كان من المقرر أن نلتقي في مقر جمعيته الواقع في الشارع المجاور لمسجد بلال بن رباح بمدينة البيضاء على تمام الساعة الرابعة والنصف مساء من اليوم العاشر لشهر رمضان، لكن أكرم اضطر أن يتأخر نصف ساعة لانشغاله بالاطلاع على الأعمال الجارية في منزل قيد الانشاء في إحدى الضواحي الشرقية لبلدية البيضاء الواقعة على قمة الجبل الأخضر شرقي ليبيا.
عندما حضر كان معه طفلاه اللذان تتعدى أعمارهما العاشرة بقليل. دخلنا مكتبه فيما ولج الطفلان غرفاً مجاورة. أخبرني أن أشغال البناء في هذا المنزل بدأت بميزانية قدرها صفر دينار بعد أن نشر اعلاناً على فيسبوك يفيد بأن أرملة تقيم بالإيجار ولديها قطعة أرض لا تملك مالاً للبناء عليها. بعد فترة قصيرة من نشر الإعلان تحولت قطعة الأرض الخاوية إلى ورشة بناء يديرها المتطوع الأربعيني.
مشروع خيري تشرف عليه جمعية اسمها “بصمة خير” أسسها أكرم مع زوجته، هي واحدة من بين جمعيات قليلة تهتم بوضع الأرامل والأيتام في المدينة البالغ عدد سكانها قرابة ربع مليون نسمة.
يشارك في المشروع ميسورون من المدينة، تجار يتبرعون بالإسمنت وتاجر طوب يتعهد بتوفير كل القطع اللازمة لرفع الجدران وآخر يقدم حديد التسليح ومقاول بناء يعطي سعراً مخفّضاً لإنجاز عملية بناء الجدران وصب السقف
يشارك في المشروع ميسورون من المدينة، تجار يتبرعون بالإسمنت وتاجر طوب يتعهد بتوفير كل القطع اللازمة لرفع الجدران وآخر يقدم حديد التسليح ومقاول بناء يعطي سعراً مخفّضاً لإنجاز عملية بناء الجدران وصب السقف.
يقطع حديثنا اتصال من أرملة أخرى تنضم إلى قائمة المحتاجين فيرتب معها موعداً للاتصال، ثم يواصل حديثه عن ملحمة بناء المنزل، رخام النوافذ والأبواب من المتوقع أن يبادر تاجر بالتبرع بها، بلاط الأرضيات تاجر آخر يدعوه للمحل لاختيار النوعية الملائمة وأخذ ما يلزم من قطع.
أساله عن تكلفة اليد العاملة اللازمة لإنجاز هذه الأعمال فيخبرني بأن أسطى البلاط عامل مصري اعتاد أن يخدم “منازل الخير” بسعر أقل من ذاك المعروض في السوق. “إذا كان سعر السوق 12 ديناراً ليبياً للمتر الواحد فالجمعية تتحصل على 8 دينار للمتر. الأمر نفسه ينطبق على أعمال الرخام والكهرباء وأعمال اللياسة (كساء الجدران بالإسمنت).. بيئة التطوع جاذبة وكثر يسارعون للمشاركة”.
مظروف ورسالة نصيّة
يقطع حديثنا شاب يدخل المكتب حاملاً في يده مبلغا مالياً وبضعة مظاريف. يضع كل ورقة نقدية من فئة العشرين ديناراً في مظروف (الدولار يساوي حوالي 5 دنانير حسب سعر السوق الموازي). يلتقط الشاب قلم حبر ويخط عدة كلمات على المظروف ثم يغلقه ويرميه في صندوق حديدي عبر فتحة صغيرة في أعلاه. نواصل حديثنا فيقطعه شخص آخر في يده مظروفان.
أسال أكرم عن هذه المظاريف التي تتهاطل في هذا اليوم المشمس فيجيب مبتسماً: “إنها فكرة زوجتي التي تشاركني العمل في الجمعية.. كفالة الأيتام بمبالغ شهرية تبلغ 240 ديناراً. 20 ديناراً هو المطلوب فقط من كل متبرع شهرياً. يضعها في مظروف يحمل اسمه ورقم هاتفه ويدسها في الصندوق”.
تشرف على مشروع المظاريف متطوعة تساعد الزوجين في إدارة شؤون الجمعية، تفتح شهرياً 1100 مظروف تحوي مجتمعة على 22 ألف دينار ليبي. المتطوعة لا تعرف المساهمين إلا من خلال الأسماء وأرقام الهواتف المدونة على المظاريف. بعد مرور ثلاثين يوماً تبعث رسائل تذكير للمساهمين تدعوهم لدفع القسط الشهري.
