لم يظهر العالم الجديد على الخارطة الأوروبيّة إلا بعدما أكمل الملّاح الإيطالي كريستوفر كولومبوس رحلاته على متن سفينة إسبانية للبحث عمّا سمّي بـ «العالم الجديد»، وفق المصطلح الذي أُطلِق على جغرافيّات لم تكن مُكتشفة من قبل الأوروبيين حتى ذلك الوقت. أسهمت رحلة كولومبوس في إدراج الأميركيتين والجزر الكاريبيّة على تلك الخرائط، وفتحت شهية المستعمرين الأوروبيين للاستيطان فيها. «أرضٌ بلا شعب»، هذا ما رُوّج عن جزيرة السلحفاة، أو ما يُعرف اليوم بأميركا الشمالية، كتبريرٍ لاستيطانها.
استمرّت هذه السردية إلى ما بعد فترات الاستعمار، وترسّخت في كتب التاريخ وفي احتفالات عيد الشكر السنوية التي تُثبّت سردية اكتشاف «عالم جديد» لم يكن إلّا استلاب وحشيّ للأرض من شعوبها الأصلية.
منذ أن حطّت السفن الأوروبيّة على شواطئ القارّة المجهولة، شكّلت الخرائط، ولا تزال، أداةً أساسيّة بيد الاستعمار، وتحديداً الاستعمار الاستيطاني الذي يقوم على استبدال أهل الأرض بالمستعمرين، بخلاف الاستعمار الاستغلالي الذي يشتمل على استنزاف موارد الأرض وفائض قوّة عمل سكّانها.
مثل اللغة والتعليم والإعلام، تندرج الخرائط ضمن قائمة القوى الناعمة للإمبريالية، كونها تهيّئ أرضيةً خصبة لقواها الساعية إلى تحقيق أي استعمار أو غزو. ترسم الخرائط حدوداً جديدة، تُسقطها على الأرض وعلى سكّانها الأصليين إسقاطاً. وغالباً ما بدأت حدود الغزاة الأوروبيين كخطوطٍ على الخرائط قبل أن تتحوّل إلى جدرانٍ وحواجز صلبةٍ على الأرض.
لعقودٍ من الزمن، امتدّت سياسات الاستعمار الاستيطاني لمحو الشعوب الأصلية وإبدالهم بالغزاة، عبر استعمال القوتين الصلبة والناعمة. تتضمن هذه السياسات ترسيم الحدود الجديدة وفق رؤية المستعمر، بدءاً بتغيير الخرائط، ومحو لغات الشعوب الأصلية ومنعهم من التحدّث بها أو تعلمها في المدارس، بالإضافة إلى مجهودٍ كبير في التحكم بالديموغرافيا عبر القتل أو سياسات التعقيم الإنجابية التي تُفرض على الشعوب الأصلية. وهنا نشير إلى تجارب فتيات ونساء من الهنود الحمر في القارّة الأميركية، اللواتي أخضعت حوالي سبعين ألفاً منهن لعمليّات تعقيم قسريّة في المستشفيات. وقد ساهم الـ «يوجينيكس» أو علم تحسين النسل في هذه السياسات عبر الترويج لأفكار تحسين النسل والحدّ من تناسل بعض الفئات المجتمعية على أساس طبقي عرقي.
خريطة “العالم الجديد” التي نُشرت عام 1540 في الطبعة الأولى لكتاب Sebastian Munster
إشكاليّة الجغرافيا والإسقاط المسطّح
في كلّ مرّةٍ نُحاول أن أن نقيس خطانا ونتعرّف إلى وجهاتنا، نلجأ إلى خرائط «غوغل» على الهاتف الذكي، تماماً كما كنّا نبحث عن موقعنا على الخرائط المطبوعة في الأطلس. وفي سعينا هذا، نتعامل مع الخرائط كأداةٍ علمية موضوعية مجرّدة. لكنّنا نغفل عن أنّ هذه التضاريس الحياديّة في الظاهر، لا تجسّد الواقع، إنما تعيد رسمه عبر إعادة تشكيل وعينا، بوصفها إحدى أدوات إنتاج المعرفة التي يعتبرها الفيلسوف ميشال فوكو شكلاً من أشكال القوة. ولفهم سطوة الخرائط، والأيديولوجيّات التي تُثقلها، نستعين بوصف عالم الجغرافيا ماتيو سبارك: «الخرائط تشكّل عالماً، يشكّل بدوره خرائطه».
