في المسلسل الإسباني الشهير «لاكاسا دي بابل»، يخطط «البروفيسور» لإظهار عصابته في مظهر الطرف الأضعف في مواجهة الحكومة. يقول البروفيسور، معلّلًا، إن البشر عمومًا يتعاطفون مع الأضعف، ويضرب مثلا بالكاميرون حين تواجه البرازيل في كأس العالم، إذ تبدو البرازيل أقوى كثيراً، لكن الجماهير ستتعاطف مع الكاميرون بالتأكيد. لا يطرح البروفيسور مع ذلك فكرته بشكل كامل، إذ ليست المسألة في أن تكون الأضعف، ولكن أن تكون «نِدًّا» أيضاً رغم ضعفك. يتعاطف الناس مع الضعيف بالفعل، لكنهم يحترمون من يقاوم ضعفه، قد يدعمونه، وربما يلتحمون به عندما يرونه «الحصان الأسود» أو «الأندردوج».
تفترض فكرة المقاومة بالضرورة اختلالاً كبيراً في ميزان القوى، وتفترض كذلك موقعاً دفاعياً، إذ كي توجد «مقاومة»، لابد أولاً من قوة هائلة تشن هجوماً بينما تقوم قوة أصغر كثيراً بالوقوف في وجهها. لذلك تنطوي فكرة المقاومة على بعد أخلاقي كامن فيها: المقاومة تدافع عن «حق» أو «أصل» في مواجهة من «يعتدي» أو «يسطو». تبدو المقاومة كذلك رهاناً على المستحيل، فاختلال موازين القوى يجعل فعل المقاومة بالضرورة غير معقول.
تشبه المقاومة بهذا المعنى فكرة الثقافة، أي تلك المحاولة الإنسانية الدؤوب للتمرد على الطبيعة. يرفض الإنسان أن يكون جزءاً من الطبيعة، لذلك يصرّ على الخروج على قوانينها التي يدرك كم هي عقلانية ومحتومة، ويخلق لذلك عالمه الثقافي من السرديات والخرافات والتصورات والفنون وحتى السحر والتعاويذ. لا يحب البشر «المعقول» بشكل كامل، فهم يفضلون أن «يقاوموه»، أي يحلمون بتلك اللحظة التي ينصاع فيها العقل لأحلامهم، أن تنصاع القوة للعدالة، أي يحلمون بالمقاومة كفكرة أخلاقية، وفي نفس الوقت ليست عدمية وإنما رهان على إمكانية تطويع العقل والقوة لخدمة الحق والخير.
يحب الناس المقاومة، لكن هذا الحب يتضاعف حين تبدو المقاومة ندًّا، أي حين تقترب من إمكانية تطويع القوة للحق، أي حين يتجلى فيها عنف إلهي يجسد الحق. هكذا فقط يمكننا أن نفهم لماذا يتعاطف الناس اليوم مع المقاومة الفلسطينية، وبالتحديد حركة «حماس»، كما لم يفعلوا على مدى 40 عاماً، أي منذ أول محاولة قام بها أحمد ياسين لجمع السلاح في قطاع غزة سنة 1983. وقتها انتهى الحال بأحمد ياسين إلى السجن الإسرائيلي، ربما يتعاطف الناس مع ذلك، لكنهم لا يؤمنون به. ما حدث في 7 أكتوبر هو أن المقاومة أثبتت أنها ندّ، لذلك لم يتعاطف معها الناس، وإنما أحبوها وآمنوا بها.
منطق المقاومة
لذلك للمقاومة حساباتها ومنطقها الخاص، فمعضلة المقاومة أنها غير قابلة للهزيمة، وهو ما لاحظه مهدي عامل (1936- 1987) عندما أطلق مقولته الشهيرة «لست مهزوماً ما دمت تقاوم». يشرح أنطونيو نيجري ومايكل هارت تلك المعضلة في ثلاثية الإمبراطورية، فكلما تضخمت قوى السلطة وغاب التناسب مع حركات المقاومة التي تنشأ ضدها، كلما صار مفهوم النصر ضبابياً بسبب التفاوت الهائل نفسه، وقدرة المقاومة على إعادة التشكّل باستمرار ما يمثل إزعاجاً أبدياً للسلطة.
لا تقوم فكرة المقاومة بالضرورة على إمكانية هزيمة العدو، وإنما تهدف إلى إجباره على دفع الثمن، إنهاكه، بحيث يقرر الانسحاب أو بحيث تخور قواه على الأقل كي يكون جاهزاً للضربة القاضية عندما تراكم المقاومة قواها لهذه اللحظة. طريقة المقاومة في العمل لذلك تشبه طريقة الثورة كما تصفها روزا لوكسمبرج، أي تلك الصورة الوحيدة من الحرب التي يمكن أن يتحقق فيها الانتصار عبر سلسلة من الهزائم. تقدم المقاومة الفلسطينية في ممارستها تجسيداً لتلك المقولة التي كانت آخر ما كتبت لوكسمبرج قبل أن يهشم الجنود رأسها بكعوب بنادقهم. فعندما انطلقت المقاومة الفلسطينية في غزة لأول مرة في الثمانينات، كانت تبدو محاولاتها أشبه بمحاولة طفل تهديد رجل ضخم بمسدس بلاستيكي. وعندما أطلقت المقاومة أول صاروخ لها في الانتفاضة الثانية، انطلق مع الصاروخ سيل من التحليلات الساخطة والساخرة من الصواريخ «العبثية».
