fbpx

الكهرباء.. حلم لبناني متقطّع

التقطت هذه الصور لعائلتي وأهلي وجيراني وأصدقائي في الأيام العادية، التي تنقطع فيها الكهرباء معظم الوقت.. أخذت الصور في النهار، فما نفتقده لدى انقطاع التيار ليس النور فقط!
ــــــــ المـكـان
إلسي حداد
10 مايو 2022

يقارب والدي على السبعين، لكنه بعيد جدًا عن التقاعد. لديه محل ملابس بالجملة، تقطع الكهرباء معظم دوام العمل، وطبعًا لا يستطع تغيير ساعات عمل موظفيه. يقول “نقضي نصف ساعات العمل بلا كهرباء. الزبائن لا تستطيع رؤية البضاعة بوضوح، فيغادرون”.

بينما أحاول أن أفهم السريالية التي نعيشها في لبنان، سألته مرارًا وتكرارًا “هل كانت الأوضاع أسوأ في الحرب الأهلية أم الآن؟” كان يجيبني بلا تردد “الآن أسوأ. آخر 15 سنة، كانت كل سنة أسوأ من التي قبلها، لم أر في حياتي شيئًا مثل هذا! على الأقل في الحرب كان فيه مع الناس مصاري،. الفساد دائمًا كان موجودًا لكنه اليوم صريح ووقح، صار طريقة لعمل الأشياء؛ على عينك يا تاجر”.

جورج في شركة والدي، يحمل ضوء LED ليتمكن من الرؤية بين أكوام الملابس.

طلب مني صديقي وليد مساعدته في تصوير أعماله التي يعيد تدويرها من اللوحات الاعلانية. وصلت إلى منزله في الوقت، لكن الكهرباء كانت قد انقطعت. أعددنا المجموعة التي سألتقط لها الصور وأجرينا محادثة طويلة حول القهوة في انتظار عودة الضوء.

في بداية الأزمة، كان تقنين إمدادات المولدات الخاصة عشوائيًا في الغالب. مع مرور الوقت، وضع الموردون جداول زمنية حتى ينظم الناس أعمالهم ومواعيدهم.

يعمل زوجي طوني، الكاتب والمخرج، غالبًا من المنزل. هنا يجلس على أريكته بجوار النافذة يقرأ الملاحظات أثناء انقطاع التيار. مع 12 ساعة بلا كهرباء، لا يملك طوني الكثير من الوقت للعمل على الكمبيوتر. تنخفض إنتاجيته وعادة ما يؤجل مواعيد تسليم عمله. ونظرًا لأن لدينا مولد يعمل بأقل من 10 أمبير، فهذه الكمية تكفينا إما لتشغيل الكمبيوتر، أو الغسالة، أو المكنسة الكهربائية!

أعيش في الطابق الخامس. في كثير من الأحيان ينتهي بي الأمر أنا أو زوجي إلى صعود الدرج خمس مرات يوميًا. عددتها، 500 خطوة في كل مرة، أحيانًا قد يكون تمرينًا مفيدًا، لكنه مرهق عند حمل البقالة، وسيئ جدًا عندما نتنفس كل الأدخنة من المولد. ماذا يحدث لرئتينا؟ لم تتوقف ابنتي البالغة من العمر ست سنوات عن البكاء كل يوم لشهرين عندما نعود إلى المنزل ونضطر إلى صعود السلالم. أما جارتي المسنّة، في الطابق السادس، فقد توقفت تمامًا عن الخروج، الكهرباء القليلة المتاحة لا تكفي لتشغيل المصعد.

تولى جاري جوزيف صالون الحلاقة، بعد وفاة والده عام 1981. كان عمره آنذاك 16 عامًا فقط وكان عليه أن يعتني بوالدته وإخوته. قبل أربع سنوات، انتقل إلى “بلونة” مع عائلته المكونة من ثلاثة أفراد على بعد 25 دقيقة من الأشرفية. وكان لديه حافلة صغيرة يستخدمها لنقل الأطفال إلى المدرسة كوظيفة ثانية، ولكن مع إغلاق المدارس خلال كوفيد، فقد مصدر دخله هذا.

اليوم يستغرق الوصول إلى متجره كل يوم بوسائل النقل العام المتاحة حوالي ساعة ونصف. يصل في العاشرة صباحًا، أثناء انقطاع التيار الكهربائي الذي لن يعود قبل منتصف الظهر ويستمر حتى الثالثة. يغادر جوزيف بعد ذلك، وأحيانًا لا يحضر أي زبون خلال هذه الساعات الثلاث. يقول: “أثناء الحرب كنا خائفين من المــــــوت. لكننـــا الآن نخشـــــى الأسوأالخوف من المستقبل، من مصيرنا“.

