fbpx

صعوبة الإجابة عن “كيفاش؟”

في جيجل، شرقي الجزائر، يردّد شبابٌ نفس الكلمة في أماكن وأزمنة مختلفة.. كلمة لا تبحث عن جواب لكنها تكشف عن طاقة عالقة
ــــــــ الحركة في المدينةــــــــ جسد
21 يونيو 2022

كلمة “كيفاش” هي كلمة من اللغة العربية، نجدها في لهجات شعوب شمال إفريقيا، ولها نفس معنى  كلمة “كيف”. مثلاً، في جيجل، 330 كم شرق العاصمة الجزائر، تُستخدم كلمة “كيفاش” للسؤال عن حالة الأشياء (“كيف حالك” عندما تقابل شخصًا ما)، أو لمجرد السؤال عن الجديد مثل “واتس آب” في اللهجة الإنجليزية الأمريكية.

أسمع هذه الكلمة كل يوم حتى أن إجابات هذا السؤال هي نفسها دائمًا ومتشابهة..

سؤال: كيفاش؟ | كيفاش؟ | كيفاش؟

جواب: كيفاش! | وماذا عنك؟ | رانا نحومو.

ستلفت هذه الكلمة انتباهك أكثر من الكلمات الأخرى، لدرجة أن الشباب، هنا، يواصلون تكرارها في نفس المحادثة عدة مرات، وستفهم أن من يقول “كيفاش؟” يحاول بطريقة ما العثور على شيء أو أي خبر لمناقشته، عندما ينخفض إيقاع الحديث، يسأل أحدهم: “وكيفاش..”. . كأنما يريد إحياء مواضيع الكلام أو تحرير شيءٍ عالق.

كيفاش هي أيضا قصةٌ من سبعة فصول، يحكي كل فصلٍ قصةً نعيشها في جيجل.. قصّةَ شابٍ من هؤلاء الشباب أو قصة لحظةٍ أو موسمٍ، هي أيضًا قصّة أيام الأسبوع بتواترها وتشابهها وإيقاعها الرتيب كما يليق بمدينة ساحلية متوسطية غافية.. سبعة أيام لا ننتبه لمرورها حتى نصطدم بالجمعة، ذلك اليوم/الحالة الذي يجعلنا نخرج من غيبوبة لندخل في أخرى.

صعوبة الإجابة عن

الزمن صفر: نلتقي كل يوم في هذا المكان، نجلس فوق قطع الكرتون ولا نقوم بشيء تقريبًا. نادرًا ما تجد هذه الزاوية من الشارع خالية، اذهب هناك في أي وقت وستجد على الأقل اثنين أو ثلاثة جالسين.

هل فزنا؟

11 يوليو (تموز) 2019، اكتظاظ أمام ساحة مقهى مكاس، كنت أحاول مشاهدة مباراة المنتخب الوطني في كأس إفريقيا، عندما اقترب مني شاب وقال: “أغلبهم لا علاقة لهم بكرة القدم”.. فأجبته ضاحكا: “ولا أنا.. لكن كيف تشرح كل هذا الجمع والحماس”، قال: “نحن ننتظر أي لحظة للتعبير عن الطاقة العالقة، نترقب اللحظة التي سترمينا في الشوارع لنحتفل ونصرخ. ستجد جموعًا في الملاعب والمظاهرات وحتى في الأعراس من دون دعوة”.

صعوبة الإجابة عن

برونزاج ماصون

بروز آثار حواف القميص على الجلد والتباين بين لون الجلد في المنطقتين: المعرضة للشمس والمغطاة، يعتبر واحدًا من مظاهر الفقر في جيجل، ويسميها الناس “برونزاج ماصون”، والماصون هو البنّاء. لأن البنائين والعمال الذين يتعرضون للشمس خلال الصيف، في حين يستجم بقية الناس على الشاطئ معرضين جسمهم كله للشمس للحصول على برونزاج كامل دون تدرجات.

