يستعمل الجزائريون كلمتي “الإقامة” و “لا سيتي” للكلام عن “الإقامات الجامعية”. الإقامة هي الاختصار العربي، و”لا سيتي” هي اختصار “لا سيتي أونيفارسيتار” أو “الحي الجامعي” بالفرنسية، عندما يكون الكلام عن إقامات الذكور لا يُحرّك الكلام أي صور، ولكن عندما يأتي الدور على إقامات البنات فهُناك مخيالٌ جمعي كامل يتخفّى تحت كلمة بسيطة مثل: لا سيتي.
“لن أسمح لابنتي بالمبيت في الإقامة، ستدرس في أقرب جامعة من البيت، تروح وتجي على عيني”. تقول إحدى القريبات عن ابنتها التي تستعد للحياة الجامعية، لا أستغرب هذا الرفض الغاضب، أنا التي أقضي عامي السادس في الإقامة، فقد تعوّدت النظرات المستهجنة من الكثيرين حولي حيال كوني “بنت لا سيتي”.
أتذكر دموع أبي يودعني عند مدخل الإقامة الجامعية (واحدة من بين خمس إقامات للبنات في ولاية الأغواط، 400 كلم جنوب العاصمة الجزائر) أول يوم، سيترك فتاته الصغيرة لتبيت لأول مرة بعيدا عن البيت مئات الكيلومترات، أحبِسُ دمعتي وأغالب الرغبة في الرجوع لسيارته والتخلي عن كل مشروع الدراسة، أجر حقيبتي منطلقة لأول غرفة ستستقبلني بين غرف كثيرة بت فيها الأعوام التالية.
الباب مفتوح، لا يمكن للفتاة المستلقية على السرير أن تخطئ نظرة الرعب على وجهي الذي اصفرّ في لحظته. سوتيان أحمر يُظهِرُ صدرا ضخما، كرش متغضنة، وشورت جينز يكشف عن ساقين بيضاوتين بنقاط مزرقة، تاريخ حديث لما يُشبه القرصات. تضع رجلا على رجل تدخن سيجارة، الحيطان حولها أشبه بجسد موشوم لمشردة في أقبية نيويورك، كتابات ورموز وشتم لاعن للدين والدنيا وكل أمهات العالم.
أنسحب من الغرفة دون أن أنجح في النطق بكلمة واحدة، أبحث عن فتاتين كانت أمي قد أوصتهما بمرافقتي في أول يوم لي، أبيت في غرفتهما إلى أن أحصل على غرفة جديدة مع رفيقتين جديدتين. بطريقة ما، نتفق على حماية بعضنا وسط أروقة الإقامة الطويلة. نضاعف إجراءات الأمان تحسبا، نغلق الباب مرتين من الداخل حين النوم، مفاتيح في كل مكان: الأبواب والخزائن وعلى الحقائب أيضا. ننتقل لقاعة الطعام سوية، وكذلك تفعل أغلب الفتيات، يمشين في حزم. نراقب بعضنا في الحمام، فقد سمعنا قصصا مرعبة عن فتيات تغتصبن أخريات في المراحيض، بعمود مكنسة. وعن أخريات تشوه وجوههن بموسى الحلاقة دون معرفة الفاعلات. كل يوم، كان يختم بإحدى صديقاتي تجهش بالبكاء خوفا واشتياقا لأمان العائلة.
يستيقظ الصوت المغامر داخلي ذات ليلة، وأقرر أنه حان الوقت لبعض الاكتشاف، أتأبط ذراع صديقتي وننطلق متتبعات صوت الموسيقى المنطلق من طابق بعيد، كانت أمي قد حذرتني من الذهاب للـ’قالات’ (من Gala وتعني حفلة بالفرنسية)، فمنها تسرب صور للفتيات وهن يرقصن متعريات، تغلب كفة الفضول تحذيرات أمي، وأقترب متربصة من بعيد، أطل من طابق داخلي علوي على البهو أين مكان الحفل: مرحبا بي في عالم آخر!
