fbpx

وادي غزّة.. عجز الصورة عن التقاط نقص الأكسجين

كانت لوادي غزّة حياة أخرى قبل أن تحلّ مياه الصرف الصحي محلّ المياه العذبة التي لطالما تدفقت من جبال الخليل ووادي الشلالة لترتمي في حضنه. لكن السدود لم تنفرد وحدها بمهمة تدمير المكان، بل أيضًا نظام مياه الصرف الذي أنشأته الأونروا
ــــــــ حالة أرض
24 أغسطس 2022

أنا بحاجة إلى سيارة تقلّني إلى وادي غزّة، سأنطلق في رحلة تصوير للمنطقة التي لم يكن بإمكاننا زيارتها بسياراتنا قبل أشهر فقط، حيث كانت النفايات المتراكمة تعيق حركة المركبات فيه. ورغم أن المكان اليوم نظيفٌ نسبيًا، لكن الأمر لم يخلُ من طرقٍ استحال على السيارة أن تدخلها، عند ذلك كنت أنزل وأكمل طريقي مشيًا. 

كنت أرى الوادي دائمًا من بعيد أو من خارجه، لا أعرف شيئًا عن جغرافيته من الداخل، ولم أنزل إليه في رحلات تصوير ولا لأي سبب آخر. فكرت كيف يمكن أن يكون هناك مكانٌ كبيرٌ ومؤثرٌ على مقربة منا ولسبب ما لا نراه، أو لا نكترث لأن نراه، أو لا نحاول أن نراه. ربما لا تتيح لنا تعقيدات الواقع في غزّة أن نرى طبيعة المكان من حولنا باسترخاء وتأمّل. 

طلبت من شخص يعرف الوادي جيدًا مرافقتي كدليل يقودني في الطرق الضيقة والمجهولة. وغالبًا ما أفعل ذلك في كل رحلة تصوير في غزّة، أعرف شخصًا أثق به في كل منطقة؛ رفح، بيت حانون، خان يونس، بيت لاهيا، دائمًا لدي دليل.

استغرق الطريق 45 دقيقة من بيتي إلى الوادي. ذهبت ليومين متتالين؛ في اليوم الأول كان الجو حارًا، فرجعت في مساء اليوم التالي. كان ينبغي أن أذهب في أوقاتٍ مختلفة إذا أردت التقاط الحياة حول الوادي، الرعاةُ عادةً ما يُجهدون المصورين، وينكافونهم ويرفضون أن يلتقط أحدٌ لهم صورة إلا بعد أخذ ورد، أما النساء منهم فلا يمكن التقاط صور لهن على الإطلاق، إلا وهن يدرن ظهرهن للكاميرا. 

الماضي السعيد لوادي غزّة 

حتى نهاية 2021، ولقرابة ثلاثة عقود والوادي يبتلع المياه العادمة، وصلت كمية ما يضخ إليه يوميًا إلى 16 ألف متر مكعب من مياه الصرف الصحي، إلى جانب ما يستقبل من النفايات الصلبة وكذلك نفايات القرى والمخيمات المحيطة. لم يكن الوادي دائمًا هكذا، بل إنه موصوف في التاريخ القديم كمنطقة رطبة خصبة تمثل النظام البيئي الوحيد للأراضي الرطبة في فلسطين. في الماضي القريب أيضًا، كانت مساحة الوادي مغطاة بالأشجار والنباتات والمياه، سُجّل فيها 118 نوعًا من الطيور المحلية و 219 نوعًا من النباتات، من ضمنها أنواعٌ مهددة عالميًا ومتوطنة ونادرة. 

بدأ تدهور وادي غزة في سبعينيات القرن الماضي، عندما أنشأت إسرائيل سدودًا وخزانات حرمته من مياه الأمطار الطبيعية. ومنعت تدفق ما يقرب من 20 مليون متر مكعب من المياه سنويًا إلى تلك الأراضي المنخفضة في القطاع، ونتيجة لذلك، تغير النظام الطبيعي لهذه البقعة.

الوادي اليوم مكانٌ شبه جاف لا يجري فيه الماء إلا مرة أو مرتين في السنة، عندما تكون الخزانات الإسرائيلية ممتلئة أو تحت الصيانة، بحسب تقرير نشرته الوكالة الإيطالية للتعاون الإنمائي. يشير التقرير كذلك إلى أن السلطات الإسرائيلية تفتح السدود فجأة أثناء هطول الأمطار الغزيرة، فتهبط تدفقات مدمرة وعنيفة أقرب إلى فيضانات تسببت في أضرار بالمناطق الزراعية والسكنية في أعوام 1991 و1994 و2010 و2013 و2015.