بالكاد يجد ب وهو طالبٌ جامعي، وقتًا للذهاب إلى الشاطئ خلال الصيف، رغم أن بيته قريب من البحر. وفي أحد الأيام، خلال عمله في ورشة بناء، توقف رجل عجوز بسيارته بالقرب منه وقال بصوت متفاجئ: “الناس لا يرونك أنت وأمثالك تكدون في العمل من أجل القليل من المال، هم ينتبهون فقط إلى أنكم مراهقون بلا فائدة تغنون وترقصون وتجلسون على الرصيف”..

ب طالبٌ في مدينة باتنة، وهي مدينة في أقصى الشرق تقريباً تبعد عن جيجل 240 كلم.. يقضي فصول الدراسة في الإقامة الجامعية هناك، ويعود إلى جيجل في العطل حيث يقضي وقته في العمل كي يصرف على نفسه، بما أن المنحة الجامعية الفصلية شحيحة (20 دولار أمريكي) ومساعدات والديه موسمية وغير منتظمة ولا تستطيع تغطية متطلباته.

صعوبة الإجابة عن

 

صعوبة الإجابة عن

بومارشي، أحد الشواطئ القريبة من مسكن ب

رمضان

ميم شاب في منتصف العشرينات، بدأ تعاطي المخدرات منذ ثماني سنوات. والآن هو عاجز عن بدء يومه دون حبّة برغابالين أو ترامادول، ولا يستطيع النوم ليلاً دون تدخين سيجارتي زطلة.. يستيقظ أغلب الوقت في منتصف النهار، ويخرج لقضاء مشوار شراء المخدرات. سوق المخدرات غير ثابت فلا المكان ولا الديلر ثابتان. في بعض المرات لا توجد مخدرات والديلر الحاضر اليوم قد يكون غائبًا غدًا، وهذا ما يجعل عملية الشراء تستغرق ساعات من التنقل في بعض المرات.. ميم والكثيرون مثله مجبرون على حجر منزلي سنوي يمتد لثلاثين يومًا: شهر رمضان. وحتى يصوم ميم بشكل سليم يُجبر نفسه على عدم أخذ أي مخدرات مما يسبب له اضطرابات ونوبات هلع فيبقى في البيت طيلة الشهر ويتفادى رؤية الناس.. يصوم مهما كلف الثمن.

صعوبة الإجابة عن

 

صعوبة الإجابة عن

تمشية صامتة، ذهابًا وإيابًا

 

صعوبة الإجابة عن

روتين كل يوم: ميم والأصحاب

إغلاق ولكن

عندما انتشر فيروس كوفيد-19، حل الرعب، وتوقفت كل النشاطات وظل الجميع في البيت. لكن حي este (سُمي على اسم شركة البناء التي شيّدته) ظل مكتظًا بالشباب كأن الحياة تتواصل بشكل عادي تقريبا، وكان البقاء في البيت بالنسبة لهم أكثر مللًا وإزعاجًا من التقاط الفيروس. بعضهم من الحي وآخرون جاؤوا من خارجه. ظروف معيشتهم متقاربة؛ وجد الغرباء أحياءهم فارغة وتحترم الحجر الصحي فاحتموا بهذا الحي.

*

في 26 مارس (آذار) 2020 نظمت السلطات يوماً لتوزيع المواد الغذائية التي قلّت من السوق بسبب توتر سوق القمح مع بداية الوباء وحصول هبّة استهلاكية وهلعٍ في الأسواق. هذا المكان هو ملعبٌ في الأصل، وهناك أربعة أشخاص من أجيال مختلفة يتلصصون عبر السور، حيث توجد شاحنة محمّلة بالقمح والناس أمامها يقفون في طوابير، بينما تُسيّر الشرطة الحشود وتحاول الحفاظ على التباعد الاجتماعي.

