fbpx

ما تقوله الواجهات؟

عند التصوير أفضّل عدم مقابلة بنايات وسط الجزائر لأن ذلك سيعطيني واجهاتٍ ثنائية الأبعاد، التصوير على جنب ومن زاوية ضيّقة يخلق بُعدًا ثالثًا لواجهات البنايات.. وقد يخبرنا ذلك بشيء ما.
ليلى عبد اللاني
8 فبراير 2022

تسكّع: (ف) مشى وتجول عبثًا، من غير وجهة.

أسكن وسط مدينة الجزائر ولكني تعرفت على المكان، ولا زلت، خلال جولات تسكّع أختلسُها نهاية يوم دراسيّ شاق، أو في زيارات ميدانية لمادةالورشة، التي أدرسها بالمدرسةمتعددة العلوم للهندسة المعمارية والعمران“.

توجهت لهذه الكلية بعد سنتين من التصوير الهاوي، بدأت في سن الـ 17، بكاميرا الهاتف. في بداية الأمر كان انتباهي مشتّتًا التقطت فيه كل ما وقعت عيني عليه في وسط المدينة، إلى أن وجّهت هذا الانتباه إلى المكان نفسه، والبنايات بشكل خاص.

لازلتُ أمتلك تلك العادة القديمة والتي تدفعني للتمشّي في شوارع لا أعرف اسمها قبل ولوجها، أدخلها من دون تخطيط مسبق عمّا سألتقطه. أجنحُ في سيري وأدخل في زُقاق لأخرج في حي لم أدخله من قبل.

لكن مع مرور الوقت، لاحظت أنني أنسج ما يشبه خريطةً أو صورة ذهنية لهذه المدينة بكل ما فيها من جدران وطرق ونوافذ وأقواس ودرج وساحات.. فسيفساءٌ من التفاصيل. أُغذّيها وأُضيف عليها قطعةً أو اِثنتين في كل مرة أخرج فيها. مشروعٌ قديم مستمر لرسم هذه الخريطة.. قد لا ينتهي أبدًا.

يغيب عن هذه الفسيفساء التي أشكّلها، بشكلٍ شبه تام، العنصر البشري. وإذا حضر، فلا يكون ذلك بطريقة مباشرة. فلطالما وجدت أن تصوير الناس في الشارع يتطلب شيئًا من المواجهة والتهجم، كأنني وفي كل محاولةٍ أنتهك خصوصيتهم ومسافتهم الشخصية، رغم تواجدنا كلنا في مكان عمومي، لكن أيضًا -وبتنحية الناس من الصور- ركزت أكثر على أثر عبورهم.. في العمارة وفي الشوارع.

ربما لن تدوم تنحيتي للبشر من صوري، لا يمكنني إنكار كونهم جزءًا من اللوحة التي تمثلها المدينة.

ما تقوله الواجهات؟

ما تقوله الواجهات؟

ما تقوله الواجهات؟

صحيح أن اللغة المعمارية يمكنها أن ترمز إلى الطبقية أو السلطة إذا تساءلنا لمن بُنيت. لكن إذا نظرنا إلى النوافذ والشرفات، سنجد المزيد، بل نوعًا آخر من التفاصيل. الشرفة، أزيد من كونها مساحة انتقالية بين الداخل والخارج، هي مرآة عاكسة لمن يعيش في ذلك البيت. حبل الغسيل المنشور يثير فضولي حول من يمكث بالبيت وحتى يومياتهم، كفيل بأن يخبرني أيوجد به أطفال؟ هل يقطن الجدّ معهم؟

إذا لاحظت كرسياً بالشرفة، فسيذكرني بالكرسي الذي وضعته أنا بشرفتي، وكيف جعلت من ذلك الّركن مكاني المفضل في البيت كله، ومنه أرى أحد أفراد تلك العائلة الغريبة عني يتناول على هذا الكرسي قهوته الصباحية متدفئًا بأشعة الشمس التي أشرقت للتو، مراقبًا المدينة وهي تستيقظ من سباتها، تماما كما أفعل، وتدور في ذهني فكرة أن شخصان غريبان تمامًا يستفيدان من هذه المساحة الضيقة بذات الطريقة، لهم روتين وعادات مشتركة إلى حدٍّ ما، وكيف يظهر كل هذا لناظر من الخارج.

