fbpx

صخب وعنف مولدات بغداد

ما أن تنقطع كهرباء الدولة حتى تبدأ أوركسترا عشرات المحركات المنتشرة في كل زقاق، دينامو من الأصوات يهدر بلا رحمة، وهواء يرزح تحت رائحة احتراق ثقيلة صارت جزءًا من هوية المكان. 
ــــــــ حالة أرض
10 مارس 2022

«هل أضع المولّدة في منزلي؟ ماذا ينبغي أن أفعل؟ وضعتها على الرصيف بعد أن وجدت العشرات من أصحاب المولدات يفعلون ذلك». بهدوء وسخرية، وفيما يكنس بعض النفايات ويبعدها عن مكانه ليقوم بتجميعها عند حافة شارع متفرع من أحد الأزقة الشعبية في حي السلام في بغداد، يتحدث محمد الإسكاني، صاحب مولدة أهلية، فيما يلعب صغار الحيّ حول نفاياتها وأبخرتها المنبعثة. 

في رأيه أن “أنسب” مكان لوضعها هو بين الأحياء لضمان خروج الدخان والتلوث إلى الفراغ مباشرة، إذ يبدو أنه يحسب أن الهواء سيقوم بنفسه بمهمة إعادة تدوير التلوث في الجو! وبالطبع، فإن الإسكاني ليس الوحيد الذي وضع أساسات مولدته على هذا النحو لمد الحيّ بالكهرباء عند انقطاع “الحكومية”، بل يعمد الجميع إلى فعل ذلك، فلمدّ الأسلاك الكهربائية من منازل المواطنين إلى المولدة لا بدّ من حصرها بينهم. «لو وُضعت هذه المولدة في منطقة نائية من أجل سلامة الفرد ووقايته فلن تصله الكهرباء بشكل جيد، وسيحتاج إلى عشرات الكيلومترات من الأسلاك التي ستنقطع مع أول عاصفة أو مطر» يبرر الإسكاني. 

لا يخلو كلامه من تهكم المواطن العراقي المشوب بشيء من الحكمة، سمة صقلها العيش في ظل  الكفاف اليومي للخدمات الأساسية؛ هاهو يصف البيئة السليمة والنظيفة بالـ «رفاهية». ففي ظل الانقطاع المستمر للكهرباء الحكومية لا يهم المواطن العراقي إن عاش محاطًا بالتلوث أو الصخب. وهو أصلًا لا يفكر على المدى البعيد بالمشاكل الصحية الجمة التي قد تلاحقه بسببها أكثر مما يفكر في اللحظة، في نسمة رحيمة باردة تنبعث من هواء المبردة (المكيّف)، في بلد تفوق درجة الحرارة فيه صيفًا الـ 50 درجة مئوية. “لا يريد المواطن في تموز (يوليو) سوى هواءً باردًا يحسسه بآدميته ولو عاش وسط النفايات والإزعاج، عن أي ضجيج تتحدثون؟” يختم حديثه ساخرًا. فأتذكر عبارة قرأتها قبل أيام “الشخص الذي يصدر الضجيج بسببه هو الأكثر تصالحًا معه”.

صخب وعنف مولدات بغدادصخب وعنف مولدات بغداد صخب وعنف مولدات بغداد

لماذا نحتاج إلى مولدات؟

بعد حرب الخليج الثانية التي هدّمت البنية التحتية للبلاد، وما سبقها من سنوات الحصار  والتقشف الممتدة، عرف العراقيون زيادة كبيرة في ساعات انقطاع التيار الكهربائي. تفاقمت هذه الانقطاعات واضطردت في العقدين الماضيين، إذ تعرضت الشبكات والمنشآت القديمة أصلًا إلى التخريب والسرقات؛ واستفحلت المعاناة اليومية بسبب النقص الحاد في وصول التيار. بالطبع لا يغيب عن البال الخلفية السياسية لمأساة الكهرباء العراقية، من محاصصات الأحزاب في الداخل أو الاتفاقيات والإشكاليات مع دول الجوار، ولكن هذه مسألة أخرى… 

على أي حال، نعرف اليوم أن وزارة الطاقة في العراق تستطيع توفير 12000 ميجا وات من الكهرباء، بينما تحتاج البلاد إلى 20000 ميجا وات. رقم يشير إلى عجز يصل إلى 8 ميجا وات، يتفاقم هذا العجز في فصل الصيف بحيث لا تغطي الكهرباء الحكومية في وقت الذروة إلا 50% من الاحتياجات الفعلية للمواطنين.

