fbpx

من هنا مرت حرب

التقطت هذه الصور خلال رحلة طويلة في الجزائر، والـ 4500 كلم التي قطعتها تشهد على شساعة هذه البلاد، ولكنها تشهد أيضا على حجم الخراب التي تعرضت له.
ــــــــ استقلالــــــــ ماضي مستمر
فتحي صحراوي
14 فبراير 2022

لم أتخيل يوماً أني سأصور “مناظراً” من دون بشر.. بل وبالتحديد مناظر حربٍ، اكتشفتُ فجأةً أنها حاضرةٌ في كل مكان من حولي، نظراً للتاريخ المشحون لبلدي.

تركتْ حرب التحرير الجزائرية (1954-1962) بصمةً لا يمكن تفويتها. يُمكن رؤيتها في خرائب أماكن كانت بعيدةً في السابق، لا تطالها يدٌ ولا عين في هذه الأرض الشاسعة. أما بالنسبة لأماكن أخرى فقد ظلّت المناظر على حالها وقت الحرب، كأنّما جمّدها الزمن والرعب. ورغم أن الطبيعة الصامتة تبدو شبه أزلية ولا يكسر صمتها شيء، إلا أن تواجداً جسدياً في تلك الأماكن يكفي للإحساس بالجو الضاغط والقامع للأحداث التي جرت هناك.

وعند التفكير في الأمر لا يمكننا إلا أن نتساءل.. كيف هو منظر الحرب إذا لم يكن منظراً معتاداً ولكن محملاً بثقل التاريخ؟

التقطتُ هذه الصور خلال رحلةٍ طويلةٍ في الجزائر، والـ 4500 كلم التي قطعتها تشهد على شساعة هذه البلاد، ولكنها تشهد أيضاً على حجم الخراب الذي تعرضت له. امتدت الرحلة من الحدود الجزائرية-التونسية شرقاً إلى وسط البلاد وغربها، الصور هنا تشهد على أنه مهما تنوّع المنظر الجغرافي (جبل، بحر، سهوب، صحراء، عمران..) إلاّ أن بصمة الحرب تُثقِلُه وتوحّده.

لا حدود جغرافية للفظاعة وكل قطعة من هذه الأرض أخذت حصتها. أتمنى فقط أن يجد الناظِرُ إلى هذه الشهادة البصرية تكريماً ومساهمةً متواضعة في ذاكرة حرب لم أعرفها ولكني لا زلت أتأمل آثارها.

 

أوراس

أعود للمرة الثانية إلى المكان الذي بدأ فيه كل شيء، مهد ثورة التحرير، وما زلت أشعر بضرورة اكتشاف السر الذي يُحيط بالمكان.

من هنا مرت حرب

من هنا مرت حرب

مخيم تعضميت

كيف يكون شكل أكبر معسكر اعتقال عرفته الجزائر. اللقاء مع سكان القرية كان رائعاً وثرياً رغم بعد التضاربات في التواريخ والشهادات، ولكني أترك مهمة التحقّق منها للمؤرخين. أعود من هناك محاطاً بطيبة هؤلاء الناس رغم فظاعة ما عاشوه. في المساء، وحيداً في نُزلٍ صغير وبعيداً عن بيتي أبدأ الشعور بثقل أهمية هذه المغامرة الإنسانية.

من هنا مرت حرب

من هنا مرت حرب

من هنا مرت حرب

 

بربجاني

استدعت مناظر الحرب نفسها لوحدها في هذا الفضاء المتوحش والذي يوصف بأنه جنّة، التقيت وصديقي برجلٍ عجوز يعيش بالقرب من المكان، وهو شخصٌ متعلق بتاريخ البلاد؛ وبحركة من يده أشار إلى الثغور التي كان يحتمي بها المجاهدون الجزائريون من قصف طائرات العدو.

من هنا مرت حرب

من هنا مرت حرب

 

مزرعة نيغو

في الطريق نحو هذا المكان فهمت بأن وطأته ستكون أكبر، وأن المسألة ستكون شخصية. مزرعةٌ فلاحية قديمة مملوكة لمُعمّر إسباني، حُوّلت سنة 1956 إلى مركز تعذيب. سُجن فيها جدّي وعُذِّبَ لمدة عشرة أشهر بين 1958 و 1959. تاركاً خلفه جدتي ووالدي وأخته. عادت الحقول الزراعية لتحيط بالمزرعة اليوم ولكن الأراضي تحتفظ بآثار الفظائع، أحد الفلاحين أخبرني بأنه شهِد ظهور هيكل عظمي بشري، من التراب، خلال عملية ري.

من هنا مرت حرب

من هنا مرت حرب

من هنا مرت حرب

من هنا مرت حرب

 

مزرعة أمزيان

بعد أشهرٍ من مطاردة الآثار التي تركتها الحرب، شعرتُ أني قد أكون جاهزاً -ولو قليلاً- لمواجهة مركز تعذيب آخر، ولكن مزرعة أمزيان أثبتت لي العكس، أبداً لا يمكن أن نكون جاهزين لمواجهة مكانٍ مماثل. مزرعة؟ لا، ليست كذلك، بل هي اليوم دغلٌ عُمراني. جزءٌ كبير من البناية الضخمة التي ضمّت مركز التعذيب هي اليوم متروكة ومهجورة وتوحي بالخراب الذي يكشف وجه المكان الحقيقي. كل من سكنوا المكان بعد الاستقلال هُجّروا نحو أماكن أخرى في ضاحية مدينة قسنطينة، شرق البلاد. ولكن الجدران ما تزال واقفة وعليها الآثار التي غذّت مخيلتي.

