ينتظر شامل دحام، ومثله كثير من سكّان الموصل، أن ترفع أنقاض الحرب كاملة منذ أن انتهت عام 2017، وأن يعوّض المتضررون عما لحق بمنازلهم ليتمكنوا من إعادة إعمارها.كان الرجل الستيني يملك منزلاً صغيراً من الجص والحجر، في منطقة الرفاعي. وفي منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2016، نجا بأعجوبة هو وزوجته وابنتهما من قناصي عناصر تنظيم الدولة الإسلامية، وغادروا الحي لتتلقفهم القوات العراقية التي كانت تحاصر المنطقة، وتنقلهم إلى الجانب الأيمن الذي كان قد تحرّر لتوه.
“مضى على ذلك أكثر من خمس سنوات”، يتذكر واضعاً يده على جبينه، قبل أن يتابع، “اليوم تحديداً (19/3/2022) أخرج الدفاع المدني جثثاً من تحت ركام منزل قريب من أنقاض منزلي”، توقف برهة ثم أكمل ” قد يكون جاري أبو صالح وأسرته، لم أسمع منهم شيئاً منذ انتهت الحرب، أو ربما هي جثث لعناصر من داعش، المهم، رأيتهم يضعون خمسة أكياس سود على الأرض تماماً حيث كان زقاقنا الصغير”.
13 مليون طن من الأنقاض
أحد عشر ألف وحدة سكنية، شكلت أحياء متجاورة في المدينة القديمة للموصل حيث منزل دحّام، دمرتها بشكل شبه كامل حرب تحرير المدينة من التنظيم بين عامي 2016- 2017. تركت أشهر من القتال ركام مستشفياتٍ ومصانع وأبنيةٍ ومستودعاتٍ وآلياتٍ، تقدر بـ 13 مليون طناً من مخلفات الحرب.
بات معروفّا اليوم أن إزالة هذه الكمية الهائلة من الأنقاض أمر في غاية التعقيد، بالنظر إلى أنها ملوثة بعدد كبير من الألغام والعبوات الناسفة، فضلًا عن الحاجة إلى التقييم الكيماوي لهذه المخلفات المتراكمة في الجانب الأيمن من المنطقة القديمة للموصل على ضفاف نهر دجلة القريب.
منذ صيف 2017، انتشلت فرق الدفاع المدني أكثر من ألفي جثة من بين أنقاض المدينة القديمة، معظمها لمسلحي التنظيم الذين كانوا يختبئون في الأزقة الضيقة والمتشعبة، وفقّا لما يقول مصدر في مديرية الدفاع المدني في نينوى، مستدركًا “لكن مهامنا أصبحت محدودة جداً في 2022″، ويضيف “ترد بين الحين والآخر شكاوى من أهالي المدينة القديمة لاكتشافهم رفاتاً بين الأنقاض، لكننا لم نعد نستجيب إلا لبلاغات ذوي القتلى الذين يحددون المكان، فنقوم بدورنا بالبحث، ماعدا ذلك فان أية جثة غير مبلغ عنها، نعتبرها عائدة لعنصر من داعش، ولا نقوم برفعها”. وبخصوص الأنقاض، بيّن المصدر، بأن فرق تطوع تابعة لمنظمات مدنية محلية ودولية عملت على رفع كميات كبيرة منها بعد 2018، لكن ما حدث آنذاك أنها كدستها بكل ما فيها من مخلفات الحرب وحتى الجثث المتفسخة على ضفة نهر دجلة.
