fbpx

بيت لقمة العيش المؤقت

لست في المنزل، هذه معيشة مؤقتة وإن طالت، أتعامل مع المكان كبضعة جمادات، لكن الجماد نفسه يختلف إن كان في منزلك
ــــــــ البيت
15 يناير 2021

تضيق الأرض على اتساعها أحيانًا كثيرة، وتفرض على الكثيرين الرحيل، بحثًا عن لقمة العيش، جمال حسن ابن محافظة الأقصر (جنوب مصر) كان واحد من هؤلاء، قطع رحلة طويلة ومازلت مستمرة، سعيًا إلى لقمة عيش كافية، بدأت بسفره إلى العراق للعمل كمقاول، ومنها إلى فرنسا لجني العنب، ثم إلى تركيا للتجارة، قبل عودة أخيرة إلى مصر للعمل في السياحة، القطاع الذي تأثر لعوامل أمنية واقتصادية، اضطرته في النهاية إلى محطة جديدة يتمنى أن تكون الأخيرة، حيث يعمل حارسًا لعقار في أحد أحياء مصر الراقية.

خلال رحلته تلك، عاش جمال (56 سنة) داخل منازل مختلفة، وجدران تتماهى مع طبيعة المجتمع الذي يستقر فيه، لكنه اختار أن يكون منزله الأحدث بلا جدران، حيث يفضل الحاصل على دبلوم صنايع، المعيشة خارج المساحة الضيقة المخصصة له في أحد العقارات قيد الإنشاء، بحي المهندسين. حجارة من فوقها ألواح من الخشب، عليها فراش صغير، كانت كافية له، ليقضي أغلب وقته على رصيف العقار، في الهواء الطلق.

«حيثما كانت الأسرة كان البيت، وما دون ذلك فهي جدران صماء».. بهذه الكلمات يصف جمال مفهوم البيت من وجهة نظره. عاش في شبابه غربة في دولة العراق، بعيدًا عن أسرته التي ولد فيها، لكن الصحبة التي كانت معه هونت عليه الأمر.

في فرنسا ابتعد عن صحبته التي كونها عبر بضعة سنوات، لينضم إلى مجموعة جديدة تجني ثمار العنب، يضيف لهم من خبرته بعض ما تعلم في التشييد والبناء، ويضيفون إلى خبرته صناعة الطعام وتجهيزه، وبرحيله إلى تركيا للعمل في التجارة، شعر جمال أن شبابه ينقضي سريعا في الغربة، ليقرر العودة إلى مصر: «في العراق كنت أشعر بالغربة، لكنها لم تكن كما شعرت في فرنسا وتركيا، حين يأتي الليل ونستقر جميعا في الغرف، كنت أجد بعض الود مع رفقتي بالعراق، وهو ما لم أشعر به في فرنسا أو تركيا».

جمع ابن الصعيد على مدار رحلته تلك نقودًا. فقرر أن ييني بيتًا في الأقصر، وأن يتزوج، وفي تلك الفترة من ثمانينيات القرن الماضي، كانت السياحة في مصر تؤتي أكلها لمن عمل بها، فسافر إلى الغردقة وشرم الشيخ، المدينتين السياحيتين للعمل بهما، وكان يعود إلى أسرته بعد كل شهر أسبوعًا: «قبل غربتي الأولى، لم يكن لدي مفهوم واضح بشأن البيت، أو المنزل، لكن بتجربة السفر أدركت أن البيت لا يكون إلا بالأهل».

يحكي الرجل وهو يجلس أمام العقار يمسح عن بعض الزجاج الملون ما علق به من تراب، على أمل أن يصنع منه عقدًا طويلا يزين به مكان جلوسه: «هذه محاولات لتقليل الشعور بالغربة ليس أكثر، لكنها لا تجدي، وإن كانت تدفع الوقت شيئا ما».

غرفة جمال ضيقة تسبب له الضجر، ومن ثم كان الهروب للخارج أمرًا لا مفر منه: «هنا أجهز الطعام، أغير الملابس، أخبئ أشيائي الثمينة، لكن النوم هنا أو تمضية الوقت أمر غير مريح، وسيزيد شعوري بالغربة، أما في الخارج فأرى المارة، وأتعامل مع آخرين، وأشعر ببعض الحياة».