من هنا مرت حرب

من هنا مرت حرب

من هنا مرت حرب

 

خط شال

أول مرة تعرّفت على خط “شال” كان في كتاب التاريخ المدرسي، بعد سنوات ها أنا أقف في المكان الذي كان يعبره ذلك الجدار الكهربائي، أمام لافتة تحيي ذكرى شهداء “معركة الموحّد” سنة 1956. بالقرب من الحدود التونسية، يخبرني مرافقي بأن سكان المنطقة يسمعون، كل سنة، عن أن أحد الرعاة قد جرح أو مات فوق لغم من الألغام “المنسية” في المنطقة.

من هنا مرت حرب

 

ديار المحصول

“حي الوعد المُحقق”، حي في أعالي العاصمة الجزائر يقطعه شارعٌ في الوسط، جهة للأوروبيين والثانية للجزائريين. ورغم أن الحي صار بمجمله للجزائريين بعد الاستقلال إلا أننا نلاحظ آثار الفصل العنصري. في الجهة الجنوبية بُنيت العمارات تحت مستوى الطريق كأنما في حفرة، الجو عدواني في الأزقة، والجدران كالحةٌ والسكان يتكوّمون كأنّما في أقفاص غير مريحة. في حين أن الجزء المقابل، الشمالي، اسمه “الكونفور” أي “الراحة”، بني فوق مستوى الطريق ويُطل على خليج العاصمة وتصميمه أكثر رحابة. أفكر في كل أشكال التفرقة والاستعمار وكيف لعبت الهندسة المعمارية دوراً في ذلك.

من هنا مرت حرب

من هنا مرت حرب

من هنا مرت حرب

من هنا مرت حرب

 

بني شقران

فزاعات! لطالما فتنتي هذه المانكينات، وتفاجأت بوجودها هنا، هل تمثل اليوم أطياف العائلات البائسة التي هجّرها جيش الاستعمار؟

من هنا مرت حرب

من هنا مرت حرب

 

شايب دراع

تحمل القرية اسم شهيدٍ رماه جيش الاستعمار من مروحية خلال حرب التحرير. أتيت إلى هنا للقاء الأخ الأصغر للشهيد، ولكن اللقاء لم يتم مثلما أردت، تعطّل الحديث بيننا. فذهبت لزيارة مقبرة القرية، التقطت بعض الصور وعدت إلى الطريق. الحرب عبثية، وكذلك الحياة في بعض المرات.

من هنا مرت حرب

 

المناور

نقطة زبرايسكي خاصتي! أتيت إلى التصوير حباً في السينما، ولم أستطع منع نفسي من مقارنة المناظر القمرية للمناور مع تلك التي صورها ميكل آنجلو أنطونيوني في فيلمه: زبرايسكي بوينت. كانت هذه المنطقة الجبلية الجذابة، والقريبة من منزلي بمدينة معسكر غرب البلاد، مسرحاً لمعركةٍ ضارية بين قوات الجيش الفرنسي والمجاهدين الجزائريين، وانتهت بانتصار الجزائريين رغم قلة العدد وعدم تساوي الأسلحة.

من هنا مرت حرب

من هنا مرت حرب

من هنا مرت حرب

من هنا مرت حرب

من هنا مرت حرب

من هنا مرت حرب

من هنا مرت حرب

من هنا مرت حرب

 

التّين الشوكي

كنت قد علمت خلال عملي على مشاريع سابقة أن هذه الشجرة التي تزيّن العديد من القرى الجزائرية استُعمِلت كأداة تعذيب من طرف الجيش الفرنسي، وعادت إليّ ذكرى سماع بودكاست في إذاعة فرنسا الثقافية بخصوص الموضوع. والحاج أكّد لي هذا عندما زرت قريته المحاطة بالتين الشوكي، وأن الجيش الفرنسي لم يكتف باستعمال الشوك للتعذيب بل رمى جثث الشهداء فوق الأشجار أيضا. بعض الحضور أكّد هذا فيما قال البعض الآخر أن الجيش الفرنسي مارس أفعالاً همجية أكبر من هذه.

من هنا مرت حرب

 

وهران سيدي غالم

آخر محطة في هذه الرحلة، وكذا آخر لقاءٍ برجل قروي. يخبرني بأنه اعتقل مع أخيه -المتوفى منذ سنوات- في هذا المكان، ورغم أن الأحداث تعود لأكثر من ستين عاما، إلا أنه يسردها بذاكرة حية، وهي صفةٌ يشترك فيها كل من شرّفوني بلقائهم خلال رحلتي. كل شيءٍ محفور في ذاكرتهم. آثار حربٍ عانت منها أمةٌ كاملة.

من هنا مرت حرب

من هنا مرت حرب