ما أن اندلعت الاشتباكات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 أبريل الماضي داخل العاصمة ومختلف أقاليم البلاد، وتوقفت عملية الانتقال السلمي للسلطة بكل عيوبها، حتى تحول السودان إلى العنوان الرئيسي وهدف التغطيات المباشرة والمستمرة على القنوات الإخبارية العربية. وضعٌ لطالما اعتدت عليه في السنوات الأربعة الماضية منذ أن دفعت التظاهرات المستمرة الجيش للانقلاب على 30 عامًا من حكم الرئيس عمر البشير.
وبحكم التجربة، لم يكن ارتباط بلدي بكلمات “مباشر” و”عاجل” على الشاشة مبشرًا بأي خير، بوصفي رجلًا عاش طفولته وشبابه أمام قناة الجزيرة وهي تنقل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، غزو العراق، انتفاضات الربيع العربي وحروبه في مصر وسوريا وليبيا واليمن، ومجريات الانتفاضة الأخيرة، التي جعلتني في مرات قليلة، سواء في مصر أو السودان، لا أشاهد التغطية الإخبارية وأشارك في التواجد داخل الصور المنقولة للجموع الغاضبة، أو أمام طلقات الرصاص.
هذه المرة، اخترت أن أكتفي بالقلق والمشاهدة، بعد أن راودتني مجددًا فكرة العودة للسودان واللحاق بزوجتي التي قررت العودة إلى البلاد كموظفةٍ أممية، تجربة كنت أكررها بيأسٍ بعد انتهاء آخر محاولاتي للعودة بانقلاب الجيش على الحكومة الانتقالية المدنية في 2021 وأنا معدّ برامج سياسية في تلفزيون الدولة.
كنت محظوظًا في النجاة والعودة إلى دبي مقنعًا زوجتي كي تأتي معي، لكن ارتباطها الأقوى بالسودان وطبيعة عملها في المجال الإنساني، جعل وجودها المسالم في بلدٍ آمن كالإمارات مصدرًا للملل، ودافعًا يجبرني مرةً أخرى على تكرار المحاولة. لكن الأحداث هذه المرة، كانت أسرع من تحركاتنا. خاصةً وأن أول مسارح العمليات هذه المرة أدت لإغلاق المطار، المجاور -بصورةٍ أقل ما يقال عنها أنها غبية- لمقرات القوات المسلحة في قلب العاصمة.
واصلت زوجتي عملها من المنزل، كأننا عدنا لشهور الجائحة. وفيما بقينا متسمرين أمام التلفزيون، أخذنا نستمع بعجزٍ لضيوف القنوات الإخبارية من الصحفيين، والمحللين السياسيين، والتسجيلات الهاتفية للجنرالات من طرفي الصراع، لتبادل الاتهامات، وتكذيب طرفٍ لانتصارات الطرف الآخر والإعلان عن سيطرته على العاصمة.
بقينا كملايين من السودانيين المقيمين خارج البلاد، نغالب القلق بالاتصالات الهاتفية وتصفح فيسبوك للاطمئنان على عائلاتنا وأصدقائنا دون قدرة على المساعدة، ونحن نرى بيوتهم، ومراتع صبانا وذكرياتنا الأثيرة تتحول إلى ساحات معارك ومصدر للأخبار العاجلة، اعتدنا كمواطني أطول حرب أهلية في أفريقيا على سماعها، ولكن دائمًا كأمرٍ يحدث في الأرياف النائية، بعيدًا عن مكاتبنا المكيفة ومقاهينا الظليلة في العاصمة.
تضاعف لدي شعور شخصي بالعار، لأن يوسف المدافع عن قائد المليشيا القوي كان صديقًا أعرفه لأكثر من عشرين عامًا، بل واحدًا من الشخصيات التي أثرت على تكويني ونضجي الفكري، دعمني منذ مراهقتي لأصبح الإنسان الذي أصبحت عليه اليوم، ولم أجد القدرة –قبل كتابة هذا المقال – في التحدث عن علاقتي به باستفاضة.