يحتفظ في الداخل بأثقال صنعها بنفسه، يتمرن بها كل صباح: «أنا صاحب مزاج، وليس لأني أعيش في مثل هكذا مكان ألا أهتم به، في النهاية أنا من يسكن هنا» يقولها قبل أن تقترب سيارة من المكان فيفسح لها مكانًا بين عربات أخرى، فإلى جانب عمله كحارس عقار، يؤدي الرجل مهام الـ«سايس» علّ جنيهات أخرى تدخل إلى جيبه، فيوفر لأسرته معيشة كريمة: «السياحة أصابها تدهور كبير منذ سنوات وفشلت في العثور على عمل حتى اقترح علي أحد أقاربي ذلك العمل، فوافقت على الفور».

حراسة العقار وفقا لجمال أمر سهل، لكن الوحدة التي يعيشها في المكان صعبة، يعرفه الجميع ويحترمونه ويقدرونه، لكنهم لا يعيشون معه، ولا يتجاذبون أطراف الحديث، أو يسهرون سويًا في الليل، إلا بضعة أشخاص يعملون في مثل مهنته، يزورنه ليلًا، ويتسامرون ويمتد بهم الحديث في أمور شتى من ضمنها العائلة والبيت: «لدي 4 أولاد وبنتين، أصغرهم قصي، أشتاق إليه كثيرًا، وأحدثه عبر الهاتف وأطلب منه أن يهتم بتعليمه، ولا أعود إلى المنزل إلا بعد كل شهرين من العمل هنا».

يمضي وقته بتصفح مواقع التواصل الاجتماعي وعلى رأسها موقع «فيس بوك»، من خلاله يعرف ما يدور حوله، وما يحدث في محافظته، وما وصل إليه رفاقه ممن عاش معهم في العراق وفرنسا وتركيا، لكن مواقع التواصل تلك لا تغني عن جلسة في بيته وإلى جواره أولاده وزوجته: «العمل هنا جيد، راتبي الشهري يكفيني وأسرتي، لكن شيئًا لا يعوض غيابك عن أسرتك. هنا أنا لست في المنزل، هذه معيشة مؤقتة وإن طالت، أتعامل مع المكان باعتباره بضعة جمادات، لكن الجماد نفسه يختلف إن كان في منزلك أو بيتك، فتعتقد أن فيه روحًا وأنه بضعة منك وينتمي إليك، ولذلك أشعر بالغربة وأنا هنا».

بعد أن يتم الرجل شهرين من العمل في العقار، يستعد للعودة إلى أسرته، يحمل سريره ومتعلقاته من الشارع، ويضعها في الغرفة المخصصة له في الداخل، يحمل حقائبه التي يرتبها بعناية، واضعها فيها ملابسه التي تحتاج إلى غسيل وكي، ومتعلقاته الشخصية، ولا ينسى أن يشتري لزوجته هدية، ولأولاده الحلوى، ثم يعود إلى الأقصر حيث بيته الحقيقي، والذي يشعر فيه بالطمأنينة والهدوء، بعيدًا عن صخب حي المهندسين وأصوات السيارات، وشجار المارة، وطلبات العمل المتكررة: «هذه رحلة لبيت حقيقي أملكه، وأسرة حقيقية أنا ربها، أما حياة العقار الشاهق الذي لا أملك فيه حجرا واحدا، في حياة مؤقتة، ومعيشة ضيقة، وسكن مضطر إليه». يرحل جمال وهو يدندن في طريقه أغنية لمحمد منير تحمل عنوان.. “طعم البيوت”.

 

بيت لقمة العيش المؤقت

بيت لقمة العيش المؤقت

بيت لقمة العيش المؤقت

بيت لقمة العيش المؤقت

بيت لقمة العيش المؤقت

بيت لقمة العيش المؤقت

بيت لقمة العيش المؤقت

بيت لقمة العيش المؤقت

بيت لقمة العيش المؤقت

بيت لقمة العيش المؤقت

بيت لقمة العيش المؤقت

بيت لقمة العيش المؤقت

بيت لقمة العيش المؤقت

بيت لقمة العيش المؤقت

بيت لقمة العيش المؤقت

بيت لقمة العيش المؤقت

بيت لقمة العيش المؤقت

بيت لقمة العيش المؤقت

بيت لقمة العيش المؤقت