fbpx

أرجو أن تكون قد استطعت العبور

نساء ورجال وشيوخ وأطفال يخرجون من هاييتي، يتجهون الى تِيخوانا، أكبر مدينة حدودية، ليبدؤوا الجزء الأهم من رحلتهم وهو: الانتظار والاعداد لعبور الحدود إلى الولايات المتحدة
ــــــــ حدود
1 يوليو 2022

بدأت علاقتي مع العابرين منذ زمن طويل، لأني أعيش في مدينة تِيخوانا، أكبر مدينة حدودية بين المكسيك والولايات المتحدة، وهدف أغلب المهاجرين من كل أنحاء قارتنا الكبيرة.

شعب هاييتي، في الغرب الأقصى من جزيرة لا-اسپانيولا كان أول الشعوب السوداء التي انتفضت ضد تجار العبيد الفرنسيين الذين هيمنوا عليها لمدة قرون واستغلوا ثرواتها الطبيعية والبشرية.. حروب أهلية، انقلابات عسكرية، ديكتاتوريات، حروب مع جمهورية الدومينيكان المجاورة، فساد متجذر، احتلالات خارجية، استحواذ على الأراضي، أعاصير، زلالزل .. هي الأسباب التي دفعت جزء كبير من الشعب الهاييتي لترك هذه الأرض المؤلمة والبحث عن سبل حياة أفضل في جغرافيات بعيدة.

كأن تلك البقعة أصيبت بلعنةٍ لم تتخلص منها حتى يومنا هذا، لعنةٌ لم تأتِ من الأسطورة أو من قوى مظلمة وغامضة، بل نتجت بشكل مباشر عن نظام اقتصادي عالمي يعزز استغلال القوي للضعيف وينشر في دربه البؤس والألم والشقاء.

كان سكان هاييتي في سبعينيات القرن الماضي يتناقلون أسطورة عن خفافيش تمتص دماء الأطفال وهم نيام أو تخطفهم في الليل، صارت الأسطورة حقيقة تعسة، عندما تبين فيما بعد أن الجيش الأمريكي كان يقوم بذلك من أجل عمليات نقل الدم في المشافي الميدانية أو لبيعه في الولايات المتحدة.

نساء ورجال وشيوخ وأطفال يخرجون من هاييتي إلى البرازيل أو الإكوادور أو كولومبيا أو تشيلي.. ومن هناك يتجه من ينجو شمالاً نحو الحدود الكبرى بين المكسيك والولايات المتحدة، وتحديداً الى أكبر مدينة حدودية: تِيخوانا ليبدؤوا الجزء الأهم من رحلتهم وهو: الانتظار والاعداد لعبور الحدود الى الولايات المتحدة.

في السابع من يوليو (تموز) 2021، قُتل الرئيس الهاييتي جوفنيل مويس بمؤامرة دبرها رئيس الوزراء الأسبق الذي تعاقد مع مرتزقة كولومبيين، بعضهم قُتل وبعضهم الآخر ينتظر المحاكمة، ليبدأ فصل جديد من الدرب الشائك الذي تسير فيه البلاد و الذي لا يسمح لها بأدنى درجات الاستقرار.

الحديث عن التدخلات البرازيلية والأمريكية في تاريخ هاييتي سيكون طويلاً جداً. لذلك قررت أن أحكي قصتي شخصين عابرين لمدينتي، تعرفت عليهما خلال استقرارهما المؤقت (الطويل) على الحدود بانتظار جمع النقود اللازمة أو التعرف على المهربين المناسبين، أو تدبر الأمر بأي طريقة أخرى.

بالتأكيد قصة أو اثنين لا تكفي من أجل رواية قصص الجميع، رغم تشابه تفاصيل الحكايات، لكن تبقى كل حكاية فريدة.

أرجو أن تكون قد استطعت العبور

أرجو أن تكون قد استطعت العبور

أرجو أن تكون قد استطعت العبور

يولي.. أمل الوصول

قَدِمَت يولي من پويرتو-پرينثيبِي عاصمة هاييتي عام 2018، بعد أن قطعت ما يقارب نصف أمريكا اللاتينية، بوسائل نقل مختلفة في البر والبحر، ومشياً على الأقدام عبر أدغال غير مأهولة من البرازيل حتى المكسيك، مختبئةً في الكهوف.

من أم هايتية وأب دومينيكانيّ استخدمت يولي حملها لجنسيتين متى كان ذلك ممكناً لتتغلب على مصاعب الطريق والحدود. تركت خلفها ابنتين صغيرتين في جمهورية الدومينيكان.

عليها أن تصل إلى الجانب الآخر من الحدود لتفكر بطريقة لاحضارهما، هناك أيضاً ستلتقي بزوجها وطفلها الصغير اللذين رحلا قبلها، وتأمل في دراسة التمريض. 