اعتمدت القوات المسلحة على بياناتٍ منشورة وتصريحات الناطق الرسمي وكبار الضباط، وعلى الجانب الآخر، ظهر في تصريحاتٍ صوتية مسجلة وغاضبة قائد قوات الدعم السريع، أمير حرب دارفور محمد حمدان دقلو “حميدتي“، الذي حوّله النظام السابق من تاجر بهائم لم يكمل تعليمه إلى ملياردير ورائد أعمال دموية ناجح ومتعدد التخصصات والسلطات والتحالفات إقليميًا ودوليًا، وبثروته، استطاع إسكات الآلاف وشراء ألسنة المئات، كان من بينهم العديد من الشخصيات التي عرفها السودانيون قبل هذه الحرب بسنوات.
فارس النور، ناشطٌ من رموز العمل الطوعي والإنساني، عاد اسمه للانتشار بعد أن كان نشطًا خلال اعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة في 2019، اكتسب سمعةً جيدة في دعم المتضررين، وسد الاحتياجات التي تفشل الحكومة عن توفيرها للمحتاجين، لكنه عاد الآن بصفته مستشارًا لقائد قوات الدعم السريع، مثيرًا التساؤل والتذمر عن كيف يمكن لناشطٍ إنساني أن يتحول لبوق أحد أمراء الحرب.
كنت أتابع هذا الجدل بصمت، فقد كان يشغل رأسي ولسنوات انقلاب درامي لشخصيةٍ ملحمية أخرى، برز اسمه هو الآخر في الأخبار بصفته “المستشار السياسي لقائد قوات الدعم السريع”، هو يوسف عزت.. الذي أثار سخطًا أيضًا بتصريحاته خاصةٍ التي أدلى بها للتلفزيون الإسرائيلي.. وهو يستجدي تدخلاً من الإسرائيليين، الذين لم تنجح جهود العسكريين في فرض اتفاقية سلامٍ معهم على الحكومة المدنية، رغم ضغوط إدارة ترامب، وتقارب الداعمين الإقليميين بالخليج من تل أبيب.
وأكثر ما أغضب المعلقين السودانيين والعرب من تصريحات عزت هو وصفه لما يحدث لقوات الدعم السريع والسودان الآن وكأنه هجوم إرهابي. شبه فيه الجيش السوداني – الرسمي –وقصف طيرانها ومدافعها للعاصمة بهجمات حركة حماس.
وعلى عكس فارس النور، تضاعف لدي شعور شخصي بالعار، لأن يوسف المدافع عن قائد المليشيا القوي كان صديقًا أعرفه لأكثر من عشرين عامًا، بل واحدًا من الشخصيات التي أثرت على تكويني ونضجي الفكري، دعمني منذ مراهقتي لأصبح الإنسان الذي أصبحت عليه اليوم، ولم أجد القدرة – قبل كتابة هذا المقال – في التحدث عن علاقتي به باستفاضة.
فأن ترى الشرير في التلفزيون أمر، وأن تكتشف أن أحد أعز أصدقائك حليف للشر شعورٌ مختلف تمامًا. يضعك في مأزقٍ ومعضلةٍ أخلاقية تسائل فيها كل قيمك ومعتقداتك، ليختلط فيها الصواب بالخطأ، والخير بالشر، والحق بالباطل.
صديقٌ قديم جدًا
عشت طفولتي في السعودية، حيث ولدت بعيدًا عن البلد الذي حملت جنسيته، فقد كان والدي ناشطًا شيوعيًا خرج من البلاد بداية الثمانينات، وكعادةٍ نوبية أصيلة واصل اغترابه دون أن يزور وطنه حتى ولو في إجازة قصيرة، لم يشهد إعلان قوانين الشريعة الإسلامية واندلاع الحرب الأهلية في الجنوب عام 1983، ولا الانتفاضة التي أطاحت بثاني نظام عسكري في البلاد عام 1985، وعندما أطاح النظام العسكري الثالث بآخر حكومةٍ ديمقراطية معلنًا مواصلة “الجهاد” ضد المتمردين الكفار في 1989، كان السودان الذي يعرفه أبي قد مضى دون عودة.