فسيفاء متحركة من النعومة
أندس وسط القادمات بدافع الفضول على الطرف المظلم من المكان، ننكمش في ملابس البيت التي نتجول بها في غرفنا، تعتمر أغلبنا قبعات صوفية، قلنسوات وخمارات تحسبا لأي تسريبات مصورة ، عكس المعنيات بالحفل اللواتي يكتسحن ساحة الرقص، هؤلاء بذلن جهدا للتزين لساعات.
أستطيع بصعوبة تمييز بعض الوجوه التي أراها عادة خارج أسوار الإقامة، هنا ترتدي الفتيات ما لا يسمح لهن بارتدائه خارجا، في المنزل وحتى في الأعراس العائلية، الشورت القصير، السواريهات عارية الظهر، لباس الرقص المصري وكل ما يجتهد في الإعلان عن الانحناءات المغرية. على طاولة جانبية يوضع مكبر الصوت موصلا بحاسوب تتحكم فيه صاحبة العتاد التي تتقاضى حسب عدد الساعات، مقابل خبرتها في التنقل بين الطبوع الموسيقية حسب مزاجات السهرة. هاته الأخيرة غالبا ما تبدأ بايقاع خفيف يتوافق مع حماس الفتيات كالقبايلي، وصلات راي متفجرة بالصراخ، منتهية بمقاطع رومانسية يتمايلن عليها متعانقات .
تصنع جميلات “القالا” كما أشاء وصديقاتي تسميتهن حلقة وسط الأضواء، يتناوبن فيها على الرقص مستعرضات كل الحركات التي تدربن عليها طوال العطلة. هناك دائما بطلات معروفات باحترافهن رقصات دون غيرهن، تنادى خليدة خصيصا لرقصة “توورك”، سماح لرقصة شاوي محترفة، بينما تتقابل اثنتان من الشرق على أغنية للريميتي، يعقدن شالاتهن على مستوى الخصر، تثبتان عمودا خشبيا بينهما ينتهي طرفيه على سُرّة كل واحدة فيهما، تهتز بطنيهما بتناسق عجيب يحفظ للعمود المتكئ ثباته.
أحيانا تكون هذه البطلة فتاة ملثمة بشالها، محترفة محبة للرقص تخاف العواقب المحتملة لاختطافها الضوء وسط عشرات الفتيات. يحدث أيضا أن تطلق إحداهن لنفسها العنان على ‘هزة نايلي’ إلى أن يغمى عليها، يرش عليها الماء مصحوبا ببسملات واستغفارات، ‘فلانة طاحت في الحال’، يقفز الخبر بين الحاضرات.
تلتحق فتاة ما مترددة عاقدة ذراعيها، تأخذ دقائق لمعاينة الجو، رؤية الباقيات يرقصن منطلقات متصالحات مع أجسادهن يخفف عنها التردد، تدريجيا يستجيب جسدها للإيقاع، تصنع لنفسها مساحة للتحرك، لتبتلعها كتلة متمايلة، تجمع طيفا من اختلافات المظهر، الشخصية وكل مكون انساني.
عالم موازي متخفف من الأحكام، تملؤه الزغاريد
كل ما تحتاجه هو جولة بين الغرف، عين لاقطة للتفاصيل، وأذن مُرهفة، ليُشكّل ذهنك صورة بانورامية تنسجم فيها المتناقضات. تسيل الأضواء على العتبات، وتفر الأصوات من خلال الجدران، مخبرة عن أمزجة صاحباتها. على الدرج عاشقة تحتضن الهاتف هامسة، وأخرى تغني بينما تغسل الأواني في حوض الحمام. حنفيات تفتح وتنسى ثاغرة الأفواه، قدر ضاغط يصفر، تراتيل وأدعية جماعية تصل من المصلى في أقصى الزاوية، بينما يكسر الغناء الصادر من مكبر صوت على نافذة أخرى السكون في الساحة.
