fbpx

بالأمس فقط

على سريرهما، فرش جدي ثوبًا لجدتي بجانب بُرنُسه، ووضع إطارًا يضم صورةً لهما.. ترك الثياب على حالها، ولمدة سنتين لم ينم على السرير.
ــــــــ البيتــــــــ تقدمـ العمـر
6 أكتوبر 2022

توفّيت جدتي في ليلة صيف، على الرابعة صباحًا في مستشفى بالضاحية الشرقية للعاصمة الجزائر. كانت تلك أول مرة أشاهد فيها والدي يبكي. باغتنا موتها ولم نتمكّن من توديعها. كان عمري 25 عامًا. ربع قرنٍ قضيته قريبةً منها ومن حكاياتها. 

خلال اليومين التّاليين، جاءت وجوهٌ وذهبت، أقارب وأصدقاء وجيران.. كل من عرفوا العائلة وجدتي بشكل خاص.. ثم.. غادر الجميع، واحدًا تلو الآخر.

بعد 56 عامًا من الزواج، هي عمر استقلال الجزائر وقت ماتت جدتي، بدا جدي كمن فقد معالمه. حاول بعدها إيجاد توازنٍ وطريقةً كي يقف على قدميه من جديد.. إلّا أنه كان يتقدم في حِداده هذا وحيدًا. صارت الدار باهتةً بالنسبة إليه، دون رائحة وحضور جدتي.

بعد بضعة أيام من موتها، أخرج جدي من الثلاجة قطعة لحمٍ كنّا قد حضرناها لوجبتها التي نحملها لها في المستشفى. وضعها في علبةٍ زجاجية مع قليلٍ من الملح، وكتب بالفرنسية على ورقةٍ ألصقها على العلبة “الحاجّة بن يمينة باية” وتحتها تاريخ الوفاة ونصًا صغيرًا يقول بأنها كانت ستكون آخر وجباتها.

على سريرهما فرش ثوبًا لها بجانب بُرنُسه، ووضع عليهما إطارًا يضم صورةً لهما.. ترك الثياب على حالها، ولمدة سنتين لم ينم على السرير. واصل جدي الاعتناء بأزهار جدتي ونباتاتها، وواظب طيلة الأسابيع التي تلت موتها على زيارة قبرها كل يوم حتى يحكي لها نهاره. 

كأنّ الحِداد يغلّف الأشياء والمشاعر كلها بالملح، مثل قطعة اللحم، لتبقى على حالها أطول مدة ممكنة. تتبّعتُ حركات جدي وسكناته في الدار التي عاشا فيها، وحيث كبرتُ أنا. هناك كنتُ ألعبُ وأقضي يومي ثم أنام بينهما.

لو سُئِلتُ عن أكثر الأيام سعادةًَ في ذاكرتي فستكون تلك الأيام تحديدًا، حين كنت أدفن وجهي في صدر جدتي كل ليلة وأسمع صوتها يقول “كان يا ما كان..”.

مثل جدي حاولت مصارعة الوقت الذي يمضي، أثبّته من خلف العدسة.. خيارُ الأسود والأبيض جاء بشكلٍ عفوي. ليس فقط لأني كنت أصوّر وقائع حدادٍ في العائلة، بل لأنّ التباين بين اللونين يسمح لي بإظهار كل التفاصيل التي في الصور.. تفاصيل حياةٍ كاملة، هذه الحياة التي شعرتُ أنها ماضٍ مُستمر..

والأبيض والأسود هو أيضًا لونُ صور جدّتي وجدي الأولى في شبابهما، وباستعمال نفس الألوان كنت أواصل رواية قصتهما حتى في غيابها هي.