على مدى عشرين سنة، ظلت المقاومة تخوض جولة وراء أخرى مع العدو الإسرائيلي، تخرج من كل جولة بخسائر جسيمة ومكاسب محدودة، لكنها تحتفظ بالأمل، وبمفهوم الاستراتيجي للنصر يناسب منطق المقاومة وحساباتها. كان المقاتلون يواجهون المدرعات الإسرائيلية التي تقتحم غزة بقذائف طوّرها القيادي الراحل في المقاومة عدنان الغول اعتماداً على نموذج لقذيفة إنيرجا عثر عليها بين مخلفات الجيش المصري في سيناء، وهي قذيفة أوروبية قديمة يعود تاريخها إلى السبعينات. كان ذلك أقرب لمجابهة دبابة بحجر، لكن عمل الغول كان الأساس الذي ولدت منها قذائف «ياسين 105» التي ربما تغير شكل حروب المدن لعقود قادمة.
في 2008، لم يخسر الجيش الإسرائيلي أكثر من 13 جندي، أما في 2014، ارتفعت الخسائر الإسرائيلية إلى 67 جنديا. اليوم وفي خلال أقل من شهرين من الحرب البرية، يقارب الإحصاء الرسمي الإسرائيلي لقتلى الجيش 200 قتيل، وهو إحصاء لا يحظى بتصديق كثير من الإسرائيليين إذ من المتوقع أن تكون الأرقام أعلى من ذلك كثيراً.
لدى المقاومة وعد بالنصر، لكنه وعد مؤجل ولا يأتي بالضرورة في الصورة التي حلم بها المقاومون أو أرادوها، لأن التاريخ يجب أن يستمر، ويجب أن تستمر فيه المقاومة.
جدل الندّية
كيف يمكن للمقاومة أن تكون ندًّا مع الاختلال الهائل في موازين القوى؟ الإجابة تكمن في الجدل، أي في فكرة أن كل ظاهرة في التاريخ تحمل بداخلها إمكانات تجاوزها. لنأخذ مثالاً على ذلك التكنولوجيا العسكرية. قدمت التكنولوجيا العسكرية إمكانات هائلة للجيوش الغربية ومعها روسيا وإسرائيل، كان على رأسها الطائرات المقاتلة كطائرة F16 التي يمكن اعتبارها إحدى أركان الهيمنة الأمريكية حول العالم أو رموزها على الأقل. من ذلك أيضاً كانت الدبابات التي أحدثت طفرة في الحروب البرية. لكن التكنولوجيا العسكرية أيضاً هي الطاقة التي انفتحت أمام أحلام المقاومة. تمثل مضادات الدروع نموذجاً على ذلك، وتكاد تغير وجه الحرب البرية مع تحييدها إمكانات المدرعات.
بعد تطورات الحرب في أوكرانيا ومعركة غزة، حذر الاقتصادي الأيرلندي فيليب بلكينجتون مما أسماه تقلص تكاليف الحرب وتحول التكنولوجيا العسكرية إلى سلع رخيصة. يشير بلكينجتون أكثر من ذلك إلى شيء مهم، وهو الفارق النسبي في التكلفة وأثره على القدرة على احتمال القتال والحفاظ على التفوق. في أوكرانيا مثلاً، يمكن لمسيّرة لانست روسية تبلغ تكلفتها حوالي 35 ألف دولار، يقول بلكينجتون، أن تدمر دبابة ليوبارد ألمانية تستخدمها أوكرانيا بقيمة 11 مليون دولار. مثال آخر من غزة هو قاذف ياسين 105 الذي يكلف المقاومة حوالي 300 دولار، وتستخدمه المقاومة لتعطيل دبابة ميركافا 4 تصل تكلفتها إلى 3.5 مليون دولار، بل أثبت مؤخرا قدرة على تدميرها جزئياً.
لا يتعلق الأمر فقط بالتكنولوجيا العسكرية وإمكانياتها الرخيصة، وإنما أيضاً بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي وفرت لكل منا فرصة المعرفة الكيفية والوصول السهل والرخيص إلى المعلومات حتى صارت المعاناة الفعلية تتعلق بالقدرة على تحليل المعلومات وتوظيفها أكثر مما تتعلق بنقصها. عشية 7 أكتوبر مثلاً، كان لدى الجيش الإسرائيلي ركاماً هائلاً من البيانات يستعصي على التحليل، أما المقاومة فكانت تمتلك كافة المعلومات الضرورية التي احتاجت إليها لشن هجومها على مواقع الجيش الإسرائيلي.
أمر آخر يتعلق بشكل السلطة وعلاقتها بالمقاومة اليوم. تتخذ الهيمنة الأمريكية اليوم على العالم شكلاً لم يسبق أن حصل عبر التاريخ، إذ تتغلغل شبكات المصالح وأساطيل حمايتها عبر العالم بحيث يخبو البعد المكاني تماماً، ويبدو العالم كأنه فضاء أو نسيج واحد ينعكس اهتزاز كل نقطة فيه على بنيته بأسرها. لم يعد سؤال الجيوبوليتيك محصوراً بصراعات قوى البر والبحر أو أوراسيا والأطلسي، وإنما انتثر عالمياً ليسجل انعكاسات كل بقعة منسية على خريطة شديدة التعقيد. هكذا تمثل ضربة موجعة لإسرائيل فعلا مقاوما تظهر آثاره في أوكرانيا والبحر الأحمر وأسعار النفط والتجارة الدولية والانتخابات الأمريكية والتماسك الأوروبي، دعك من التحولات الإقليمية؛ كأن الإمبراطورية كلما توسعت ازدادت هشاشتها.
المقاومة هي اقتصاد من نوع خاص تلخّصه أني دي فرانكو حين تقول إن كل أداة يمكنها أن تصير سلاحاً، فقط إذا أمسكتها بالشكل الصحيح.