حافظ أبي على معارضته الصريحة للعسكر والإسلاميين على السواء، ورفض دفع أموال الضرائب لنظامٍ “يقتل السودانيين” كما اعتقد، وقطع علاقته بالقنصلية السودانية ليواصل تجديد جوازات سفرنا بطرقٍ ملتوية واعتمادًا على مكاتب المعارضة السودانية في العواصم الأفريقية، لندفع ثمن ذلك بعدم زيارة السودان طوال طفولتي.
عاش أبي في حالة نكران وارتباطٍ وجداني عنيف بالسودان، وكانت والدتي التي عاشت كل حياتها في السعودية تشاطره شيئًا من هذا الارتباط بوطنها الذي انتهى قضاؤها للإجازات الصيفية فيه ما أن تزوجت، وفي هذه الأجواء ولدت أنا وأخواتي الثلاث. لم أر وطني أبدًا، لكنني ظللت محاطًا طوال الوقت بقصصه وأخباره وعاداته وتقاليده.
كان صالون بيتنا في جدة لا يكف عن استقبال الضيوف من أصدقاء والدي ورفاقه السودانيين، أو حتى الزوار من أهلنا القادمين للحج والعمرة، ما جعلني دائم الاختلاط بالسودان كفكرةٍ وخريطة ولغة، ولم يصدق أحد أساتذتي السودانيين في مدرستي السعودية أنني لم أولد أو أزر بلدي في العطلات لكثر ما كنت مُجيدًا للحديث بلهجتهم كأني ولدت في الخرطوم.
وأكثر ما ساهم في تشكل وعيي السياسي وارتباطي بالسودان، كان نشاط والدي – ووالدتي في فترةٍ مؤقتة – في اجتماعات الفروع الخارجية للحزب الشيوعي السوداني، حيث كانت الحكومة السعودية – بتفاهمات غير معلنة – تسمح بعمل أحزاب المعارضة السودانية على أراضيها طالما التزمت بالسرية والسلمية وعدم خروجها عن إطار الجالية السودانية.
وفي تلك الأجواء الغنية بالمناقشات والجدالات والكتب، تعرفت على نخبة اليساريين السودانيين، لاسيما الشباب الذين كان يحتضنهم بيتنا، ومن بين هؤلاء شابٌ وسيم في العشرينيات يدعى عزت الماهري.
كان عزت من النشطين في نفس خلية والدي، وجمعته معه كذلك جلسات شرب العرق – غير القانونية بالطبع – يوم الخميس، لكن أعمق ذكرياتي ارتباطًا به كانت مع شيوع ظاهرةٍ بين السودانيين في أوساطنا، وهي إرسال الأبناء لمواصلة الدراسة إلى مصر والتقدم بطلبات الهجرة واللجوء لمكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) كلاجئين سياسيين، فيما يبقى الآباء، أصحاب الأجور والوظائف المتواضعة، في العمل بالسعودية، والاستفادة من فرق العملة لإرسال تحويلات مالية توفر حياةً كريمة أكثر لأسرهم.
وخلال حفل وداع أسرة الصحفي خالد العبيد، أحد رفاق والدي، وقفتُ أحمل أختي الرضيعة مرام بين الضيوف المودعين، فيما تهاوت إلى الأرض فجأة مروحة السقف المتهالكة، لتسقط بإحدى أجنحتها وتسير فوق ساقي عزت، قبل أن يسقط جناحها الثالث فوق رأسي بقوة، وفي ثواني، وبعد ملامسة ركبتي للأرض أفلت جسد أختي الرضيعة.
هرع الجميع لالتقاطها، قلبت أمي الفَزِعة جسمها للتأكد من أن مصدر الدماء المنهمرة لم يكن منها بل من رأسي، وفي غضون دقائق، كنت في المقعد الخلفي من السيارة أعطي التوجيهات لأقرب المستشفيات، فيما يحتضني عزت الماهري وقد غرق قميصه بدمي محاولًا إغلاق الجرح قبل أن نصل إلى غرفة العمليات.
في القاهرة، شعرت بنشوة التعرف على الحياة والجديد وأنا ابن 16 عامًا، فكل ما كان يحيط بي كان نقيضًا لما عشته في السعودية.. المدارس المختلطة بين الجنسين، الكنائس ومسلموها، شرب الناس للبيرة والكحول في أماكن محمية بالقانون، مكتبات ومسارح في كل مكان، كنت أسعد ما يمكن كمراهق سوداني ناجي من التسعينات.