واجه رسّامو الخرائط عبر العصور تلك العلاقة المتعذّرة مع الواقع. اصطدموا باستحالة النقل الدقيق للكرة الأرضية المدوّرة، أو حتى تطبيق مقاساتها الصحيحة على خريطةٍ مسطّحة. يعود ذلك إلى أربعة معايير أساسيّة لا يُمكن الحفاظ على دقّتها كلّها في الخرائط المستوية، وهي؛ المساحة، والمسافة بين نقطتين، والاتجاه، والشكل. إذ أنّ كلّ محاولةٍ لضبط أحد هذه المعايير، ستؤدّي إلى خطأ في معايير أخرى.
بعد سنواتٍ من محاولات تقليص حجم الأخطاء في الخرائط، ابتكر رسّام الخرائط الفلمنكي جيراردوس ميركاتور (1512 -1594 م)، إسقاطاً جديداً بات يحمل اسمه، ولا يزال يُعتبر من الإسقاطات الأكثر شيوعاً اليوم، ويستخدمه تطبيق خرائط غوغل. وفي حين كان هذا الإسقاط دقيقاً تماماً للملاحة وحفظ المسافات بين النقاط المختلفة، إلا أنه يفتقر إلى الدقّة في ما يتعلّق بأحجام القارّات التي تبدو مختلفة تماماً عن واقعها؛ قارّة أفريقيا مثلاً هي أكبر مما تظهر عليه في خرائط ميركاتور، كما أنّها تفوق القارّة الأوروبية حجماً. أما غرينلاند وأنتركتيكا، فحجمهما أصغر ممّا تبدوان عليه في منهج ميركاتور. هذه الأحجام ستظهر دقيقةً تماماً في إسقاط غال – بيترز، الذي ابتكره رجل الدّين والفلكي الاسكتلندي جيمس غال منتصف القرن التاسع عشر، قبل أن يقدّمه مجدّداً المؤرّخ الألماني آرنو بيترز القرن الماضي. في هذا الإسقاط، نقل غال ومن بعده بيترز المساحات بدقةٍ على الخرائط، لكن على حساب الشكل الذي يبدو ممطوطاً مقارنةً بالواقع.
بالإضافة إلى الأحجام المغلوطة لإسقاط ميركاتور، فإنّ موقع الشمال عبر العصور لم يكن يقع أعلى الخريطة مثلما لم يكن موقع الجنوب في أسفلها. في الخرائط المسيحية القديمة، مكث الشرق في الأعلى بسبب أهمّيته الدينية، وفي الخرائط الإسلامية، كان الجنوب في أعلى الخريطة التي تبدو الخرائط الحاليّة انعكاساً مقلوباً لها.
لا يُمكن القول إن الخرائط هي العامل الوحيد في تعزيز الاستعمار، إلّا أنّ دورها كان حاسماً في تشكيل نظرتنا للعالم وموقعنا منه، أكان لناحية الأحجام المغلوطة للقارات أو لناحية موقع الشمال الذي استقرّ في أعلى الخريطة. وقد ساهم هذا التموضع المستحدث في تعزيز المركزية الأوروبية، عبر التصوير المغلوط لأوروبا، الذي عكس صورةً خاطئة عن حجمها وقوتها، ما ساهم في توسيع استعماراتها.