قهقهات، بكاء ونحيب، زغاريت بلا مناسبة تقف خلفها، جدالات على تنظيف المرحاض، شتائم فقدت هيبتها الصادمة من فرط تكرارها.
الروائح بدورها تتفشى لتفشي ما أوصدت عليه الأبواب، أعشاب وبخور، سجائر مختلفة النكهات، مسك، عرق، مواد التنظيف، طبيخ، خبز وخمير، قهوة حديثة الجهوز، كحول، أدوية طبيعية، مستحضرات التجميل، شعرات تحترق تحت المجفف، بالوعة مسدودة، فضلات القطط، وكل ما يعلمه الأنف وما يجهله.
الزغاريد طقس يومي هنا، لا نحتاج مناسبات لنمارسه. تماما كما لا نحتاج أن نبرر جولاتنا الليلية في الساحة، نوماتنا الصباحية المتأخرة، فوضى غرفنا، اتصالاتنا الهاتفية، ملابسنا، تسريحات شعورنا، أذواقنا الموسيقية، رقصاتنا في الساحة تحت قطعة سماء مقمرة، سهراتنا الصاخبة، وأحاديثنا في كل شيء وعن أي شيء.
هنا أيضا نحكي للجدران، وتحكي عنا.
هنا أنا أمي، هنا أشعر بالأمان
الغرفة في الإقامة هي معمل بورشات مصغرة لكل شيء، تستعملينها للطبخ، الدراسة، خياطة ملابسك وكيها، وإذا كنت ناشطة جمعوية، تغدو غرفتك تلقائيا مكانا للاجتماعات. أتذكر صديقاتي ، يلبسن البيجاما، وهن يتدربن على مناظرة تنافسية حول التغيّر المناخي داخل الغرفة بينما أعد العشاء في الزاوية.
بعض الفتيات يمارسن أنشطة تجارية مصغرة أيضا، كبيع المأكولات والملابس، الحلاقة، أغراض التجميل، التدليك، الطباعة، تحضير البحوث وغيرها. تعلق الإعلانات على الحيطان، أو تنشر على مجموعة الفيسبوك التي تضم كل المقيمات. في الأعوام الماضية عكفت جمان على تحضير ‘المحاجب والكرنطيطة’ مستخدمة فرنا قديما أحضرته من المنزل، كنت أوصيها ليلا بأن تحسب حسابي وإلا استنفذت الفتيات كل الطلبيات، كثيرا ما أراحتنا جمان من الحاجة للطبخ، وأنقذتنا من وجبات ‘الريسطو’ (مطعم الإقامة) المعدة والموزعة بكل فظاظة، ومن أكل المطاعم الذي يهدد ميزانياتنا المتواضعة. حاولت بعض الرفيقات منافستها فأعلنّ عن خدمات بإضافات كـ’محاجب بالمرقاز’، لكن ما لبثن أن انسحبن. “يديهم ماشي بنان”، تتفاخر جمان بيديها اللذيذتين، هي اللتي فازت بآخر مسابقة للطبخ التقليدي داخل الإقامة.
هو مشهد متكرر ذلك الذي تشتكي فيه الفتيات من ‘الميزيرية’ لأهاليهن وكذا في الأحاديث بينهن، تخبرني زينب: “بدل أن تركزي على الهدف الذي جئت من أجله ألا وهو الدراسة، تجدين نفسك تائهة بين توفير الأكل والتنقل وتهئية جو مناسب مريح”. هذه المعاناة اليومية، تبني في أغلبنا الشعور بالاستقلالية والمسؤولية، هذين اللذين لا نجد المساحة الكافية لممارستهما في كنف العائلة. “تعلمت أن أتصرف ماليا، أن أنتقي الخضار الطازجة وأن أنظم وقتي بما يتسع لدراستي وبقية المهام من طبخ وتنظيف”، تقول إكرام.