نجوت يومها من الموت، لكن صدمة ذلك اليوم جعلت من علاقتي بعزت أكثر من كونها معرفة مراهقٍ بأحد أصدقاء والده، وتكونت صداقةٌ خاصة بيننا لم يكن للاجتماعات الحزبية مكان بينها، ومع موافقة والدي أخيرًا للبقاء في السعودية وحيدًا فيما أهاجر مع أمي وأخواتي إلى مصر، كان عزت الماهري أول من استقبلنا ونحن ننزل من العبارة الواصلة إلى ميناء السويس في بلد لا نعرف عنه شيئًا سوى من الأفلام والمسلسلات والروايات.
كان عزت بمثابة مرشدي السياحي في شوارع القاهرة، عرّفني على طرق المواصلات، وكيف أستقل المترو من أقرب محطة، وفي غياب والدي، تولى مهمة انتقالي من المراهقة إلى النضج، مع اهتمامٍ بالغ بالثقافة والأدب.
كان عزت أول من عرفني على مقاهي وسط القاهرة، وحضرت أولى الندوات الأدبية في حياتي بصحبته، بعد أن أعطاني نسخةً من مجموعة قصصية للكاتب عادل القصاص “لهذا الصمت صليل غيابك“ وعرفني عليه، وفي إحدى زيارات والدي للقاهرة، أخذنا عزت إلى الجامعة الأمريكية لنحضر معًا ندوةً جماهيرية للشاعر الفلسطيني محمود درويش.
وعندما اتجهت إلى التدوين الإلكتروني في موقع “سودانيز أون لاين” كان عزت الماهري أحد الداعمين لي حيث كان يكتب بالاسم المستعار “أبنوس”، وكان أول القراء المعلقين على قصتي القصيرة الأولى، فيما أعجبت أنا الآخر بقصته الرائعة على الموقع “هل رأين ذلك الزبد الأبيض؟” التي ينعي فيها مدينة بورسودان الساحلية، قبل أن يتركها قبل سنوات إلى الضفة الأخرى من البحر الأحمر، حيث التقينا أول مرة في جدة.
في القاهرة، شعرت بنشوة التعرف على الحياة والجديد وأنا ابن 16 عامًا، فكل ما كان يحيط بي كان نقيضًا لما عشته في السعودية، المدارس المختلطة بين الجنسين، الكنائس ومصلّوها، شرب الناس للبيرة والكحول في أماكن محمية بالقانون، مكتبات ومسارح في كل مكان، كنت أسعد ما يمكن كمراهق سوداني ناجي من التسعينات، لكن عزت الذي لم يكن بالغر أو المخدوع أبدًا كان أكثر من حذرني، ولم أفهمه أبدًا وقتها حين عبر بضيق عن الواقع المصري بالقول: “لا تصدق هذا البلد، مصر امرأة منقبة من الداخل!”.
احتاج الأمر سنوات طويلة حتى أصدق عزت الكاره للإسلاميين، عاصرت فيها امتلاء ميدان التحرير بالثوار، وتنظيم الجيش لانتخابات اكتسحها الإخوان المسلمون بشعبية عالية، أشعرتني بأن كل ما عاشه السودان من فاشية وخراب لم يكن رادعًا لجيراننا في الشمال كي يتجاوزوا تجربتنا الإسلامية التي أرغمنا عليها بانقلاب عسكري لا بانتخابات ديمقراطية، وعند صعود محمد مرسي لمنصة ميدان التحرير معلنًا انتصاره، تذكرت عبارات عزت الماهري وكيف كان رجلًا سابقًا للمستقبل.
وقتها، كان عزت قد غادر مصر منذ وقتٍ طويل، هاجر إلى كندا، تزوج من امرأةً سودانية، صار أبًا ومواطنًا كنديًا وأكمل دراسته الجامعية حتى درجة الماجستير.