على مرّ الحقبات الزمنيّة، سهّلت الخرائط، وخصوصاً تلك التي تعتمد على إسقاط ميركاتور، وصولاً إلى الخرائط الرقمية اليوم، الهيمنة والاستعمار، مثلما نرى في فلسطين الانتداب البريطاني، تليه النكبة وحتى اليوم. إذ أنّ الخرائط، وخصوصاً تلك الرقمية، تتصدّر أدوات البروباغندا الإسرائيلية خلال حربها الحاليّة على لبنان، عبر بثّ الذعر بين السكان، والسعي المستمرّ لدفع الجنوبيين إلى شمالي نهر الليطاني.
المصدر: practicalgeoskills
خرائط النار الحمراء
في حرب تمّوز عام 2006، لم تكن التكنولوجيا متطوّرة بالدرجة نفسها في ما يتعلق بوسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية، أو خرائط غوغل. ولا بد من التساؤل هنا حول التسهيلات التي قدمتها الخرائط الرقمية مع التكنولوجيات الأخرى لإسرائيل ولحزب الله، لاستقاء المعلومات حول الطرف الآخر. ففضلاً عن صور الأقمار الصناعية، باتت أحوال الطرقات، وحركة النزوح وفقاً لكثافة زحمة السير في مناطق واتجاهات معينة، ومواقع وأشكال الأبنية والأحياء، متوفّرة بسهولة، خصوصاً بفضل خدمة «ستريت فيو» التي أصبحت متاحة بشكل أكبر في السنوات الأخيرة في بعض المناطق اللبنانية.
يوميّاً، يغرّد رئيس قسم الإعلام العربي في الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، داعياً السكّان لإخلاء مناطق في لبنان، أغلبها يقع في الضاحية الجنوبية لبيروت ومنطقتي البقاع والجنوب، قبل أن تُقصف بذريعة تواجد أسلحة وذخائر لحزب الله فيها. تغريدات أدرعي تأتي غالباً قبل مدة لا تتجاوز الـ 10 دقائق من القصف، هي المدّة التي تمنح للسكان للخروج من الأبنية والمنطقة، ومحيطها البالغ حوالي 500 متراً. تعتمد هذه الدعوات على الخرائط كأداةٍ أساسية، فتُحاط المباني التي ستُستهدف باللون الأحمر، منها دوائر حمراء تلفّ أحياء بأكملها. وللمفارقة، سرعان ما تستحيل هذه المناطق، بعد بضعة دقائق، بقعاً حمراء في الواقع، لكن بهيئة كتل ناريّة تُضيء سماء العاصمة اللبنانية وأرضها جرّاء إلقاء أطنان من القذائف القابلة للاشتعال على أحيائها.
بالإضافة إلى الذعر والتهجير الذي يعيشه اللبنانيون جراء الحرب، فإن استخدام خرائط تحمل أسماء مبانيهم وشوارعهم هزّ علاقة الأشخاص بأماكنهم الحميمية والشخصيّة التي أضحت مستباحة أمام آلة القتل. تُرفَق الخرائط بتحذيرات مُشبعة بنبرتي الأمر الصارمة والحرص الزائفة. وفيها، يصرّ جيش الدفاع على إظهار نفسه مُخلّصاً للمدنيين، وأنه لا يهدف إلى أذيّتهم بقدر ما يتقصّد استهداف منشآت لحزب الله، بخلاف ما تؤكّده الغارات على منازل وأحلام الكثيرين من سكان الضاحية والبقاع والجنوب وغيرها من المناطق.
أما «تحذيرات» أدرعي قبل القصف الذي يطال الجنوب اللبناني، فتظهر فيها محاولات واضحة لدفع الجنوبيين إلى شمالي نهر الليطاني. ويستخدم فيها أفعال الأمر؛ «نطالبكم بعدم التحرك بالمركبات من منطقة الشمال إلى منطقة جنوب نهر الليطاني»، أو «ممنوع عليكم التوجه جنوباً. أي تحرك نحو الجنوب قد يشكل خطراً على حياتكم»، أو «عليكم الامتناع عن التوجّه جنوباً». لا يجب فصل هذه الصياغة عن الأطماع الإسرائيلية التاريخية بالجنوب بنهر الليطاني تحديداً، بعد إبعاد الناس عن أرضهم ومواسمها الزراعية، كما أكّد أدرعي في تغريدة نشرها قبل أيّام، داعياً فيها أهل الجنوب إلى الامتناع عن زيارة أراضيهم الزراعية خلال موسم قطاف الزيتون.