لا تستوعب صديقتي ريم تذمر الرفيقات اللواتي يصل الأمر بهن أحيانا إلى الكآبة والمزاج الحاد، خاصة إذا جاوزن عتبة الشهر من البقاء في الإقامة. على نقيضهن، تبرع ريم في خلق زاوية هادئة وأنيقة بين الجدران الأربعة، شاعرة بالأمان والخصوصية، هذان اللذان تفتقدهما في المنزل “أنا أهرب للإقامة لأحصل على شهر أو شهرين من السلام هنا”. مشاكل مثل انقطاع الماء داخل السكن الطلابي تغدو تافهة في عيني ريم (اسم مُستعار) مقابل الحرية التي تمنحها الإقامة، حرية التصرف في الأشياء بعيدا عن املاءات ورقابة الإخوة. تتساءل صديقتي بتهكم ساخر:” كيف تستطيع بعض الفتيات التظاهر بأن الإقامة مكان غير صالح للعيش فقط بينما لا تستطيع في بيتها أن تتحدث في الهاتف دون أن تتعرض لتحقيق عائلي ! ”
في الليالي الصافية أجدني أترصد مجالس السهر التي تجتمع فيها الفتيات على دلو تتكئ عليه عازفة إيقاع موهوبة، ترافقها أصوات قوية وحنونة، تدور الأغاني حول موضوعات متكررة، فراق الحبيب، الغربة، اشتياق الأم واعترافات حميمية خجولة. “ياما تحت اللوزة، ياما وعطاني بوسة”، تعلن المغنية الرئيسية في المجموعة، تردّد الباقيات، وتنطلق الضحكات والزغاريت في الفضاء. يحجز الفن مكانا له أيضا في زوايا الغرف، رسم، تطريز وتشكيل، تتحرك الأيادي الناعمة منتجة قطعا من جمال.
هنا متسع للجريمة أيضا
مع الوقت فقدت الإحساس بالدهشة كلما تناهى إلى مسمعي خبر مثل تعرض إحداهن للسرقة، تخريب الغرف، أو حتى حرقها عمدا. الانتقام محرك قوي لتصفية حسابات أساسها الصراع حول شيء ما. قد يكون هذا الشيء الغرفة بحد ذاتها، الدراسة أو حتى رجلا بجيوب ممتلئة. كالمرة التي تعرضت فيها إحداهن لسرقة أغراضها من الغرفة، تركت لها المعتديات معطفها مشوها بالسكين، رسالة مشفرة تأمرها بمغادرة الغرفة وإلا تكرر الاعتداء.
أحيانا لا يكون هناك أي دافع شخصي، كالاختراق العشوائي للغرف أواخر وبدايات العام الدراسي. تشكل المخربات مجموعات مصغرة تتحرك في الخفاء، تكسر الأبواب، تنهب ما يصلح للاستعمال، وبشكل غير مبرر يكسرن ما لا يحتجنه، كالنوافذ. كل عام يثور الجدل حول من المسؤول عن هذه الظاهرة، تبدو الفتيات كائنات ألطف من الإقدام على هكذا فعل وحشي. يتهم عمال الإقامة بفعل ذلك لخلق فواتير جديدة بعنوان الترميم والإصلاح من أجل التغطية على ثغرات أخرى في تسيير الميزانية.
“رُشي زوايا الغرفة بالملح”
كانت ليلة للذاكرة، تلك التي قرر فيها جني ما “مسّ” حليمة، طالبة مقيمة. هذه الأخيرة -والعهدة على صديقاتي الراويات الشاهدات للحدث- أخذت حماما وقت المغرب، لتخرج منه وترقص أمام المرآة بينما تسرح شعرها، لتنقلب حالتها، وتنقلب معها كل الإقامة.