ولأنني لم أتربَّ في وسطٍ سوداني تقليدي واعي بأهمية حضور القبيلة والعرق، فوجئت عندما عرفت من أمي أن عزت قد فقد كثيرًا من أفراد عائلته قتلى مع احتدام الصراع المسلح في إقليم دارفور، لم أعرف يومًا أن عزت من هناك، وأنه من قبيلة عربية تدعى الرزيقات، كنت أعرفه فقط كناشطٍ شيوعي مثقف ينتمي للسودان مثلي، ولم ألتقه بعدها سوى خلال زيارةٍ واحدة، كنت وقتها طالبًا جامعيًا فخورًا نشر مجموعته القصصية الأولى وهو في العشرين من عمره.
جاء عزت كمغتربٍ ميسور، يمتلك محطةً للبنزين ومغسلة سيارات في فانكوفر، ولاحقًا سمعت إشاعة من أنه اشترى المصنع الذي عمل فيه أثناء فترة وجوده كلاجئ في كندا.
عاد عزت برغباتٍ طموحة لتأسيس دار نشر عربية، وطلب مني مساعدته، حيث أشرفت مع نفس المطبعة التي نشرت كتابي على طباعة روايته الأولى “جقلا.. نشيد الرمل“ التي كانت نصًا بالغ الشعرية عن حياة البادية التي أتى منها، ولم أفهم قط سبب مقاطعة والدي له، لمجرد انسلاخ عزت عن الحزب الشيوعي، الذي صار يرى عزت فيه تنظيمًا متهالكًا عفى عنه الزمن ولم تعد شعاراته الماركسية تمثله أو تقدم حلاً لمشاكل منطقته الغارقة في الحرب الأهلية، وبالطبع لطموحاته الشخصية كبرجوازي صاعد.
أيام الخرطوم الأخيرة
في 2014، حققت حلمي بالاستقرار في الخرطوم والعمل كصحفي وكاتب حر، فيما كان النظام السوداني يعيش آخر سنواته، شعاراته الأيدولوجية انهارت على أرض الواقع، ونجح الشباب من أمثالي في العثور على فقاعات ومهارب لعيش حياتهم بأسلوبٍ بعيد عن سطوة المجتمع وأجهزته المدججة بالأبوية والوصاية، لكن تعدد التقرحات والجروح في خريطة البلد، وانتشار الاستقطاب والسلاح والفساد كان يخنق كل من يمتلك أنفًا.
لم يكن صعبًا علي أن أدرك أن حياتي في العاصمة الآمنة هي لحظاتٌ ختامية سرعان ما ستنتهي، لينتقل صراع السلطة والثروة المسلح إلى شوارعها، وخرجت بحثاً عن العمل في دبي بعد أن تركت لناشري المصري مجازًا لوداع حياتي الأثيرة جاء مخطوطةً لكتابي الثاني الذي نُشر بعنوان “أيام الخرطوم الأخيرة“.
نُشِر كتابي خلال الأسابيع الأولى من انتفاضة ديسمبر 2018، كنت واقعًا في حب فتاة تعيش في الخرطوم طوال حياتها، وتزوجنا دون أن تتملكها الرغبة في مغادرتها. سقط البشير، وفرحت وأنا أضع يدي القلقة على قلبي آملًا في مستقبلٍ أفضل، لم أكن قد تعافيت بعد من صدمة انهيار الحلم في ميدان التحرير، رغم إيماني باختلاف السياق.
زرت اعتصام القيادة العامة في آخر ساعاته وأنا مفعم بالتشاؤم، شهدت انطلاق الرصاصات الأولى مع بزوغ الفجر، ونجوت من مذبحته بأعجوبة فيما كانت حبيبتي تستعد لحفل خطوبتنا، وواصلنا خططنا وسط حظر التجول وانتشار القلق مع جنود الدعم السريع في شوارع الخرطوم، وأدركت أنني متورطٌ بهذا البلد على عكس ما أريد.
تزوجنا، وحاولت بشتى السبل أن أتجاهل السودان وأخباره، ومع استيائي من البقاء في علاقة زواجٍ بعيدة، قررت الاستقالة من وظيفتي في دبي وتلبية دعوة بعض أصدقائي المرتبطين بالحكومة الانتقالية للعمل في التلفزيون القومي، ظللت متشائمًا لكنني أردت البقاء قرب زوجتي، ولم يُخيِّب الجنرالات توقعاتي، وانتهت آخر آمال الديمقراطية الزائفة بانقلاب 25 أكتوبر 2021، وصار لزامًا عليّ العودة إلى وظيفتي السابقة بالإمارات، وقبول زوجتي لعرض هناك يجعلنا نعيش معًا بعيدًا عن الإحباط.