وجدت المؤسسة الرسمية مخرجًا في تشجيع استخدام مولدات في الأحياء وفي تكوين شبكات توزيع محلية جديدة. معظم هذه المولدات تتغذى على وقود الديزل العراقي المعروف بأنه يحتوي على نسبة عالية جدًا من الكبريت. ورغم غياب إحصاءات دقيقة ورسمية لعدد المولدات في العراق، لكن هناك تقارير تشير إلى أن هناك ما بين 55 إلى 80 ألف مولدة، بينما يشير تقرير آخر إلى أن العدد أكبر من ذلك بكثير ويتراوح ما بين 90 إلى 150 ألفًا.

صخب وعنف مولدات بغدادصخب وعنف مولدات بغدادصخب وعنف مولدات بغداد

قصة احتراق واختناق معلن 

أحمل كاميراتي وأنزل لألتقط صورة للمولدة، أقول لنفسي وأنا أراقب مئات القواطع الكهربائية إنها تبدو بريئة، مجرد قواطع حمراء وصفراء صغيرة مثل قطع لعبة الليجو، أما الأسلاك فتظهر في عتمة الليل كما لو كانت أشجارًا متشابكة لم تُشذّب أغصانها. لا لوم على القواطع الملونة ولا الحديقة الصغيرة من الأسلاك ولا هذه الغرفة الرثة المنفّرة بين البيوت خلف ألواح الزينكو المعدنية الوسخة.

العلّة كلها في خزان الوقود، في ماكنة الحرق، في غرفة الاشتعال. سمها ما شئت، ولكن من هنا تخرج الغازات لتستهدف أنفاسنا وأعيننا المتحسسة، من هنا أشعر بالصداع.

فعليًا نحن نستنشق مع الأكسجين خليطًا من المواد العضوية المعقدة، والكبريتات، والغازات الدفيئة، والنترات، وذرات كربون السخام، والرماد، وسمومًا أخرى تعتمد على نوع الوقود وظروف التشغيل بل وتعتمد حتى على كفاءة مراوح المولدة وزيت التشحيم.

كل هذه العناصر والمواد ذات التسميات المعقدة التي لن نحفظها غالبًا هي قائمة من المركبات السامة، لا يكفي أن تنتشر فقط بل إنها تتفاعل في الدرجات الحارة لتصنع المزيد من التعقيدات كأن تكوّن مثلًا ما يعرف بالضباب الكيميائي.

صخب وعنف مولدات بغدادصخب وعنف مولدات بغداد صخب وعنف مولدات بغداد

 

من باب البيت إلى غرفة التحكم أول الحيّ 

كانت فترة عصيبة تلك التي عرفنا فيها كعراقيين ساعات انقطاع امتدت إلى 15 ساعة يوميًا، تزيد وتنقص بحسب المنطقة والحي؛ دعونا لا ننسى أن الانقطاع الكهربائي في جانب منه مسألة طبقية أيضًا، وبالتالي نوع الهواء وجودته مسألة طبقية بالضرورة، وأمراض الحساسية والتنفس هي أمراض طبقية في جانب منها بشكل أو بآخر. 

على العموم، وجد العراقيون في قدوم المولدات الأهلية إنقاذًا لهم، وبدأت مع عام 2004 تنتشر ماكنات صغيرة تستطيع توفير خمسة أمبير كان يشتريها المواطن بنفسه ويضعها أمام بيته أو في مكان قريب من شقته. وما أن تنقطع كهرباء الدولة حتى تبدأ أوركسترا عشرات المحركات المنتشرة في كل زقاق، دينامو من الأصوات يهدر بلا رحمة، وهواء يرزح تحت رائحة احتراق ثقيلة صارت جزءًا من هوية المكان. 

ثم توقف هذا الضجيج الجماعي وتكتّل عند مولدة واحدة أضخم وضعها تاجر عند أول الزقاق على الرصيف تحديدًا. 

تلك الفترة، بدأ استيراد ماكنات توليد كبيرة تعمل بوقود الديزل أو البنزين وتمنح طاقة كهربائية للمنازل بالأمبير، وشيئًا فشيئًا ازدهرت الموتورات وتفشّت في كل مكان. اليوم لا يكفي أي عائلة عراقية أن تسحب أقل من خمسة أمبير، وهذه تتفاوت تكلفتها رغم أنها في كل حال تأكل حصة معتبرة من دخل العائلة.