المصدر: Enno Lenze. تحت رخصة المشاع الإبداع
ألغام بين الأنقاض
نجت بديعة رؤوف (65 سنة)، واحدة من سكان منطقة خزرج في المنطقة القديمة للموصل، من موت محقق إثر انفجار عبوة ناسفة على مسافة قريبة منها في شباط (فبراير) 2019، بينما تبحث في الركام في موقع منزل أخيها، عن أي بقايا أو رفات بشرية، لشقيقها وزوجته وأطفالهما الأربعة. اليوم، وبعد أن جمعت الجهات المسؤولة الأنقاض في كومة هائلة هي كل ما تبقى من مجموعة منازل صغيرة من الجص والحجر كانت متجاورة شمالي الحي، تقول رؤوف “كان ينبغي عليهم أن يبحثوا جيداً في الخراب قبل جمعه هكذا”. كومة أصبحت مصدرًا للروائح الكريهة والعقارب والأفاعي وموئلًا للكلاب السائبة. فضلًا عن العبوات الناسفة التي تسبب انفجار بعضها بمقتل أطفال ورعاة أغنام عابرين.
لكن الرفات البشرية والألغام ليست المشكلة الأكبر، وفقاً لتقدير الخبير البيئي مراد غني عزت، الذي استعان بورقة مطوية أخرجها من جيبه ليعدد المخاطر البيئية التي تهدد الموصل جراء المخلفات الحربية الرازحة فوق صدر المدينة منذ نحو خمس سنوات: “تساقطت الآلاف من المقذوفات الحربية في المنطقة القديمة منذ شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2016 لغاية تموز 2017، فضلاً عن انفجار أكداس من المتفجرات التي كان عناصر التنظيم قد جمعوها، كل ذلك أختلط أثره الكيماوي بالأنقاض وتسرب إلى المياه الجوفية”.
ثم مرر سبابته عل الورقة وتابع: ” آليات مدمرة وجثث متفسخة وجيف حيوانات، جمعت على ضفة النهر”. وتابع: “محطات تنقية المياه تنضح الماء من الضفتين، تسحبه بما فيها من تلوث لا يتم معالجته 100% لأن المحطات هذه تملك وحدات قديمة غير فعالة مع نسب التلوث المرتفعة”.
لا تنكر “دائرة ماء نينوى” ذلك، فهي تقر بأن محطات التنقية يمكنها التعامل فقط مع نسب العكورة، لكن ليس مع الملوثات الحربية. وتؤكد على أنها تجري رقابة دورية على ما تنتجه تلك المحطات التي تزود الأهالي بمياه للاستهلاك. وتعزو وصول المياه ملوثة إلى المساكن إلى المعارك التي دارت هناك خلال الحرب والتي أدت إلى شروخ في أنابيب نقل المياه من محطات التنقية الى المناطق السكنية، وهي بمجملها مدفونة تحت الأرض فتتسرب اليها المياه الملوثة التي تصل بدورها إلى المواطنين على هذا النحو”.
والحل الذي يراه موظفو “دائرة ماء نينوى”، هو تبديل شبكة أنابيب المياه التي تم إنشاء أقدمها (تحت المدينة القديمة)في خمسينيات القرن العشرين، ومن ثم العمل على تنظيف مركز المدينة من المخلفات الحربية التي تؤثر قطعاً على صلاحية المياه سواءً للاستخدامين البشري والحيواني أو في الزراعة.
بعد خمسة سنوات منذ نهاية الحرب
يلقي الكاتب والباحث مروان غازي باللائمة على الصراعات السياسية وتداعياتها التي أدت إلى ما يصفه بـ “هدر هائل في المال العام وعرقلة للإعمار الذي لم ينجز منه سوى الشيء اليسير ونحن على أعتاب العام الخامس من نهاية الحرب”. ويشير إلى أن القوات العراقية وبعد انتهاء الحرب في صيف 2017، منعت دخول المنظمات المحلية والدولية على حد سواء لرفع أنقاض الدور والمحال التجارية “بذريعة تطهير المنطقة من الأسلحة والمتفجرات، وأستمر المنع لنحو سنة”.
آنذاك أطلقت فرقٌ تطوعية محلية مدعومة بمنظمات دولية ما عُرف حينها بـ ثورة الدنابر، وهي مركبات حوضية صغيرة نقلت أنقاض جزء من خراب المنطقة القديمة، وأفرغته على ضفة النهر القريب، دون أي إسناد من البلدية التي كانت قد فقدت معظم آلياتها.