لكن، وقبل الانقلاب بعدة أيام، جمعتني صدفة غريبة مع عزت الماهري في أحد فنادق الخرطوم، صار مطلقًا وقتها، وقد انتفخ وجهه وزاد وزنه بصورةٍ بدت عليها البحبوحة، مفعمًا بآمالٍ للاستقرار في الوطن على عكس تشاؤمي.
كان لقاءً مليئًا بالشجون والذكريات، لكنني ظللت فيه حذرًا، فقبلها بأشهر، تطوع أحد أصدقائي المقربين من الأوساط السياسية باطلاعي على معلومةٍ غريبة تقول أن عزت هو أحد مستشاري نائب رئيس المجلس السيادي وقائد قوات الدعم السريع “حميدتي”.
تعجبت وتسائلت: “لماذا يفعل ناشطٌ شيوعي سابق أمرًا كهذا؟” فرد صديقي: “إنه ابن عمه!”، وأدركت وقتها أن طوباويتي في عدم الاهتمام بانتماء أصدقائي القبلي كان ضربًا من السذاجة، فقد كان حميدتي معروفًا بانتمائه “للرزيقات الماهرية”، وكان لقب عزت ببساطة هو “الماهري”.. فأين المفاجأة؟!
تحققت النبوءة المشؤومة، ونزحت جدتي العمياء بصعوبةٍ إلى أحياء يسمع فيها صوت الرصاص دون أن تقع فوارغ على رؤوسهم، خرج أصدقائي وأحبتي لاجئين إلى مصر وجنوب السودان وأثيوبيا، وبينما يتهدد مصيري مع زوجتي ونحن على بعد آلاف الأميال من بلدنا الذي وصمنا بهويته وجواز سفره لنتحول إلى مشروع لاجئين محتملين سنرفض من دخول دول “العالم الحر“.
في لقائنا، ظللت أبتلع المعلومة التي أعرفها كلما شارفت على الخروج من حنجرتي، في الوقت الذي بدا فيه عزت اعتذاريًا وتبريريًا، لم أسأله عما يفعل، ولا عن خططه للمستقبل، لكنه لسببٍ ما كان يحاول الإجابة على سؤال لم أتفوه به.
أخبرني عزّت عن قصةٍ فنتازية لاكتشافه وثيقةً تثبت امتلاك جده لعددٍ كبير من الأراضي في المنطقة المحيطة لهذا الفندق، وهو موقعٌ من أكثر المواقع استراتيجية في قلب العاصمة مطلٌ على النيل، بعيدٌ كل البعد عن موطن قبيلته الرعوية البعيدة في بادية دارفور وتشاد، وعندما غادرت لم يتواصل معي عزت إلا بعد الانقلاب، الذي شارك فيه الدعم السريع مع الجيش للإطاحة بالحكومة المدنية، ما عدا وزرائها من أعضاء حركات دارفور المسلحة.
وبينما خرجت مجموعاتٌ مبعثرة من المتظاهرين الشباب ضد الانقلاب، واختبأ الناشطون الحزبيون من أعضاء الحكومة المخلوعة واعتقل أبرزهم، دفع قطع الجيش لخدمة الانترنت بالإعلاميين من أمثالي لاكتشاف مخابئ آمنة ما تزال خدمة الإنترنت متوفرة فيها بصعوبة.
بدأتُ بتغطية الأحداث وتدوين يومياتي، وعندما انتبه عزت لوجودي أونلاين اتصل بي هاتفيًا، سألني من أين حصلت على الانترنت، فشعرت بالفخ الذي وقعت فيه، كذبت وقلت له إنني في العمارة الكويتية، أشهر مباني وسط الخرطوم التي تضم مكاتب المراسلين والقنوات والصحف الأجنبية، وعندما شعر بحدتي وغضبي حيال ما يجري، طلب بني بنغمة لا تخلو من الاستجداء “حسام.. لا تخرج إلى الشارع ولا تشارك في التظاهرات!” أجبته بأنني سأفعل ولأمت كما يقتل الآخرون، وأنهيت المكالمة مغلقًا الهاتف وأنا شاعر بالخيانة والغضب.