صخب وعنف مولدات بغدادصخب وعنف مولدات بغداد

ساعات الصخب والعنف: صوت بغداد

راودني الفضول لكنني كبحته، أردت أن أسأل الرجل الخمسيني إن كان يعاني من آلام مبرحة في أحباله الصوتية، تخيلتها متورمة ومحمرّة داخل حنجرته، وماذا عن أذنيه؟ فــ سالم الحسني عاجز أن يتحدث دون أن يصرخ، بعد أن أقيمت قبالة منزله بالضبط مولدة كبيرة تدور لساعات. وبينما تنفث الدخان ويتناثر منها رذاذ الماء الذي يبردها ليخفف عنها سخونة التشغيل لوقت طويل، يهيمن صخبها على كل الأصوات. أما حين يتوقف الموتور فجأة، فإن الجو يبدو غريبًا وصامتًا على نحو علاجي مبهر.

منذ سنوات وهو يجاور المولدة، قبل أيام قرأت أن التعرض للضجيج ثماني ساعات في اليوم لمدة خمسة أيام سوف يقود حتمًا إلى تلف واضح في السمع يتنامى مع الوقت، وشعرت أن الحسني قد يؤكّد المعلومة لي بشكل ما. فأثناء إعدادي هذه القصة المصوّرة وجدت دراسات مستفيضة حول علاقة تلوث الضجيج بفقدان السمع إلى جانب أعراض أخرى مثل تقلصات العضلات وارتفاع ضغط الدم والتوتر العصبي ونوبات الصداع وغيرها من النتائج المثبتة لأثر ضجيج الآلة على الإنسان.

ونحن نفكر في صخب آلاف المولدات لا بد أن نتخيل ما يحيط بها من أصوات أخرى تشكل بمجموعها صوت بغداد؛ زئير السيارات وهدير المحركات ومثاقب الجدران وأعمال البناء..إلخ صوت بغداد هو الصخب التراكمي.

أنظر إلى الحسني، فأراه يبدو مرهقًا مستسلمًا لعنف المولدة، يجلس على دكة ليس بعيدًا عنها. دخل في صراع مع صاحبها وتقدم بالشكاوى لبلدية الحي، يقول تم رشي بعضهم ثم دفعوا له هو شخصيًا: “كنت في وضع هستيري، أدفع 250 ألف دينار (175 دولار) ثمن الأمبيرات الخمس مقابل تعذيبي بالأرق والضجيج، ثم اشتكيت وبعد عشرات المحاولات قالوا إنهم سيمنحوني أمبيرات مجانية مدى الحياة وبما أرغب فيه من كهرباء”. قبل سالم العرض، فلا هو سيرحل من بيته مثلما تأكد له أن جارته ستظل في مكانها حتى وإن لم يكن قانونيًا، إذ يضع التجار المولدات على أراض تعتبر ملكّا عامًا للدولة كالأرصفة والشوارع أو الجزر الوسطية بين شارعين.

صخب وعنف مولدات بغداد صخب وعنف مولدات بغدادصخب وعنف مولدات بغداد

كهرباء اليوم وأمراض المستقبل

اتصلت بعميد المعهد الأمريكي للدراسات البيولوجية حيدر معتز، وسط حديثنا ذكر أن وجود المولدات داخل الأحياء السكنية سيخلق مشاكل صحية لن تظهر نتائجها في الوقت الحالي وأن أمراضنا وأمراض أطفالنا سبقتنا إلى المستقبل. “على الأمد البعيد، سينتج وجود هذه المولدات كثير من الأمراض، ولكافة الكائنات الحية، ومنها ما يؤثر على نمو الأطفال، إضافة لضعف السمع وأمراض القلب والعيون”.

نبهني أيضًا إلى أن الأمر يتعلق أيضًا بأنها لا تخضع لتشغيل أو صيانة من قبل فنيين، “ما يعني أن محركاتها لا تعمل بصورة صحيحة وهذا يصعّب عملية إحراق الوقود، وينتج عنها كميات مضاعفة من غاز أول أوكسيد الكربون ودقائقه التي تنفث في الفضاء الذي هو بالطبع أسطح المنازل وأنوف المارة”.

ليس هذا فقط، بل إن التشغيل المستمر للمولدات، وفقًا لمعتز، سيلوث الغطاء النباتي والتربة جراء تسربات الوقود والزيوت وحتى فضلات إدامة المولدة. أتخيل، بلا مبالغة، عراقيي المستقبل وهم يعيشون تحت سماء سوداء ويمشون على أرض من السخام.