بائع الخضار القريب منا، اسمه أيضًا جوزيف، لم يعد يحضر الكثير من الخضروات خاصة تلك التي تتلف سريعًا. يحتاج الحفاظ على بقاء الخضار والفاكهة صالحين إلى برودة في الصيف، لكن المولد يتوقف من منتصف الليل حتى السادسة صباحًا ثم ست ساعات أخرى خلال النهار.

تقوم دارين بتدريس علاج النطق في الجامعة اللبنانية منذ عام 2013. تقول إنه كان قسماً قوياً يوفر تدريبًا جيدًا ودعمًا للطلاب. اليوم، بعد أزمة كوفيد والكهرباء، تُقدّم الدروس عبر الإنترنت. وضعت الجامعة مواعيد معظم حصصها أثناء انقطاع التيار الكهربائي. تبدأ في تشغيل اللابتوب الخاص بها حتى تفرغ البطارية، ثم تنتقل إلى هاتفها الذكي، وتستخدم مافيه من الـ 3G، والتي تقوم بتغطيتها من نفقاتها الخاصة. الأمر نفسه ينطبق على طلابها.

فقد النظام التعليمي الكثير من موظفيه. لا يستطيع معظم المعلمين تحمّل تكاليف التدريس، فعليهم برواتبهم الهزيلة تغطية مصاريف الوقود والتنقل. منهم من وجد وظائف في الخارج وترك البلد. أما الطلاب، فيحملون هواجسهم وشكوكهم في مستقبل تعليمهم.

أعرف مروان طحطح منذ 15 عامًا. منذ بداية أزمة الكهرباء، يتجول في شوارع بيروت ليلاً، يوثق بكاميرته بيروت وهي تغرق في العتمة ويلتقط الصور لما تبقى من إضاءات متفرقة هنا وهناك. المدينة، مثل معظم مناطق لبنان، تسقط في ظلام دامس مع حلول الليل.

في كانون الثاني (يناير) 2022، كنت بحاجة لإصلاح إطار سيارتي المثقوب. نزلت إلى كورنيش النهر إلى محل ميكانيكي. لم يكن لدى المالك، نازاريت، كهرباء لإصلاح عجلتي. عدت بعد شهرين لألتقط له صورة، وجدته اشترى بطارية صغيرة  ليتمكن من أداء القليل من الأشغال خلال النهار، فهو لا يستطيع تحمل كلفة إمداد المولدات الخاصة. في اليوم الذي زرته فيه لالتقاط هذه الصورة، كان قد اشتغل بـ 11000 ليرة لبنانية، أي ما يعادل 0.5 دولار.
خمسة أمبير، هي الحد الأدنى للطاقة التي يمكن الحصول عليها من مورّد مولد خاص، والتي تكلف حوالي 50 دولارًا شهريًا، وهو ما كان يعادل 75000 ليرة لبنانية عام 2019، قبل الأزمة. أما اليوم فيعادل 1350000 ليرة لبنانية، آخذة في الارتفاع.

فاروج، يعمل في تنجيد السيارات، اشترى مولداً صغيراً قبل أيام قليلة من زيارتي له. قيّد المولد بالسلاسل حتى لا يسرقه أحد أثناء تواجده بعيدًا. “لن يجرؤ أحد على وضع يده عليه عندما أكون هنا!” قال لي وهو يضحك.
خمسة عشر دقيقة سيرًا على الأقدام من محل فاروج إلى مار مخايل، توقفت عند ميني ماركت وسألته عن حالة الكهرباء. يحصلون في الحي على 12 ساعة من الكهرباء الحكومية في اليوم و12 ساعة من مولد الكهرباء الخاص. هل ذلك لأنهم أقرب إلى الميناء والمنطقة الأكثر تضرراً من الانفجار؟

قبل عشر سنوات، كان محل ألفريد أكبر، منذ خمسين عامًا وهو في نفس المكان في برج حمود، وهو يسكن في الزوق التي تبعد 20 دقيقة شمال بيروت. لكن البلدية أثناء قيامها بتوسيع الشارع اقتطعت جزءًا كبيرًا من المحل الذي يبيع بعض التوابيت ومستلزمات الجنائز وتماثيل وورود للمقابر.
بمشروعها أفسحت البلدية المجال لبناء رصيف، يخبرني كيف تعرض لضغوط للإخلاء لأن طبيعة المحل تبدو غير مناسبة في شارع للتسوق. اليوم، مع زيادة أسعار الكهرباء والوقود، لم يعد ألفريد يرجع إلى بيته، صار ينام في محله وأحيانًا يبيت عند أقارب يسكنون في شارع قريب.