نجحت في الخروج من البلد بعدها بأسابيع، ولحقت بي زوجتي، بدأت أفكر لأول مرة في الهجرة لكن دون خطة أو حماس، وعندما انتهت مفاوضات الحل بعد عام من الانقلاب بالصراع بين جناحيه المسلحين داخل العاصمة، عاد عزت إلى حياتي، ولكن عبر تصريحاتٍ في نشرات الأخبار.
لم يكن قناعه قد سقط إلا قبلها بعدة أشهر، ففي إحدى الصور التي نشرها مكتب بعثة الأمم المتحدة في السودان لاجتماعات ثنائية مع العسكريين من ممثلي قادة الانقلاب، لفتني وجود شخص مدني يرتدي قناعًا من حقبة الجائحة، لم ينجح في إخفاء ملامحه المألوفة علي، وبرسالة قصيرة بعثتها لأحد العاملين من أصدقائي في مكتب فولكر بيرتس، تأكدت من إجابته: “نعم للأسف، هو صديقنا عزت الماهري”.
ومع اندلاع المعارك، انتشر اسم عزت بتصريحاتٍ نارية وسط القصف: “نحن نواجه فلول النظام القديم”.. “الحركة الإسلامية هي من أشعلت فتيل هذا الصراع!”.. “نحن ندافع عن المدنية والتحول الديمقراطي”.. ولم يصدق الكثيرون هذه الشعارات التي انطلقت من رغبة طبقةٍ اجتماعية جديدة تبحث عن تمثيلٍ سياسي يناسب طموحاتها.
طبقةٌ معززةٌ بالسلاح والتورط في الحروب الإقليمية، وشراكات التنقيب عن الذهب وتهريبه، التي وفرت لها فائضًا من الثروة، وشرعيةً منحتها لها القوى السياسية باتفاقاتها، وصفقات الاتحاد الأوروبي لتشكيل حماية استباقية من أفواج اللاجئين من شرق أفريقيا قبل بلوغ سواحل المتوسط في ليبيا المجاورة.
كنت أتسائل طوال المعارك عن مصير عزت، وعندما علقت احدى قريباتي في المستشفى الذي تعمل فيه وسط الخرطوم -وكان للمفارقة المستشفى نفسه الذي لازمت فيه جدي خلال مرضه الأخير-، لجأت إلى حساب عزت في فيسبوك لطلب المساعدة، فقد كان الدعم السريع مسيطرًا على المستشفى وقد امتلأت بجثث قتلاه، فيما نهب الأحياء من الجنود البقالات المجاورة دون أن يشاركوا العالقين في المستشفى غنائمهم من المواد التموينية، ردّ علي عزت بأنه حتى هو لا يستطيع الوصول إلى المستشفى، وأن “القوات لا تلتفت لمثل هذه الأشياء وهم في وضعٍ صعب”، وأيقنت وقتها أن عزت الذي عرفته في طفولتي رحل منذ وقتٍ طويل.
تستمر الحرب، وتحترق عاصمة البلد الذي حرمت رغمًا عني بالعيش فيه وانتميت إليه قصرًا لا اختيارًا، تحققت نبوءته المشؤومة، ونزحت جدتي العمياء بصعوبةٍ إلى أحياء يسمع فيها صوت الرصاص دون أن تقع فوارغ على رؤوسهم.
خرج أصدقائي وأحبتي لاجئين إلى مصر وجنوب السودان وأثيوبيا، وبينما يتهدد مصيري مع زوجتي ونحن على بعد آلاف الأميال من بلدنا الذي وصمنا بهويته وجواز سفره لنتحول إلى مشروع لاجئين محتملين سنرفض من دخول دول “العالم الحر“، يظل كل ما يشغلني هو قميص عزت الماهري، ورحلته التي تحول فيها من ضمادة توقف نزيف رأسي في حادثٍ قديم في التسعينات، إلى قماشةٍ مهترئة لا تكفي لغسيل حمام الدم الذي يشارك فيه الآن وسط مدينة أحلامي الميتة.