صخب وعنف مولدات بغدادصخب وعنف مولدات بغداد

عاشر أسوأ تلوث

اليوم يعتبر العراق واحدًا من أكثر البلدان الباعثة للغازات الدفيئة، وهو مطالب من قبل المنظمات الدولية بتخفيف هذه الغازات لدورها في مفاقمة الاحتباس الحراري والتغير المناخي، يقول المهندس البيئي علاء عبد الأمير. ثم يلفت إلى أن العراق اليوم ووفقًا لتقرير إحصائي دولي أعده موقع وورلد بوبيوليشن ريفيو العاشر في تلوث الهواء على مستوى العالم لعام 2020، وذكر فيه عدة أسباب من بينها انبعاثات المركبات الغازية والتلوث الناجم عن الحرب ومولدات الطاقة.

يرى عبد الأمير أن هناك أمل في بعض الخطط البديلة التي “قد” تقلل من الضرر، مثل إبعاد المولد أقصى ما يمكن عن المناطق السكنية وتجنب التشغيل في الأماكن الضيقة والمغلقة، ونصب فلاتر خاصة لعوادم المولدات للتقليل من تأثير الغازات الملوثة للبيئة، وتغليف المولدات الكبيرة بغرف مبطنة من الداخل بمواد كاتمة للصوت مع الصيانة والتزييت المستمر. ويرى بضررة نصب مولدات عملاقة صديقة للبيئة تعمل بالنفط الأسود بغية توفير الوقود والتقليل من التلوث.

صخب وعنف مولدات بغداد صخب وعنف مولدات بغداد

الطاقة الشمسية بديل تعترضه القروض

تتساءل دراسة الأكاديمي علي الوكيل المتخصص بالطاقة المتجددة، والمنشورة مؤخرًا حول جدوى أنظمة الألواح الشمسية على الأسطح كمصدر مستدام للطاقة لمساكن العراقيين، والدور الذي يمكن لها أن تلعبه في سد الفجوة بين إمدادات الطاقة الكهربائية المتاحة والطلب. ويشير إلى مشروع تجريبي يتألف من ستة أنظمة كهروضوئية أقيم على الأسطح  في النجف، وقد أثبت جدواه البيئية والاقتصادية، وأنه يقدم بديلاً تنافسيًا لمولدات الديزل المجاورة. 

لكن هذا الحل الحقيقي تقف أمامه معيقات مختلفة، لو تركنا المصالح السياسية منها جانبًا، سنصطدم بكلفة هذه الأنظمة على العراقيين، حيث تبلغ تكلفة النظام الشمسي بقدرة 5 كيلوواط ما بين 3800-4800 دولار أمريكي وتزداد هذه القيمة إذا جرى الشراء من خلال قرض إلى أكثر من ستة آلاف دولار. رغم ذلك يمكن ملاحظة أن عدد منشآت النظام الشمسي على الأسطح في العراق آخذ في الازدياد؛ ولكن ليس لدرجة الاستغناء عن المولدات. 

يقول الوكيل “غالبًا ما يُحجم الناس عن تركيب أنظمة الطاقة الشمسية على الأسطح بسبب ارتفاع تكاليفها الأولية والصيانة خاصة مع الظروف الاقتصادية الحالية غير المستقرة في أعقاب تفشي فيروس كورونا والانخفاض العالمي في أسعار النفط”. ويقترح أن عدم تبنى الحكومة آليات القروض الميسرة لهذا الغرض، وارتفاع أسعار الفائدة للقروض التي تمول أنظمة الطاقة الشمسية المحلية من العوامل الأخرى التي تثبط عمليات تركيبها على نطاق واسع.

صخب وعنف مولدات بغداد

طنين الفوتوغرافيا

لدى عودتي إلى البيت بدأت في تحميل الصور التي التقطتها، كم هي متطابقة! يبني أصحاب المولدات غرفهم بطريقة متماثلة في الأحياء المختلفة. وبينما أقلّب شعرت أن ثمة صوت مزعج، كأن ثمة طنين يخرج من الصورة. عنف بصري عالٍ في قاذورات الوقود وشراسة المعدن ووساخة الأسلاك وطبعات الإعلانات والرسومات البائسة على الألواح. همهمت لنفسي “لا وجود لماكنة صامتة، حتى ولو في الصور!”.

صخب وعنف مولدات بغداد صخب وعنف مولدات بغدادصخب وعنف مولدات بغداد