*

في يوم صيفي حار، أخذت كاميرتي وذهبت إلى الشاطئ الذي تعوّدت على الذهاب إليه لأن الحراسة فيه كانت ضعيفة، ولكن ما أن وصلت وجدت الناس يغادرون المكان سوى شابٍ واحد (كان من عمري تقريبًا) يجلس على كرسي وسط مرج أخضر يقابل البحر، أخرجت كاميرتي وصوّرت ما رأيت ثم تقدمت نحوه وسألته عمّا يحصل.

كيفاش؟

أجابني: “ما راهمش راح يخلّونا نتنفسو..”، ثم انتبه لكاميرتي: “خبّي الكاميرا خويا، يشوفوك البوليس يدّوهالك”.

قلت له: “الكاميرا صغيرة، ما يشوفوهاش من بعيد”، ثم أضفتُ: “علاش راك قاعد هنا وحدك؟”

قال بصوتٍ غاضب إن حظر التجوال الجديد يبدأ من ساعة مبكرة وهذا لن يمكّنه من استنشاق هواء غير هواء البيت، “تخنقت ف الدار” وتابع قائلًا “هل تعرف أن أغلبيتنا كشباب يتقاسمون الغرفة مع أخوين أو ثلاثة. سأبقى هنا أُطلُّ عليهم حتى يغادرون الشاطئ ثم أنزل إليه”.

صعوبة الإجابة عن

وجد الغرباء أحياءهم فارغة وتحترم الحجر الصحي فاحتموا بهذا الحي.

صعوبة الإجابة عن

أربعة أشخاص من أجيال مختلفة يتلصصون عبر السور

 

صعوبة الإجابة عن

 

صعوبة الإجابة عن

بوحنش: واحدة من أعلى غابات جيجل وأبعد نقطة عن المدينة. قد يُعتبر هذا المكان مخيفًا بالنسبة للكثير منّا، بسبب تاريخه المرتبط بالحرب الأهلية في التسعينات. تعوّدت على الذهاب إلى هناك مع أصدقائي حتى أكون بعيدًا عن البيت خلال تكدسّنا فيه بسبب الحجر الصحي.

 

صعوبة الإجابة عن

مساحة الخصوصية الوحيدة في غرفة يتقاسمها أربعة إخوة.

علاش رجعت؟

عانى لام، وهو شابٌ موهوب، كثيرًا من التهميش في الجزائر . لذلك قرّر السفر إلى تونس لتجريب حظّه والمشاركة في واحدةً من أكبر الفعاليات المؤهلة لمنافسات الـ “بريك دانس” الدولية، والتي نُظِّمت نهائياتها في إنجلترا. فاز بالمركز الأول ولكنه واجه مشاكلًا عديدة للحصول على الفيزا. لم يتمكن من حضور الحدث ولكن في السنة التي بعدها حصل على فرصة إمضاء عقدٍ عمل من سنتين، للقيام بجولة رقصٍ بين تونس وإنجلترا، وبعد هذه التجربة وانتهاء العقد والفيزا، عاد إلى الوطن وكله طاقة وأمل ليواصل العمل جاهدًا في مجاله داخل بلده وبالقرب من عائلته ومسألة السفر لم تكن مشكلة.. وقتها.

كان يقول “إذا نجحت في بلادي فستأتي إمكانيات السفر والعمل”. لكن الخطط لم تسِر كما رسمها، والآن يُعتبرُ لام بطالًا لأن الفن في الجزائر ليس أولوية والوضع الاجتماعي للفنان ليس مقبولًا أغلب الوقت. رغم كل المشاكل والعراقيل التي يمرّ بها لام في يومه، لازال يتدرّب في الشوارع وفي بعض المرات داخل قاعة عندما تتوفر، وفي أذنيه -دائمًا- نفس الأغنية “آه.. كيفاش! علاش رجعت؟”

صعوبة الإجابة عن

 

صعوبة الإجابة عن

الفن هو المال

أتجادل مع صديقي إ طيلة الوقت حول الفن وماهيته، بوجهات نظرٍ مختلفة. لا تتغيّر وجهة نظري، أؤمن أن الفنان ينتمي لنفسه ولأفكاره ويعطي ما يريد وما يشعر به لجمهوره، محاولًا ترك أثرٍ إيجابي بالدفاع عن فكرة أو قضية.