تغيّر صوتها، بدأت تتصرف بشكل غريب ومخيف، ينفتح الباب بعدما فقدت صاحباتها السيطرة على الوضع وفشلن في محاولة تهدئتها، ينتقل الخبر سريعا، يزداد وقع الأقدام، أقدام عشرات الفضوليات اللواتي لم يتمالكن إلا أن يرين بأمهات عيونهن الفتاة ‘المسكونة’. تنادى ‘أعيان الطالبات’ للمهمة المستحيلة، رقية المسكينة، تجلس صاحبتنا على كرسي وسط الغرفة، تتكلف فايزة ‘تع المنظمة’ برشها باالماء المرقي، بينما تردد سارة ‘الجلبابية’ آيات وأدعية آمرة بين الفينة والأخرى ‘اخرج لعنة الله عليك، اخرج منها’ . أقف على حليمة خائرة القوى، ترتعش بردا كعصفور يصارع للنجاة من بركة ماء. تكبيرات، صرخات، اغماءات، القرآن يعلو من النوافذ، لا فتاة باتت وحيدة ليلتها. تطلّب الأمر ساعات ليصل الإسعاف وينتهي الهرج بحقنة مهدئة، نومة عميقة لحليمة، وطويلة لباقي الفتيات. رفيقتي في الغرفة بلّلت فراشها.
أحاديث المس، اللطم، السحر والعين جزء متأصل من حياتنا هنا، تكملها توصيات الأمهات “لا تأكلي من عند الغريبات، لا تعيري ملابسك، رشي زوايا الغرفة بالملح”، تُكرّر أمي دائما في اتصالاتها. تستغل بعض الطالبات الخوف الجمعي من هذه المسائل في مزحات لا تخلو من حس فكاهي ثقيل، كتلك المرة التي وضعت إحداهن كيسا صغيرا في خزانة غرفتنا ، مغلقا على شكل صرة يحوي ريشا، أظافرا، أمعاء قد تعود لفأر أو دجاجة، ومواد لزجة لم نميزها. “هذا عفن وليس سحرا”، طمأننا راقي الإقامة. تتعوذ بعض المؤمنات الشديدات بهذه المسائل كلما مرت بقطة، هذا الكائن اللطيف الذي يشاركنا المكان، كائن بسبعة أرواح.
المكبوتات الاجتماعية والعقد النفسية تنفجر كل وقت بأشكال متعددة، أكثر ما يعريها الصدامات والمشادات بين الفتيات حول مشاكل يدور أغلبها حول الهيمنة على الغرفة: من تتحكم في مواعيد النوم، زيارات الصديقات وتقسيم المصاريف. تأخذ هذه الحوادث الحصة الأكبر من الأحاديث والجمعات. المسبات حين الاحتدام تعلن عن جهوية متجذرة في الأذهان، تحاك المؤامرات بين بنات المنطقة الواحدة ويتحزبن للدفاع عن ‘بنت البلاد’ المعرضة للـ’الحقرة’. بطرق متعددة، تذوب هذه التحزبات، تعقد صداقات قوية، وتغادر الفتيات هذا المكان باكيات على فراق الصاحبات من الولايات الأخرى.
البقاء للمنظمات والجماعات
في طابور طويل، أنتظر أنا وعشرات الفتيات أدوارنا لنحصل على وجبة العشاء، من الباب المقابل لقاعة الطعام تدخل جماعة ‘توحة’ (اسم مستعار)، توحة نفسها تلف شالها عصابة على رأسها، تتقدم رفيقاتها الثلاث، هؤلاء ينزعن عنهن الحجاب الذي يضعنه خارجا. يتوجهن مباشرة متجاوزات كل الطابور للعونين المشرفين على توزيع اللحم والفاكهة، تملأ قفتهن أضعاف ما سنحصل عليه نحن المنتظرات منذ ربع ساعة أو أكثر، يلتفتن مغادرات دون أن يتصدقن علينا بنظرة واحدة.