تعرفت عليها في مطعم يقدم الماكولات البحرية في منطقة پلاياس في تِيخوانا حيث تنتهي الأحلام وتتكسر. أو حيث يبدأ الوطن أيضاً، بحسب عبارة أصبحت شعاراً للمدينة كان قد أطلقها كلمة الرئيس المكسيكي أدولفو لوبيز ماتيوس أثناء ترشحه للرئاسة عام 1958.

أثناء انتظار فرصة لقطع الحدود تعمل يولي في أحد معامل القطع الالكترونية العديدة في المدينة، تسمى تلك المعامل ماكيلاس وتستقطب كلّ اليد العاملة الرخيصة على طول الحدود، فتستغل أوضاعهم غير القانونية لتفرض عليهم شروطاً غير إنسانية. لا يستريح معظمهم ولا يرون الشمس إلا مرة كلّ أسبوع، ويعملون من طلوع الفجر وحتى ساعات متأخرة من الليل في أماكن بلا نوافذ.

انقطعت أخبار يولي عني فجأة، ولم أعد التقي بها، أرجو أن تكون قد استطاعت العبور وأن تكون الآن بخير مع أطفالها.

أرجو أن تكون قد استطعت العبور

أرجو أن تكون قد استطعت العبور

أرجو أن تكون قد استطعت العبور

أرجو أن تكون قد استطعت العبور

پاسكال.. ضرورة الحكاية

باسكال أوستين، هو حالة خاصة بين من التقيتهم.. هو واحدٌ من 30 ألف هاييتي عبروا أمريكا الجنوبية والوسطى وقدموا إلى تِيخوانا وأصبحوا ينتظرون كغيرهم ..

وصل باسكال إلى المكسيك عام 2016 بعد أن اجتاز 10 دول.. قطع طريقه بوسائل مختلفة، كالمشي على الطرقات وبين الأدغال وركوب القوارب الصغيرة، ناور واختبأ من عيون قطاع الطرق وحراس الحدود واللصوص.

وصل إلى تيخوانا في ديسمبر (كانون أول) 2016 تماماً مع دخول قانون الهجرة الجديد حيز التنفيذ.. لا حماية أو لجوء بعد الآن للقادمين من هاييتي، فلم يجد حلاً إلا الانضمام إلى جموع المنتظرين.

تعرفت عليه خلال حفل تقديم كتاب “الناجون: مواطنون من العالم“، وكان أول كتبه حيث يحكي رحلته من هاييتي الى المكسيك. علمت فيما بعد أنه منذ وصوله اهتم بأوضاع أقرانه المهاجرين وساعد الكثيرين، وأنه عمل مع المنظمات المكسيكية التي تهتم بأوضاع المهاجرين، هناك تعرف على زوجته المكسيكية التي ستصبح أم ابنه، ثم شجعه أصدقاؤه أن يكتب عن رحلته.

پاسكال ذو طفولة مضطربة، عاش أغلبها مع جدته بسبب مشاكل أبويه، وكان يدرس الحقوق. ترك البلاد بعد ثلاث سنوات من موت جدته وانسداد السبل أمامه وأمام غالبية الشعب بعد زلزال 2010 المدمر الذي قتل 270 ألف شخص وترك 80% من السكان تحت خط الفقر.

قرر باسكال الرحيل إلى البرازيل حيث كانت فرص العمل وفيرة في خضم استعداد البلاد لمونديال كأس العالم 2014 وبعدها أولمبياد 2016، لكن حين انتهت الأحداث الرياضة، دخلت البرازيل في أزمة وفاض سوق العمل باليد الأجنبية، فاتجهت أنظار المهاجرين الهاييتيين إلى الولايات المتحدة التي كانت تمنح تأشيرات”حماية إنسانية” في ذلك الوقت. لم يدم الأمل طويلاً، فإدارة باراك أوباما شددت سياسات الهجرة حيال هاييتي ومنعت الغالبية من العبور. 

في آخر مرة التقيت به، قال لي إنه يتجهز لعبور الحدود وإنه سيكتب لي من الجانب الآخر..

بعد عدة أسابيع وصلتني رسالة منه يقول فيها إنه الآن في فلوريدا مع الجالية الهاييتية التي ضربت جذورها هناك خلال عقود .. كتب أيضاً: ” كانت رحلة قاسية، ومليئة بالجوع والعنف والموت، سقط أصدقاء أثناء الرحلة ولم أعد أعرف عنهم شيئاً، كانت رحلة من أجل الحياة، لكني لن أفعلها ثانية، ساعدتني الكتابة على تجاوز محنتي، وأدركتُ أن الأهم هو أن يصل صوتنا. أظن أن واجب كل مهاجر هو حكاية قصته فقط، علينا أن نحكي قصتنا، نحن الباحثون عن فرصة أخرى في هذا العالم. لا ينتصر في معارك الحياة من هم أكثر قوة أو سرعة، بل أولئك الذين لا يستسلمون أبداً ..”.

أرجو أن تكون قد استطعت العبور

أرجو أن تكون قد استطعت العبور

أرجو أن تكون قد استطعت العبور

أرجو أن تكون قد استطعت العبور