تتجاوز الدعاية الإسرائيليّة، إشكاليّة الخرائط المسطّحة، وتلجأ إلى شرائط بالأبعاد الثلاثة لإظهار تخزين حزب الله للصواريخ في المنازل. ساهم الفيديو الذي نشر في الأيام الأولى للحرب على لبنان، في تبرير قصف جيش الاحتلال للأهداف المدنية من دون الحاجة حتى إلى دعوات الإخلاء. للتقنية الثلاثية الأبعاد تأثير نفسي تجعل المشاهد تبدو كحقيقة قائمة، لا كمجرد دعاية لتصنيع الموافقة لدى الرأي العام الإسرائيلي أو الدولي لقصف المنازل والجهاز الطبي وتدمير البنى التحتية لمدن بأكملها وفق استراتيجية «عقيدة الضاحية» المستقاة من حرب تموز 2006. الذريعة نفسها يستخدمها الجيش الإسرائيلي لتدمير المراكز الطبية والبنى التحتية وغزة بأكملها كما دأب خلال عام من الإبادة في القطاع المحاصر.
خريطة متخيلة للضاحية الجنوبية. خط ٣٠
تهويد الأرض الفلسطينية
يسيل لُعاب المستعمر فوق الخرائط كُلّما همّ بالاستيلاء على أرضٍ، بدءاً من الأميركيتين، وصولاً إلى ما يُعرف اليوم بـ «الشرق الأوسط»، ومروراً ببقاع مختلفة من العالم.
إبّان ضعف السلطنة العثمانيّة، أخرجت اتّفاقيّة «سايكس-بيكو» (1916) من تحت قبّعتها «الشرق الأوسط» كما نعرفه اليوم. تقاسمت بريطانيا وفرنسا، بموافقةٍ روسيّة المنطقة، بخطٍّ رسم على الخريطة ووزّع أقسام المنطقة بين الدولتين من دون الأخذ بعين الاعتبار واقع شعوبها، وتنوّعها الإثني والعرقي والطائفي، ولا حدودها العضوية التي كانت قائمة آنذاك. تسمية الشرق الأوسط نفسها تُعدّ تسمية نسبية نابعة من المركزية الأوروبية ومن موقع المنطقة الجغرافية بالنسبة إلى أوروبا.
تكرّرت أكذوبة المستعمرين نفسها في فلسطين المنتدبة. هناك، روّج رسامو الخرائط الصهاينة لخريطة «الأرض التي لا شعب لها» من أجل تطويعها لتصبح وطناً قوميّاً لليهود، أو لـ «الشعب الذي لا أرض له». وقد دأبوا، طوال عقودٍ، على تطويع الخرائط لخدمة استيطانهم، الخرائط نفسها التي كان لها دوراً محورياً في المشروع التوسّعي في فلسطين منذ ما قبل الانتداب البريطاني وصولاً إلى الاستيطان الصهيوني. فبعد المؤتمر الصهيوني الأوّل الذي عقد في مدينة بازل سنة 1897، استخدم «الصندوق القومي اليهودي» (JNF) خرائط عبرية للأراضي المقدّسة لتشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين الواقعة تحت حكم السلطنة العثمانيّة حينها.