هكذا تتحرك العجلة دون تعقيد، “المتبرع لا يحس بثقل المبلغ لكنه يساعد أطفالاً لا تربطهم به أي صلة قرابة. فقط مظروف ورسالة نصية”، يقول ذلك وهو يهز هاتفه الذي لا يتوقف عن الرنين.
في إدارة عمله، يبقى الفيسبوك هو أقوى وسائل أكرم ليلعب دور الوسيط بين المحتاجين ومقدمي التبرعات، فمنشور واحد عن حالة تحتاج دعماً يقابله متبرعون جدد يبادرون للتواصل معه وتوفير ما يلزم.
قبل أربع سنوات وصلت رسالة عبر بريد صفحته الشخصية على الفيسبوك من شخص ليبي يقيم في الولايات المتحدة منذ العام 1984 ويبحث عن طريقة لمساعدة المحتاجين في بلده. كل شهر رمضان وعلى مدار السنوات الماضية قدم المتبرع المهاجر مبالغ تراوحت بين الـ 50 ألفاً والـ 80 ألف دينار ليبي تقدم كمساعدات لـ 115 عائلة تقيم في أحد الأحياء الفقيرة. يتكفل الرجل الذي لا يتم الكشف عن هويته بدفع الديون المستحقة على هذه العائلات لدى محلات بيع المواد الغذائية وديون شراء المياه ويمنح كل عائلة مبلغ 300 دينار وسلعاً غذائية ولحوماً ومواد تنظيف.
“هذه السنة لم يستطع مدنا بالمبلغ فتكفل متبرع آخر بتوفير هذه الهبة لتلك العائلات الـ 115″، يقول أكرم وهو يريني صوراً لتوزيع تلك المساعدات بعد نشرها على صفحة الجمعية على فيسبوك دون أن تظهر وجوه متلقي التبرعات.
طبقة وسطى تتلاشى
حجم العمل الذي تقوم به الجمعية يفوق ذلك الدور الذي يؤديه مجرد وسيط، فخلال سنواتها الست شيدت 45 منزلاً للعائلات المستحقة وقامت بصيانة الكثير من المنازل. “نسلم المنازل بكامل الأثاث ونشترط أن توفر العائلة قطعة أرض ولا نبني منازل إلا للعائلات التي يكون الزوج فيها متوفياً. كل المنازل هي منازل عائلات فقدت الأب.. نحن لا نعيل عوائل عندما يكون الوالد حياً”.
لا يخلو حديث أكرم من نبرة دفاعية، فالجمعية لم تنجو من “غارات فيسبوكية” شنها بعض من قال إنهم لم تنطبق عليهم الشروط الصارمة التي يتبعها لاتخاذ قرار تقديم الدعم، لذلك يعتبر أن الزيارات الميدانية هي الوسيلة الأمثل للتأكد من مدى حاجة الأسر.
سجلت أعداد الفقراء في ليبيا معدلات قياسية خلال الأعوام العشر الأخيرة، فحوالي 45 بالمئة من الليبيين يعيشون تحت خط الفقر مقابل 29 بالمئة في العام 2009، كما تراجع متوسط دخل الفرد في عموم ليبيا من الألف دولار شهرياً قبل عشرة أعوام، إلى 540 دولاراً
أخبرني بأنه توقف عن دعم بعض العائلات التي وصلت إلى “بر الأمان” بعد بناء منزل لها وتأثيثه بالكامل والتأكد من أن لدى الأرملة مرتب شهري من الحكومة أو أن أطفالها يتلقون مرتب والدهم المتوفي. “قد لا يرضى هذا الإجراء بعضهم ويبدون تذمراً لكن ذلك أمر لا تراجع فيه”.
في الوقت الحالي هناك حوالي 600 يتيم يتلقون دعماً منتظماً، يزداد عددهم كل شهر، يخبرني بذلك وهو يباعد بين يديه موضحاً أن كل عام يأتي أشد قسوة من الذي سبقه. “الطبقة الوسطى لم تعد موجودة في السنوات الأخيرة.. يلتحقون بالفقراء”، ويستشهد بزيادة عدد المحتاجين الذين يطرقون باب الجمعية وبهاتفه الذي لا يتوقف عن الرنين.
وفق تصريحات لمسؤولين في وزارة الشؤون الاجتماعية بحكومة الوفاق، سجلت أعداد الفقراء في ليبيا معدلات قياسية خلال الأعوام العشر الأخيرة، فحوالي 45 بالمئة من الليبيين يعيشون تحت خط الفقر مقابل 29 بالمئة في العام 2009، كما تراجع متوسط دخل الفرد في عموم ليبيا من الألف دولار شهرياً قبل عشرة أعوام، إلى 540 دولاراً.