لكن ما يراه إ، هو أن الفنان ينتمي لجمهوره وعليه أن يُنتج أكثر الأفكار استهلاكية وإلا لن يحبوه ولن يجد طريقه إلى النجاح. ولكنه في بعض الأحيان، صديقي، يتراجع عن وجهة نظره هذه.

كان إ بي بوي (بريك دانسر)، موهوبًا، لكنه لم يحصل على فرصته رغم عمله واجتهاده، والتحكيم السيء في المبارزات ظلمه، وعمومًا جيجل مدينةٌ بعيدة عن العاصمة والفرص فيها شحيحة. بدأ بتجريب نفسه في الراب كحلٍ بديل ليصدِّر طاقته الفنية في مكان آخر، وحاول باجتهاد تغيير الرقصة بالكلمة والإيقاع.

وفوق كل هذا كان عليه أن يتعايش مع الإصابة في ركبتيه، والتي جعلته غير قادرٍ على الرقص. يعيش إ مع إصابته منذ 2018 غير قادرٍ على التكفّل بمصاريف الجراحة. قضى الفترة الأولى من الإصابة يمارس تدريباتٍ خفيفة محاولًا أن يتأقلم مع وضعيته الجديدة، ومُبتكِرًا حركاتٍ ومهاراتٍ لا تشكل خطرا على ركبتيه، لكنه سرعان ما توقف خوفًا من أن يُضاعف إصابته. وما دام غير قادر على “إصلاح” ركبتيه، سيبقى الفن هو الحل دائمًا، لجني المال بالفن ولذلك فالفن.. هو المال.

صعوبة الإجابة عن

يُريني إ إصابته.. نقطة تحوله من “بي بوي” إلى “أم سي”.

 

صعوبة الإجابة عن

إ في الأستوديو.

الجمعة

كل جمعة أشعر أنه يوم الحساب ويجعلني الأمر أستيقظ من غيبوبة الوقت، الجمعة هو عطلة نهاية الأسبوع وهو يومٌ يختلف عن بقية الأيام، هو اليوم الذي يرتاح فيه الجميع وتشطرُ صلاة الجمعة إيقاع اليوم إلى نصفين، وبعدها يأكل الناس في جيجل طبق الكسكس. وعندها نفهم أنّ أسبوعًا آخر قد مرّ بنفس الإيقاع والطريقة.

وأنا، أقفُ دائمًا خلف الكاميرا ومعي الأصحاب، يقفون أمام نافذة العم صالح، الجار العجوز الذي يُطل علينا من وقتٍ لآخر ليشتكي من الإزعاج والضجيج الذي نُحدِثه بجلوسنا تحت بيته كل ليلة ولا ندعه ينام بسلام، ولكنه لا ينسى أبدًا، بعد كل مرّة يشتكي فيها، أن يضيف بتعاطف أنه يعلم بأننا لا نملك شيئًا نفعله ولا أي مكان نذهب إليه وليس بإمكاننا فعل شيء بخصوص هذا.. “ربي يفتحها عليكم يا ولادي”، يقول العم صالح..

من الرصيف، ومن موقعي فوق قطعة الكرتون التي أملكها هي وكاميرتي وبهذه الكلمات، أريد الاعتذار، نيابة عن نفسي وعن كل من يقولون “كيفاش”، للعم صالح وكل الجيران الذين أزعجناهم بطريقةٍ أو بأخرى، بطاقتنا الداخلية التي لم نجد كيف نُخرجها ولا نستعملها.. ولكل عم صالح في كل الأحياء.. ما نحن إلاّ شبابٌ يجد صعوبة في الإجابة على “كيفاش”.

صعوبة الإجابة عن

يوم الحساب

 

صعوبة الإجابة عن

هذا أنا..