عام 1865، أي قبل ثلاثة عقود من تاريخ المؤتمر، أسّست الحكومة البريطانية «صندوق استكشاف فلسطين» (PEF)، الذي أرسل بعثاتٍ حكومية، تحت غطاء ديني وأكاديمي لاستكشاف فلسطين. يعتبر هذا الصندوق الأقدم في العالم لاستكشاف المشرق وتحديداً الأراضي المقدسة، وقد خرج بمسح بالغ الدقة للأراضي الفلسطينية وبعدّة خرائط تفصيليّة ومجلّدات تتناول كافة أوجه الأرض؛ آثارها ونباتاتها وتنوّعها الحيواني وثرواتها الطبيعيّة كافّة. أسهم هذا المسح الطوبوغرافي في توفير المعرفة الجغرافية اللازمة للاجتياح البريطاني لفلسطين عام 1917 خلال الحرب العالمية الأولى، وانتدابها في السنوات اللاحقة حتى العام 1948. كذلك، واجه الانتداب البريطاني الاحتجاجات والثورات بالخرائط أيضاً، كما لدى اندلاع الثورة العربية في فلسطين عام 1936 (حتى عام 1939) احتجاجاً على الهجرة المتصاعدة لليهود وعلى إحكام القبضة الصهيونية على الاقتصاد الفلسطيني. ما دفع سلطات الانتداب إلى رسم خرائط جديدة محتملة لتقسيم فلسطين لمناطق عربية ولأخرى يهودية لفضّ الثورة، وذلك أيضاً من دون الأخذ بالاعتبار الواقع الديموغرافي القائم حينها، مثلما تشير الأكاديمية زينة الآغا في مقالها البحثي «الخرائط والتكنولوجيا والممارسات المكانية لإنهاء الاستعمار في فلسطين».
خلال حقبة الانتداب نفسها، استخدمت السلطات البريطانية خريطة صدرت عام 1940، وعليها تسميات عربية مكتوبة باللغة الإنكليزية لفلسطين المنتدبة، ما خلق توتّراً مع الصهاينة الذين أصرّوا على إدخال الأسماء العبرية، لتضاف إلى اللغتين العربية والإنكليزيّة.
لاحقاً، وفي السنوات التي تلت إعلان دولة اسرائيل على أنقاض النكبة عام 1948، انطلقت سياسة التهويد كمشروعٍ وطنيّ حكومي هدفه إبدال الأسماء العربية على خريطة فلسطين بأسماء عبرية. لم تقتصر هذه السياسة على الخرائط التي أضحت مكوّناً أساسياً للدولة القومية اليهودية في فلسطين، إنّما امتدّت لتطال عمليات جيش الدفاع الإسرائيلي، والإعلام، ومناهج المدارس.
اليوم، لا يمكن لأي خريطة جديدة لفلسطين، إلّا أن تصبح قديمة تلقائيّاً، جرّاء سرعة قضم آلة الاستيطان للأراضي الفلسطينية، ولسرعة بناء مستوطنات يهودية جديدة على أنقاض القرى الفلسطينية. عمليّة هدم/ بناء لا يمكن أن تجاري سرعتها خريطة اليوم، باستثناء الخرائط الرقميّة وصور الأقمار الصناعية، وكافّة الأدوات التكنولوجية التي استوعبت الطموحات الاستعماريّة مهما اتّسعت.
الإقليم حسب اقتراح لورنس العرب إبان الحرب العالمية الأولى. المصدر: mapsontheweb.com
غبش التكنولوجيا
ما أظهرته التكنولوجيا من اصطفاف عسكريّ خلال الإبادة المستمرّة على غزّة، وفي الحرب الحالية على لبنان، هو مجرّد استكمال لدور التكنولوجيا الجليّ في استعمار فلسطين. ففي سنة 1997، سنّ الكونغرس الأميركي قانون كايل – بينجامين الذي ألزم مشغّلي الأقمار الصناعية الأميركيين بجودة منخفضة للصور التي يبيعونها لفلسطين ومن ضمنها فلسطين المحتلة، تحت ذريعة الحفاظ على الأمن القومي الإسرائيلي. علماً أنّه خلال العقدين الفائتين، فقدت الولايات المتحدة جزءاً من احتكارها للأقمار الصناعية، ولم يعد لهذا القانون الفعالية كما في السابق، رغم أنّ الدقّة المنخفضة لصور الأقمار الصناعية الخاصّة بفلسطين طوال سنوات، أدّت نوعاً من الحجب الذي صعّب أمر متابعة الجمعيات الحقوقية وتوثيقها لتدهور الوضع الإنساني، والنزوح الكثيف والقضم المستمر للأراضي الفلسطينية نتيجة إنشاء مستوطنات جديدة، كما تشير زينة الآغا في مقالها «قانون الولايات المقيّد لصور الأقمال الصناعية لفلسطين – إسرائيل».