تستوقفني كذلك النباتات التي تتعدى حدود الدرابزين إلى الشارع. تُذكّرني بأمي، وبِشبه الحديقة التي تحاول زرعها والاعتناء بها في حدود الثلاثة أمتار مربعة التي تمتلكها. أرى من يمتلكون شرفات مليئة بالنباتات كصنف فريد ولو كثر عددهم، محبون للجمال، انتزعوا مساحات من بيوتهم واختصوا بها قطعة من الطبيعة.

أما من يضع الستار على الشرفة -“الباش” كما درِجنا على تسميته- قاطعاً بذلك العلاقة المباشرة بين الداخل والخارج، يخبرني هو كذلك بالكثير. التخوف من نظرة الغير أكبر من الرغبة في إدخال الضوء والهواء إلى البيت. فلطالما وجدتُ نفسي في خلاف مع أسرتي، أنا أفتح النوافذ وهم يغلقون. يقولون لي: “الحرمة! يشوفونا الناس!”، وأردّ أنا: “خلّي رحمة ربي تدخل”.

حبل الغسيل، الكرسي، النباتات، “الباش”، وأكثر، أراها كلّها كعلامات حياة صغيرة، مجموعها يشكل المدينة ككل.

ما تقوله الواجهات؟

ما تقوله الواجهات؟

ما تقوله الواجهات؟

ما تقوله الواجهات؟

ما تقوله الواجهات؟

العمران وعاءٌ يحتوي عاداتنا وتحركاتنا اليومية، نشأَ حولها وجاء كَنتيجةٍ مباشرةٍ لها. والعكس صحيح أيضًا، أي أنه ساهم، بطريقة أو بأخرى، بتشكيل ونحتِ ذات هذه التحركات. نُشكّله ويُشكِّلُنا. ويتعقّد الأمر أكثر عندما نرى أن وسط مدينة الجزائر، والذي بُنِي أغلبه في زمن الاستعمار، هو عمران شيّده المُستعمر ضدّ الجزائريين أنفسهم وعلى أنقاض الحيالعربيالمسمى بالقصبة السفلى، حيث لم يبق من القصبة سوى الجزء العلوي، أما الحي الأوروبي فكان ممنوعاً على العرب.

إن دنونا أكثر من هذه العمارة الهوسمانية التي شُيّدت بين نهاية وبداية القرنين 19 و 20، ونظرنا عن كثب، فسنجدها تحمل كمًا هائلاً من الرمزية، وخاصة الواجهات. عناصرُها لم تُرسَم عبثًا، وتعدّت كونَها مجرد جماليّات إلى كونِها لغة.

فالأعمدة بعلوِها وضخامتِها قد تكون تعبيرًا عن السلطة، الزخرفةأو غيابهاقد يدل على الطبقيّة، وكذا حجم ونمط النوافذ في البيوت، فحين شُيِّدت هذه المباني، وإلى يومنا هذا، لا يملك الجميع نفس الحصّة من الضوء الوارد إليه من الخارج.

أتساءل اليوم، من خلف كاميرتي، عن هذه المعاني (الزخرفة والطبقية والأحجام..) كيف تحوّلت مع الاستقلال، خاصة مع تقادم البنايات نفسها، وتآكل الواجهات.. أتساءل دون العثور على أجوبة غالباً، ومن هذه الزاوية الضيّقة بين السؤال والجواب أحاول التقاط صوري، لا أواجه الواجهات بقدر ما أقف دائما على جنب وأصوّب العدسة، أبحث عن بُعدٍ ثالثٍ للواجهات التي لو قابلتها لبدت ثنائية الأبعاد.. أبحث عن عُمقٍ ما في هذا البعد الثالث.

ما تقوله الواجهات؟

ما تقوله الواجهات؟

ما تقوله الواجهات؟

ما تقوله الواجهات؟

ما تقوله الواجهات؟

ما تقوله الواجهات؟

ما تقوله الواجهات؟

ما تقوله الواجهات؟

ما تقوله الواجهات؟

ما تقوله الواجهات؟