يحدث هذا في بلد غني بالنفط لا يتجاوز عدد سكانه الـ 6.8 مليون نسمة، تقول عنه تقارير أممية إن ما يقارب ثلث سكانه بحاجة اليوم إلى مساعدات إنسانية.
مبالغ صغيرة ومتواصلة
تؤثر الأزمة الاقتصادية التي يتحدث عنها المسؤولون على موارد الدعم التي تصل الجمعية، فقبل حلول شهر رمضان كان أكرم وزوجته حائران في كيفية تأمين 700 حقيبة غذائية ينبغي أن تصل إلى مناطق تبعد 60 كم عن مقر الجمعية.
“متبرعان قدما معاً مبلغاً قدره 150 ألف دينار ليبي لتجهيز الحقائب. لكن يبقى البسطاء هم الداعم الحقيقي لأعمالنا. إنهم يقدمون مبالغ صغيرة بشكل متواصل ودون توقف في حين أن معظم رجال الأعمال تصلنا زكاة أموالهم وتبرعاتهم في أوقات معينة فقط”.
الوضع يصبح أكثر تعقيداً عند دعم الحالات المرضية التي تحتاج لإجراء عمليات جراحية لا تتوفر في ليبيا. “مولت الجمعية الكثير من الحالات المرضية ومن ضمنها ثلاث عمليات زراعة مري في مستشفيات مصرية.
إحداها لطفلة شربت مادة كيميائية عن طريق الخطأ ولم تكن تستطيع الأكل ما اضطر الأطباء الليبيين إلى وصل جسدها بكيس خارجي يتم إمداده بالغذاء باستخدام الحُقن.
يقول أكرم، “قمنا بتوفير قيمة الكشوفات الطبية للطفلة في مصر ثم كلفنا صديقاً يدرس هناك بترتيب كل شيء وعندما أكد الأطباء المصريون إمكانية إجراء العملية وحددوا القيمة المالية قام الصديق بدفع المبلغ وحجز موعداً لإجرائها”.
معركة مع عقارب الساعة
في وضع كالذي تعيشه ليبيا حيث تتقلص برامج الدعم الحكومي وتتأخر مرتبات العاملين بالقطاع العام بالوصول إلى مستحقيها عدة أشهر يجد العاملون في المجال الخيري أنفسهم يغطون فراغاً كان يفترض أن تملأه الحكومات. إذ تصل للجمعية حالات بحاجة للدعم مع رسائل تزكية من موظفين في إدارة الشؤون الاجتماعية والمركز الحكومي لرعاية الأيتام.
ومن ضمن 2400 محتاجاً مسجلاً في منظومة الجمعية هناك 300 محتاج عجزت الجهات الحكومية التي يتبعون لها عن دفع رواتبهم.
في إحدى المرات اتصلت بالجمعية طبيبات يعملن في مستشفى الثورة المركزي ليبلغن عن رجل قام بإخراج ابنه المصاب بتكسر الصفائح الدموية من المستشفى مفضلاً أن يموت بين أحضان أمه في المنزل على أن يموت على سرير العناية المركزة دون الحصول على سبع حُقن قيمة الواحدة 1800 دينار.
تورطت اللجنة العليا لمكافحة كورونا في توريد كميات من المعقمات والمعطرات دون الحصول على موافقة الهيئة العامة للبيئة ودون إخضاع شحنة المواد المستوردة لشرط التفتيش قبل شحنها إلى ليبيا، كما لم يدرج اسم الشركة المصنعة وبلد المنشأ بما يكفل توريده حسب المعايير الدولية
تقول إحدى الطبيبات في رسالة صوتية إن “موعد الحقنة الأولى قارب على الانتهاء لذلك تصبح المعركة ضد عقارب الساعة وضد تقصير الحكومة”. لكن في النهاية ينتصر المتبرعون على عجز الحكومة ويتلقى الطفل الحقن اللازمة تباعاً من أموال التجار.
يصعب تعداد أوجه عجز الحكومة أو تقصيرها، لكن أبرزها كان في 25 مارس 2020 مع ظهور فيروس كورونا، عندما خصص المصرف المركزي مبلغ 300 مليون دينار ليبي تحت تصرف اللجنة العليا لمكافحة كورونا بالحكومة المؤقتة والتي بدورها أعلنت تخصيص بعض المستشفيات والمصحات ومراكز إيواء لمعالجة المصابين بالفيروس وتوفير الأدوية والمعدات اللازمة للتعامل مع هذا الوضع.
لم تمض أسابيع حتى اتهم ديوان المحاسبة في الحكومة، اللجنة نفسها بأنها متورطة في توريد كميات من المعقمات والمعطرات دون الحصول على موافقة الهيئة العامة للبيئة ودون إخضاع شحنة المواد المستوردة لشرط التفتيش قبل شحنها إلى ليبيا، كما لم يدرج اسم الشركة المصنعة وبلد المنشأ بما يكفل توريده حسب المعايير الدولية.