في السياق نفسه، تقود شركات التكنولوجيا العملاقة «بيغ-تيك» جهوداً لتطوير التكنولوجيا العسكرية لإسرائيل، ليس آخرها مشروع «نيمبوس» المشترك بين «غوغل» و«أمازون» لتقديم الخدمات السحابية وتقنيات الذكاء الاصطناعي للجيش. وإثر مساءلات عالمية لتطبيق خرائط غوغل سنة 2016، تذرّعت الشركة بوجود ثغرة تقنيّة أدّت إلى إزالة تسميتي «الضفة الغربية» و«غزة» عن خرائطها التي لا وجود فيها لكلمة «فلسطين» حتى اليوم.
كذلك، تتبنى غوغل الرفض الإسرائيلي بالاعتراف بقرى للبدو في فلسطين المحتلة، فقد بقيت هذه القرى من دون أسماء على خرائطها كأنها مناطق غير مأهولة ولا تسمية لها، مما يمهد لتهجير أهلها وبناء مستوطنات جديدة على أرضهم. لا تطال هذه القيود ما يُعرف بالأراضي الإسرائيلية في المقابل، إذ أنّ خاصية الملاحة في خرائط غوغل تُظهر دائماً الطرقات المصمّمة للإسرائيليين والتي لا يُسمح للفلسطينيين بأن يمرّوا عبرها. كما أنّ إسرائيل تستخدم خاصية الـ «ستريت فيو» (Street View) للترويج للأراضي المقدسة المحتلة وللسياحة في إسرائيل عبر تقديم جولات افتراضية في القدس مثلاً برعاية خرائط غوغل.
المصدر: google earth
Uri Tzafon: مستوطنات مُتخيّلة في جنوب لبنان
بعد عمليّة تفجير أجهزة البيجرز وأجهزة النداء الخاصّة بعناصر حزب الله، التي تُتهم إسرائيل بالضلوع فيها، تصاعدت وتيرة الأحداث بسرعةٍ منذ سبتمبر 2024. وقد رافق العدوان المتصاعد لإسرائيل على لبنان، توسّعاً في الدعاية خصوصاً تلك التي تبثّها منظّمة Uri Tzafon. تعدّ المنظّمة اليمينية الإسرائيلية التي أنشئت خلال الحرب على غزة، إحدى الأطراف الفاعلة حالياً في بثّ البروباغندا الداعية إلى الاستيطان اليهودي في جنوب لبنان. اسم المنظّمة بالعربية يعني «أيقظوا الشمال»، نسبةً إلى مقطع من سفر نشيد الأناشيد (الإصحاح الرابع) الذي يأتي فيه: «ينبوع جنات بئر مياه حية وسيول من لبنان. استيقظي يا ريح الشمال وتعالي يا ريح الجنوب. هبّي على جنّتي فتقطر أطيابها. ليأت حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس». في أبريل هذه السنة، نفّذت المنظّمة أوّل اعتصاماتها لضمّ جنوب لبنان إلى أراضي الاحتلال الإسرائيلي، وفي نهاية يونيو الفائت، أرسل مستوطنون تابعون لها بالونات ومسيّرات إلى جنوب لبنان تحمل تحذيراً يقول «هذه أرض إسرائيل التي يملكها اليهود. مطلوب منك الإخلاء على الفور». والمثير للسخرية أن أحد الأعضاء المؤسسين للمنظمة صرّح أن «الحدود الإسرائيلية – اللبنانية هي حدود استعمارية سخيفة»، مضيفاً أن «ما يسمى «جنوب لبنان»… هو حقًا وبكل بساطة الجليل الشمالي» وفق ما جاء في مقال نشرته مجلّة Jewish Currents بعنوان «داخل حركة الاستيطان في جنوب لبنان».