كانت للوادي حياة أخرى قبل أن تحلّ مياه الصرف الصحي محلّ المياه العذبة التي لطالما تدفقت من جبال الخليل ووادي الشلالة لترتمي في حضنه. لكن السدود لم تنفرد وحدها بمهمة تدمير المكان، بل شاركت الأونروا من خلال نظام مياه الصرف الصحي الذي أنشأته في عام 1974 لتخدم ثلاثة مخيمات للاجئين في المنطقة الوسطى وقد صُمّم النظام لتجميع المياه العادمة من المخيمات وتصريفها إلى وادي غزة. 

أما بلديات المناطق المجاورة فاستغلّت أرض الوادي لحرق النفايات الصلبة، وقام سكان المناطق القريبة أنفسهم الذين لم تصلهم الخدمات (قرابة 400 عائلة) بمدّ خطوط صرف من منازلهم إلى الوادي مباشرة، ليصبح مرتعًا للآفات التي انتقلت إليهم على شكل حساسية وفطريات وطفح جلدي والتهابات وسعال وضيق تنفس، كما تشير دراسات وتحقيقات استقصائية جمّة أجريت حول هذا الموضوع. 

تغيّر الوادي، كما لو أنه أصيب بمرضٍ ما.

المحميّة.. مستقبل وادي غزّة

في فبراير (شباط) الماضي نظّفت خمس بلديات في قطاع غزة (بلديات مخيمي النصيرات والبريج ومناطق المغراقة والزهراء ووادي غزة) مجرى الوادي بانتظار أن تزرع فيه الأشجار بعد أن بدأت المرحلة الأولى من مشروع محميّة طبيعية يشرف على تنفيذه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بتكلفة 66 مليون دولار. 

تمّ التفكير في هذه المنطقة كمحمية لكونها تشكّل زاوية الجسر البري الذي يربط بين قارتي أفريقيا وأوروبا وآسيا ، ما يجعلها عنق الزجاجة الذي يلزم الطيور المهاجرة العبور منه بحسب تقرير على موقع يونسكو التي ينتظر الوادي منذ عام 2012 دوره على لائحتها للتراث العالمي. يعبر من هذا الجسر الطبيعي آلاف من البط، مالك الحزين، اللقلق، النحام، الطيور الجارحة وأنواع أخرى كثيرة متوطّنة من أكثرها شيوعًا طائر الشمس الفلسطيني الذي يوجد على مدار العام في قطاع غزة، والمهدد مثل غيره من الطيور والحيوانات من الصيد الجائر والهجرة من المكان الذي تغيرت طبيعته الأصلية، والذي تأمل المحميّة في أن تعيده إليها. 

يقسم مشروع المحميّة الذي بدأ هذا العام إلى مرحلتين ويستغرق تنفيذه أربع سنوات. وقد موّلت بلجيكا إجراءات تنظيف الموقع التي استمرت أربعة أشهر منذ نهاية فبراير الماضي بميزانية وصلت إلى 1.3 مليون دولار، أزيلت خلالها النفايات الصلبة والخرسانة والحطام، وجرى فتح الطريق وبدأت عملية استصلاح التربة وزرع العديد من الأشجار. وخلال الأشهر القليلة الماضية، سمحت محطة جديدة لمعالجة المياه في وسط غزة بتدفق المياه المعالجة إلى الوادي. أما على المدى البعيد فيسعى المشروع إلى توفير مواقع التخييم والمقاهي لأهل القطاع. 

مفارقات الوادي 

تقلب صديقة الصور التي التقطتها فتقول “صور جميلة؛ المكان والأطفال والأفق”، بينما أنا أفكر في الرائحة، في صورة جميلة لمكان برائحة مروّعة، أفكر في عجز الفوتوغرافيا عن التقاط نقص الأوكسجين.

بينما يتخذ أطفالهم من مساحاته الفارغة ملعبًا، وترعى نساؤهم الأغنام في المسار نفسه منذ أن عرفن الوادي، يستغرب جيران الوادي مني، ماذا أصوّر لساعات وسط هذه الرائحة القاتلة.

التقطت صورة لجسر وادي غزة المقصوف منذ 2014.  ينظر العالم إلى غزة كجسر طبيعي لعبور الطيور المهاجرة. 

تعمل المنظمات الدولية العالمية على حماية موائل الطيور والنباتات في وادي غزة، وتسعى إلى أن يعود الوادي إلى سابق عهده آمنًا لسكنى الطيور وتنوع النباتات.. 

تعمل المنظمات الدولية العالمية على مساعدة الطيور على العبور من غزة اليوم، عنق الزجاجة، بسلام. 

هل ستكون المحميّة مستقبلًا محميّة من القصف والفيضانات التي تتدفق بفعل فاعل؟