تتهامس الفتيات معترضات، ‘هذو بنات المنظمة’ تقول إحداهن تفسيرا للموقف. الحصص الزائدة في الطعام هي واحدة من الامتيازات التي تحظى بها المنتميات للمنظمات الطلابية دونا عن بقية الطالبات، امتيازات أخرى تشمل غرفا زائدة، أماكن محجوزة في الرحلات ‘الثقافية’ المموّلة، ضمان الانتقال الدراسي، الضغط على الإدارة، والتملص بسهولة من كل المشاكل التي قد تعترض حياة الطالب الجامعي.
بشكل ما ولأجل هذه الامتيازات، تبدو المنتميات للمنظمة كمن يتحكم بزمام الأمور داخل أروقة الإقامة، غرفهن معروفة العنوان وتحركاتهن تخطف الأضواء. يحدث كثيرا أن تلجأ لهن بقية الطالبات لمساعدتهن في حل مشاكلهن، كالصراعات الصغيرة داخل الغرف التي تتعذر فيها الحلول البينية بين رفيقات السكن، فتلجأ إحداهن لطرف ثالث ذو سلطة، بنات المنظمة.
الأخوات هن وجه آخر للتنظيمات الطلابية داخل الإقامة، وجه مسالم أغلب الوقت. يتركز نشاطهن في المصليات، ينظمن حلقات لتحفيظ القرآن والتثقيف في أمور الدين. باقتراب رمضان وبقية المناسبات الدينية، يحدث أن يتحركن أفواجا يوزعن منشورات، تهنئات أو يجمعن تبرعات لفائدة محتاج ما.
تنفر أغلب الطالبات من الانتماء للمنظمات أو حتى الاحتكاك بها تجاوبا مع ما يشيع عنها من ممارسات منفرة، مثل التعرض للمساومة لقاء خدمة ما. كوسيلة أخرى لحماية أنفسهن، تتكتل بعض الفتيات تلقائيا في مجموعات قد تأخذ اسم المنطقة التي ينحدرن منها، أو اسم واحدة منهن فرضت لنفسها مكانة بطريقة أو بأخرى.
يشيع عن كل ‘كليكة’ وصف معين، ‘نتوما جماعة البرواقية متكبرات’، تَكرّر على مسامعي هذا الانطباع كثيرا عن بنات المدينة التي آتي منها.
عين المجتمع وسوط الإعلام
قبل سبع سنوات، نشرت إحدى القنوات الخاصة تحقيقا صحفيا من داخل إحدى الإقامات بالجزائر العاصمة، تسللت فيه المراسلة بين الفتيات، وسرّبت صورا لما سمته القناة ‘فضائح’ الجامعيات، من بينها أن يتم تهريبهن في سيارة الاسعاف ليلا ليسهرن خارجا . ‘الهواري’، اسم عون الأمن المشارك في العملية صار اسما يرمز لكل أعوان الإقامات الذين يستغلون الطالبات لأغراض جنسية، أو يسهلون هذا الاستغلال لآخرين.
تخبرني صديقتي زينب التي كانت قاطنة بنفس الإقامة، كيف أن هذا الروبورتاج سبب نتائج كارثية على بقية الطالبات، كالضغط النفسي من طرف العائلات التي استجوبتهن حول صحة ما جاء فيه. بل حتى أنه ساهم في زيادة نسبة التحرش أمام الإقامات وتحوّل النبرة إلى أكثر دناءة وعدائية. تواصل زينب وتروي لي عن إقامة جامعية تم بناؤها وسط حي سكاني، كان من المفترض أن تكون للذكور، لكن بمجرد تسليمها للبنات انتفض سكان الحي محتجين رغبة في غلق الإقامة، بحجة أن ذلك الحي ‘محترم’.
ذلك التقرير الصحافي، وغيره الكثير ساهم في تعزيز حكم مجتمعي مسبق حول ‘بنت لا سيتي’، هذا المصطلح الذي تُعلق عليه زينب: “نسمعه كل وقت لكننا بالمقابل لا نسمع مصطلح ولد لا سيتي”.