وكما هو معروف اليوم، بأن أحد أهم أسباب استمرار تلوث الموصل ببقايا الحرب ومخلفاتها الخطرة، هي مشاريع التنظيف وإعادة تأهيل الأبنية الوهمية والتي كشفت عن قضية فساد كبرى عطلت العمل من عام 2017 إلى 2019. وتكرر الأمر نفسه في 2021 في مشروع آخر كان يفترض أن ينظف الجانب الأيمن من المدينة.
يقوم بعض سكان المنطقة، اليوم بأعمال ترميم وإعادة إعمار لدورهم، دون انتظار نتائج دعاوى التعويض عن الأضرار التي أقاموها ليأسهم منها. لكن غالبية البيوت في الموصل القديمة بقيت على خرابها لعجز مالكيها عن تحمل الكلفة فليس أمامهم سوى الانتظار.
ها هاو رافع ملا عبد، يقوم منذ فبراير (شباط) الفائت، برفع الأنقاض بنفسه من موقع منزله الممتد على مساحة 150 متر مربع، في حيّ سوق الشعارين بالمنطقة القديمة. وبسبب ضيق الممرات بين أنقاض المساكن، يضطر لاستخدام عربة جرّ خشبية، في ثلاث جولات نقلٍ يوميةٍ على الأقل، بين خراب منزله وضفة نهر دجلة حيث يفرغ حمولته.
يخشى رافع من أن يستعين بأحد للعمل معه في رفع الأنقاض، ويبرر ذلك بالقول “لا أرغب في تشغيل أحد معي، فمن يدري ماذا خبأت لنا الحرب في هذا الخراب، لأنني أتوقع أن ينفجر شيء في أية لحظة، كما أن لا أحد يعرف تماماً مصدر الرائحة القوية والغريبة التي تفوح من المكان، هل مصدرها جثث أم مخلفات أسلحة، لا أحد يدري”.
المصدر: Enno Lenze. تحت رخصة المشاع الإبداعي
الحل الدائري.. معمل لتدوير مخلفات الحرب
على الرغم من عتمة المشهد، لكن ثمة شيء من الأمل مع إعلان تشغيل أول معمل لتدوير مخلفات الحرب منذ أقل من عام، ضمن مشروع يعرف بـ الحل الدائري لإعادة تدوير الأنقاض الصلبة، والذي يقام بدعم ياباني وبالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة والمنظمة الدولية للهجرة.
المشروع يقع في قضاء الحمدانية التابع لمحافظة نينوى(25 كم شرق الموصل) وسيسهم في تدوير الأنقاض التي خلفتها الحرب في القضاء وكذلك في قضاء سنجار (127 كم غرب الموصل). على أن يستخدم نتاجها في تعبيد الطرق الريفية، أو في معادلات جديدة ضمن معامل الأسمنت. المشروع غايته الأساسية تنظيف البيئة المحيطة وحمايتها من المزيد من التلوث، كما أنه سيوفر فرصًا لتشغيل الكثير من الشباب.
رغم ذلك، لا أحد يملك إجابات بخصوص مخلفات الحرب داخل مدينة الموصل، التي يسكنها زهاء مليوني نسمة، فهي الأكبر على مستوى المحافظة والأخطر لاحتواء الكثير من أكداسها على المتفجرات. فحتى مشروع الحل الدائري، قدمته جهات دولية مانحة، وهو لا يشمل مدينة الموصل كما هو بادٍ حتى الآن، وليس للحكومة المحلية أو المركزية في بغداد فيه سوى دور ثانوي لا يتعدى منح الموافقات الرسمية.
انتهت الحرب، لكن صراع الموصليين مع الخراب لم ينته، ينتظرهم سنوات أخرى، تقل أو تكثر، من العيش بين الركام والرفات التي تناسى المسؤولون أمرها، يستنشقون الهواء المسموم، ويشربون الماء الملوث، ويمشون على أرض مسكونة بالألغام.