ثم كشفت عينات تم إخضاعها للتحليل خلوها من أي مركب كيميائي، إضافة إلى أن المادة التي استوردتها اللجنة وضعت في عبوات غير صالحة لهذا الغرض وغير محكمة الإقفال، وتم طباعة اسم المنتج لاحقاً بملصقات على العبوات.
كلام لا يجدي نفعاً
اليوم وصل عدد الحالات التراكمية المصابة بالفيروس في عموم ليبيا إلى 178 ألف حالة وسجلت 3047 حالة وفاة ولا يبدو أن أداء الحكومة أفضل مما سبق.
وما زالت الطواقم الطبية العاملة في مراكز العزل ترفع صوتها بالشكوى من عدم تلقيها معدات الحماية الشخصية ومن احتمال توقفها عن أداء عملها.
“لا تتوقفوا فأنتم خط دفاعنا الأول” تلك كانت أول استجابة تلقتها الأطقم الطبية العاملة بمستشفى المنصورة المخصص للعزل (شرقي بنغازي بـ220 كم) من الجمعية التي يديرها أكرم حين أبلغوا بحالهم وأتبع ذلك حملة تطوعية تكللت بتوفير 500 بدلة طبية ملائمة للعمل في مراكز العزل وخمسين ألف كمامة وخمسين ألف زوج من القفازات.
وفي 13 أبريل الماضي أطلقت طبيبة عاملة بنفس المستشفى نداء استغاثة مباشر للجمعية بعد حدوث نقص حاد في حقن “فراكسي بارين” التي تعطى للمرضى بفيروس كورونا تفادياً لإصابتهم بجلطات رئوية.
الحقن التي من المفترض أن تعطى بشكل يومي للمرضى كانت تصل للمستشفى عن طريق اللجنة العليا المكلفة بمجابهة الفيروس قبل أن يتوقف وصولها، وصار أهالي المرضى مطالبين بتوفيرها من الصيدليات الخارجية بسعر وصل إلى 90 دينار ليبي للحقنة الواحدة.
قاد أكرم وزوجته حملة جديدة على موقع الفيسبوك نجحت في توفير 600 حقنة تم تسليمها كعهدة شخصية للطبيبة المستغيثة لاستعمالها عندما يعجز أهالي مريض عن شرائها.
الحقن التي من المفترض أن تعطى بشكل يومي للمرضى كانت تصل للمستشفى عن طريق اللجنة العليا المكلفة بمجابهة الفيروس قبل أن يتوقف وصولها، وصار أهالي المرضى مطالبين بتوفيرها من الصيدليات الخارجية بسعر وصل إلى 90 دينار ليبي للحقنة الواحدة
يقول “لا أحبذ الحديث عن تقصير الحكومة فذلك مبعث حسرة لا تجدي نفعاً. المبلغ اللازم لتوفير هذه الحقن لا يمثل قيمة تذكر أمام ما يتم تبذيره من أموال عامة وكل ما نحتاجه هو النوايا الطيبة”.
يقاطعنا شخص يدخل المكتب حاملاً صندوقاً مليئاً بأرغفة خبز التنور ويطلب توزيعها كهبة رمضانية. يبتسم مستضيفي ويردد قول الشاعر “يجود علينا الخيرون بمالهم ونحن بمال الخيرين نجود”.
يعترف أكرم بفقدان جزء كبير من حياته الخاصة. يومه الذي يبدأ صباحاً بإيصال أطفاله إلى المدرسة، يتحول بعدها حيناً إلى مقاول بناء يوصل عمال السباكة إلى موقع الشغل ويوفر ما يحتاجه الكهربائي من أسلاك ولوازم وأحياناً إلى مشرف طبي يسدد فواتير العلاج ويزور المستشفى ليطمئن على من خضعوا لعمليات.
الهاتف الذي لا يتوقف عن الرنين والتفكير المتواصل فيما جرى خلال اليوم الذي مر وما سيجري في اليوم القادم كلها هواجس تسيطر على حياته.
لكن تلك الضريبة تبدو بالنسبة له حملاً خفيفاً أمام ترك طفلة يتيمة لمقاعد الدراسة لأن زميلاتها يسخرون من شكل أسنانها التي تحتاج فقط إلى تقويم أو من طريقة مشيها لوجود تباين في طول السيقان.
تتجاوز الساعة السادسة والنصف.. يقترب موعد الإفطار والطفلان يدخلان الغرفة أكثر من مرة وكأنهما يعجلان بانتهاء جلستنا. أستأذنه وأمضي فيما يلتقط هو صندوق أرغفة خبز التنور ويركب هو والولدان سيارته على عجل بغية توزيع الأرغفة قبل آذان المغرب.