بالطبع ليست «أيقظوا الشمال» المنظّمة الإسرائيلية الوحيدة الداعية الاستيطان في جنوب لبنان، لكنّها استعانت بخرائط وأدوات تكنولوجيّة وتعليمية لتجعل «الحلم» مرئيّاً. تستخدم المنظّمة في شعارها الأرزة التي تتوسّط العلم اللبناني، لكن هذه المرّة تضعها داخل نجمة داوود. بموازاة هذا الاستلاب الرمزي للشجرة اللبنانيّة، تسطو المنظّمة افتراضيّاً على الأرض بطبيعتها الممتدّة من جنوب الليطاني إلى الحدود مع الأراضي المحتلّة. ولترسيخ المتخيّل الاجتماعي الإسرائيلي لمستقبلٍ يتحوّل فيه الجنوب إلى مستوطنة، نشرت المنظّمة خرائط للقرى اللبنانية، لكن دمغتها بأسماء عبريّة للمستوطنات اليهوديّة التي تدعو إلى إنشائها فوق ركام البيوت المهدّمة. تلك الخرائط المسطّحة، تحوّلت، بفضل الذكاء الاصطناعي إلى قرى وأرياف ومصايف مرئيّة. كأنّما انزاحت قشرة الأرض، لتؤرّخ لتحوّل لافت في الخرائط الاستعماريّة، تمثّل في ترويج المنظّمة لمنازل مستقبلية فخمة، والدعوة إلى شرائها في مستوطنة متخيّلة.
تنطلق المنظّمة من فكرة الأرض الموعودة، وتزرع الحلم في كتب الأطفال، وفق الفيديو الذي انتشر أخيراً على مواقع التواصل الاجتماعي. يُظهر الشريط القصير الأكاديمي الإسرائيلي عاموس عازريا وهو يقرأ قصّةً لابنه عن بطلٍ يافعٍ يُدعى «إيلون». وفق القصّة التي كتبها عازريا نفسه، فإن الطفل المستوطن يحلم بالوصول إلى لبنان، لكنه يعجز عن ذلك بسبب خطر العدو فيه. تأتي هذه السرديات اللغوية كأرضيّة نظريّة للخرائط المستقبلية، إذ توظّف المراجع الدينية اليهودية والتوراة لتُثبت أن لبنان هو جزء من أرض اليهود الموعودة، تماماً كما في مقال بعنوان «هل لبنان هو جزء من الأراضي الموعودة لإسرائيل؟»، نشرته صحيفة The Jerusalem Post الإسرائيلية، وما لبثت أن حذفته لاحقاً بعد الجدل الذي أثاره.
تتكامل دعاية Uri Tzafon المتطرّفة مع الدعاية العسكريّة الإسرائيليّة، ففي حين تروّج الأولى، باستخدام الأدوات الناعمة، للاستحواذ على أراضي الجنوب، تحاول الأخرى بآلاتها العسكرية تحقيق ذلك بعد إفراغه من سكانه على الخريطة قبل الأرض. وبذلك يواصل مشروع الاستعمار الاستيطاني التي بدأت الصهيونية تجني ثماره في الـ 1948، تمدّده مع مطامع توسعية واضحة قد لا تكتفي بلبنان أو جنوبه الذي احتلته إسرائيل منذ 1982 حتى 2000، أي تاريخ تحريره من قبل المقاومة اللبنانية.