خلال مسيرتي الجامعية، لطالما شعرت أنني في موضع اتهام ما دمت أدخل وأخرج من باب الإقامة. هذا الإحساس كان يعلن عن نفسه بشكل مباشر في مواقف كثيرة، في التحرشات المخيفة للعابرين، التعامل المقرف للإداريين، الاستهجان المزعج للأسرة والأقربين، وكلما صادفت منشورا عن ‘فيديو مسرب من الإقامة’ وما حذا حذوه على السوشل ميديا.
إحساسي بأني متهمة يغدو حقيقيا جدا كلما فاتتني حافلة النقل ووجدتني أشق طريقي راجلة، عاجزة عن سدّ أذني عن كل ما يلفظه الماشي والراكب.
“نعمة بوتفليقة”
أتذكر تلك المرة التي مر فيها شاب ما على دراجته النارية بينما أنتظر ضمن مجموعة طالبات حافلة النقل، وقال غاضبا: “بوتفليقة هو اللّي خلاكم تتفرعنوا وما تحكموش بيوتكم”. تاريخيا، لم يكن من السهل على الفتاة الجزائرية تجاوز الأعراف المتحفظة حتى صار بإمكانها الالتحاق بالجامعة والسفر للدراسة بعيدا عن البيت.
في الفترة من الاستقلال حتى الثمانينات اقتصرت الدراسة في الجامعة على فتيات المدن الكبرى اللواتي كان عددهن قليلا جدا ولم يسمح لأغلبهن بالمبيت في الإقامات لدواعي الحفاظ على السمعة والشرف، نفسها التي عززها دخول المد الاسلامي بقطبيه السلفية والإخوان في تلك الفترة. عوامل أخرى مثل السن المبكر للزواج والظروف المادية كان لها دور أيضا في تقييد الدراسات العليا للمرأة الجزائرية.
زادت الأمور سوءا في عشرية التسعينات التي ألقى التطرف فيها بظلاله على الكثير من الجزائر، أين صار الخوف يُتَنَفَسُ مع الهواء. لا يزال الجزائريون يستذكرون المذبحة التي قرّر فيها المدعو ‘الذيب الجيعان’ ذبح 11 معلمة كن يعملن في منطقة نائية بولاية سيدي بلعباس نهاية سبتمبر عام 1997. الشهر الأول من نفس العام، وقعت حافلة ركاب في حاجز مزيف بمنطقة بن طلحة بالعاصمة، قرر قائد العملية جرّ آمال زنون، طالبة حقوق بجامعة الجزائر، وذبحها لوحدها أمام الجميع، لتكون عبرة لمثيلاتها.
انفرجت الأزمة مع “ميثاق السلم والمصالحة الوطنية” التي جاء بها نظام بوتفليقة، والذي أطلق أيضا، وبمباركة البترول، مشروع ‘جامعة في كل ولاية’ مع ضمان المنح، الإطعام، الاقامة والتنقل لكل الطلاب، وأهم من كل ذلك توفير الأمن. وهنا بدأ الانفتاح يحدث تدريجيا، يحثّه الوضع المعيشي الذي صار يُملي مشاركة المرأة في الدخل المادي، وبالتالي مواصلة دراستها الجامعية.
نهاية فبدايات
“اللي ما جربتش لا سيتي لم تجرب شيئا”، تقول زينب. أتذكر الفتاة التي كنتها حين دخلت أول يوم، خائفة ساذجة، ووحيدة. مرّت الأيام هنا حاملة الكثير من الضحكات، العناقات، حكايات آخر الليل، المغامرات الصغيرة، النكت البذيئة، الدموع التي لا تلبث أن تجف بمواساة الصديقات. نغادر هذا المكان محملات بما يلزمنا لنشق دروبا متفرقة، في الخارج ينتظرنا عالم البالغين، الأكثر مللا.