكر صناعة الأسمنت. تتمتع هذه بحماية الدولة ما يجعلها أقوى من الرفض المدني والمنطق الاقتصادي وتتحكم في أسعار السوق، مستفيدة من قرار صدر عام 1993 بمنع استيراد الأسمنت دون إذن مسبق من وزارة الصناعة، وفرض رسوم جمركية عالية. كل ذلك دون التفكير في العواقب الاقتصادية والبيئية والصحية لهذه المصانع.

هناك ما يقدر بنحو 1300 مقلع في لبنان. ولفهم معنى هذا الرقم بصريًا علينا أن ننظر من بعيد إلى بيروت؛ سترى كتلة خرسانية بُنيت من جبال لبنان المأكولة، الجسم يأكل نفسه. وكلّ هذا الإسمنت يقوم على بنية تحتية متهالكة شبه معدومة ومبانٍ وشققٍ شاغرةٍ في كل مكان، بلدنا نفايات خرسانية ليست صالحة للعيش.

معضلة لقمة العيش

رغم كل شيء، لا يُخفي أهل منطقة شِكا والكورة، ممن تحدثت إليهم، امتعاضهم من إغلاق المقالع. كانت هذه توفر فرص عمل لقرابة خمسة آلاف عائلة تعيش على مصانع الإسمنت والمقالع المنتشرة في المنطقة.

يقولون إن رواتبهم كانت جيدة وكانوا يتمتعون وأسرهم بتأمين صحي ومساعدةٍ في تكاليف تعليم الأبناء. أُرسل معظم هؤلاء إلى بيوتهم قبل بضع سنوات، قبل الانهيار الاقتصادي، مع بداية التوجه نحو إغلاق المقالع وربما لأسباب أخرى تتعلق بتقليل النفقات، فوجدوا أنفسهم بلا وظيفة ولا مستقبل يتطلعون إليه.

ليس خافيًا أن أحد الطرق التي تستمر بها المشاريع المدمرة للبيئة في أي مكان من العالم، أنها توفر فرص عمل في مناطق فقيرة، يتسامح العمّال فيها مع الخطر الذي يتعرضون إليه ويتعرض إليه مستقبل عائلاتهم، على المدى القريب أو البعيد، مقابل لحظة راهنة وقصيرة من الأمان الاقتصادي.

قدت سيارتي في جميع أنحاء المنطقة. في كل بقعة ثمة بقايا مصنع، ومصانع قائمة، وخطوط أنابيب والمنشآت الغريبة التصميم. أما المشهد من الطرف الشمالي من البلدة فمختلف؛ يبدو الأمر كما لو أن الزمن قد توقف، حيث متاجر وسيارات تخلى عنها أصحابها، كل شيء مغطى بالغبار الأبيض حول “شركة الترابة الوطنية” الممتدة على طول الطريق حتى البحر. 

كل شيء ألوانه باهتة. بعد بضع دقائق، تهاجم الحكة حلقك وتبدأ في السعال، بينما لافتة على الطريق تودعك، تقول “شكرًا لزيارتك”.