على بعد بنايات قليلة، يجلس أنس أمام محل الجزارة أثناء انقطاع الكهرباء. جاء من سوريا قبل 14 عامًا، قبل الحرب، وفتح محله في برج حمود. كان يبيع خمس أبقار في اليوم للمنطقة كلها. الآن بالكاد يكمل بيع بقرة واحدة، من جهة لم يعد هناك إقبال على الشراء كالسابق، ومن جهة أخرى لا يمكنه المخاطرة بجلب كمية كبيرة خوفًا من تلف اللحوم خلال انقطاع التيار. بدأ أنس اليوم في بيع الدجاج لأنه أرخص والناس تطلبه أكثر. كانت نصيحته لي هي ألا أستسلم، قال “واصلي القيام بعملك لأن هذا هو ما يهم، هكذا يمكننا الاستمرار”.

جاء وليد إلى لبنان من مصر قبل 17 عامًا. عمل لمدة 12 عامًا في مطعم في بعبدا، قبل أن يغير وظيفته ويصبح حارس المبنى الذي يعيش فيه والداي. عمارة من ستة طوابق في ذوق مصبح. يفترض أن وليد هو البواب لكن الأمر ينتهي به إلى فعل كل شيء للمبنى والسكان. التنظيف والتقاط القمامة وإصلاح مشاكل المياه وحتى شراء البقالة للبعض. غالبية السكان في هذه البناية تبلغ أعمارهم 60 عامًا فأكثر، ومعظمهم من النساء، ولا يتردد أحد منهم في الاتصال به عدة مرات في اليوم حتى أثناء انقطاع التيار الكهربائي. يقضي وليد يومه في صعود ونزول ستة طوابق، وما أن يصل الليل حتى يكون قد أنهك تمامًا ويستعد لشوط آخر في اليوم التالي.

قبل الأزمة كانت والدتي تنام باكرًا، اليوم كانت تخبرني أن انقطاعات الكهرباء الطويلة تلعب في مزاجها وتؤثر عليها. ولأنها تأتي في مواعيد قريبة من مواعيد نومها، لم تعد والدتي تنام قبل الواحدة صباحًا، تريد أن تستفيد من كل لحظة تعمل فيها الكهرباء. كان على أمي أن تغير كل شيء، الطبخ والتنظيف والغسيل، تقول أيضًا إن المطبخ معتم في الشتاء، وهذا يصيبها بالإحباط فتترك الطهي وكل شيء وتذهب لتناول القهوة مع جارتها.

انتقلت أختي إلى جورجيا في تشرين الأول (أكتوبر) 2021، عادت في آذار (مارس) لتقديم امتحاناتها في الجامعة اللبنانية، وبعد يومين من وصولها أعلن أساتذة الجامعة إضرابهم، فتأجلت الامتحانات حتى إشعار آخر. حين التقطت لها هذه الصورة كانت الكهرباء مقطوعة وهي تفكر في أنها مضطرة إلى العودة لجورجيا قبل أن يحددوا موعدًا جديدًا للامتحانات.

يظهر ضوء الشتاء القاتم في القرية في شمال لبنان، حيث نزور عائلة زوجي في عطلات نهاية الأسبوع.

أحيانًا تلعب والدة زوجي ووالده الورق أثناء انقطاع التيار الكهربائي، إنها طريقة من طرق تمضية الوقت. تذكرني ألعاب الورق والضوء المنخفض بالحرب والملاجئ.

تشعر ابنتي بالإحباط خاصة في فصل الشتاء عندما يكون الجو غائمًا وقاتمًا ولا يمكننا إنارة البيت. وتحزن وتشعر بخيبة أمل عندما لا تستطيع مشاهدة الرسوم المتحركة بعد المدرسة، أو عندما يتقطّع الاتصال بالإنترنت أثناء الدراسة أونلاين في بعض الأحيان. تحاول ابنتي بالفعل اكتشاف وفهم هذه التفاصيل المعقدة وهي ليست لعبة لطيفة أو سهلة بالمرة لطفلة في السادسة.