كانت المرة الأولى التي لم تنم فيها جدتي ليلاً، إذ عهدتها تنام لساعات عجزت عن فهمها في عام ونصف عشتهم معها لقرب مكان عملي من سكنها. بات متاحاً لي أن أشهد عن قرب ما الذي يمكن أن يعنيه هدم المثوى الأخير، القبر، لشخص يشعر أنه شارف على الموت.
منذ أن وعيت على الدنيا ومقبرة السيدة نفيسة هي المقبرة التي ندفن فيها جميع أفراد عائلة جدتي. كان يفترض بالمقبرة أن تكون إرثاً عائلياً، إذ اشتراها أبوها قرب مكان سكنهم. ورغم انتقال جدتي لحي المعادي، لكنها لم تبتعد عن السيدة أبداً، تزور بيت أقاربنا عند المقام ويوزعون الطعام، يسمحون للمغتربين بالمبيت في فناء المنزل بعد إطعامهم كل جمعة حباً في السيدة نفيسة. تذهب جدتي رفقة الأقارب لتشاركهم كلما سنحت لها الظروف، ولزيارة عائلتها وأختها الراقدة هناك.
علمت جدتي أن الحكومة قررت هدم المقابر، لم تنم أبداً، لم تبك، ولكنها سألت الجميع بفزع إذا ما كانت مقابرهم تتسع لجسد جديد في حال وفاتها قبل تدبير قبر جديد. اتصلت بأمي، وبكت حينها وهي تتحدث عن مقابر الصدَقة، فيما طمأنتها أمي بعد أن دعت لها بالعمر المديد بوجود مقابر للعائلة قرب الأهرامات لو استلزم الأمر. وأخبرتُها بدوري أن المقابر بمحافظة مرسى مطروح (حوالي 440 كيلومتر غرب القاهرة) لا تُباع ولا تشترى، فقد اكتشفت بعد سنوات من حياتي هناك أن المقابر متاحة للجميع دون حاجة لشراء مساحة أرض خاصة. تعجبت جدتي لكنها اطمأنت في النهاية.
قالت جدتي إن أكثر ما أقلقها هو أن زيارة قبرها لن تكن بسهولة زيارتها لقبور الراحلين من عائلتها. فالمقابر القديمة، المقامة على أطراف المدينة لحظة إنشائها صارت في قلب المدينة لاحقاً، إذ تقع «مدينة الموتى» (مجمع المقابر الأكبر في العاصمة) بجباناتيها الشمالية والجنوبية من أطراف حي العباسية وصولًا للمعادي، ما يجعلها في قلب العاصمة، قريباً من كل وسائل المواصلات العامة والخاصة، بعكس المقابر المبنية في المدن الجديدة، مثل 15 أيار/مايو (34 كيلومتر عن القاهرة)، أو العاشر من رمضان (65 كيلومتر عن القاهرة) أو مدينتي (44 كيلومتر عن القاهرة) أو طريق الواحات (190 كيلومتر عن القاهرة)، وجميعها صعبة الوصول.
منذ أيام، توفي شقيق جدتي الأكبر. هاتفتها لتعزيتها فحكت لي عن تمنيه الرقود جوار والده وشقيقته الراحلين بسلام، تبكي وهي تتذكر حلمه في أن يجتمع شمل العائلة بعد الموت بجانب السيدة وكراماتها التي لا تنتهي. ولكن مقبرة العائلة بالسيدة قد تهدمت بالفعل، وتم تعويضنا بمقبرة بمساحة لا تتعدى الـ 30 مترًا في مدينة 6 أكتوبر، بعد أن كان نصيبنا في السيدة ضعفي هذه المساحة. لم يحقق شقيق جدتي أمنيته، بل كان جسده أول من افتتح المقبرة الجديدة بعد نقل رفات من سبقوه إليها.
لم تكن عائلتنا هي الوحيدة التي واجهت هذا المصير، فبحسب الأرقام المعلنة حتى الآن فقد تم هدم أكثر من 2700 مقبرة، من أجل تنفيذ مشروع القاهرة 2050 الذي بدأ التخطيط له منذ عام 2008 عندما كان رئيس الوزراء الحالي مصطفى مدبولي يشغل منصب رئيس الهيئة العامة للتخطيط العمراني؛ يهدف المشروع بحسب المخطط الخاص به لتحويل القاهرة لمنطقة «تشبه دبي وباريس وطوكيو»، وبشكل أساسي سيتم هذا من خلال إلغاء المناطق العشوائية بالقاهرة، ومن ضمنها المقابر التي يسكنها أكثر من مليون ونصف شخص.
بحسب الهيئة العامة للتخطيط العمراني يضم إقليم القاهرة الكبرى 51 جبّانة موزعة على 24 منطقة، وتبعاً لدراسة «تأثيرات تداخل الجبّانات مع عمران إقليم القاهرة الكبري»، للباحث محمود محمد المرسي، فإن 14 جبانة منها تتداخل مع العمران، ولكن ما يمثل مشكلة حقيقية بحسب البحث هي ثلاثة جبّانات فقط، في الخليفة ومنشية ناصر ومصر القديمة، بما يُحدث «خللاً بالمنظومة العمرانية نتيجة التأثيرات السلبية من تداخلهما».
عندما قرأت هذه الكلمات قررت زيارة هذه المناطق رفقة صديقة لي، لمعاينة المنطقة ذات التداخل العمراني الفريد، والمعروفة باسم «مدينة الموتى» وهي مدينة يرجع عمرها إلى القرن السابع إبان دخول الإسلام مصر، وقد أدرجتها منظمة اليونسكو عام 1978 في قائمة التراث العالمي اعترافاً بأهميتها التاريخية والأثرية والعمرانية، وباتت الآن مهددة بشطبها ونقلها لقائمة التراث المعرض للخطر.
تمشية في جبّانات القاهرة
تنقسم جبّانات القاهرة التاريخية إلى «قرافة المماليك، قرافة الإمام الشافعي، وقرافة السيدة نفيسة»، وقد اعتاد المصريون منذ سنوات طويلة زيارة هذه القرافات، حيث كانوا يبدأون بالسيدة نفيسة وينتهون بالشافعي، وإن كانت رحلتي قد بدأت بمسار عكسي، إذ نزلتُ أولاً أمام مسجد الإمام الشافعي. كان المكان مزدحماً -رغم الطقس الحار- لدرجة جعلت الانتقال داخله مسألة شاقة. المسجد نفسه فيه عددٌ من الأضرحة، وأمامه خريطة للمنطقة توضح أهم معالمها.
لم يكن أحد غيري وصديقتي يشاركنا الاهتمام ذاته بزيارة بقية المعالم المحيطة بالمسجد. وجدنا عدة أسهم تشير إلى الطريقة التي صممت بها الرحلة، سرنا وراء الأسهم، ثم فقدناها فوجدنا نفسينا وسط بيوت قديمة متهدمة ورثّة. أرعب هذا صديقتي فقررت العدول عن فكرة التجوال داخل هذه المقابر، وبالقليل من التشجيع أكملت معي الرحلة، حتى وصف لنا أحد السكان طريق المعالم التي نودّ الذهاب إليها.
كان الأمر غريباً بالفعل، تحفٌ فنية تجاور بيوت قديمة ومنطقة بأكملها كأنها منسيّة، وخريطة يبدو أنها خضعت لتطوير غير مرئي وغير مرتب.
كانت الخطة تتضمن حسب الأسهم أيضًا الذهاب لحوش الباشا، وهي منطقة تضم أضرحة العائلة الملكية «عائلة محمد علي». طلبنا الدخول، ولم يسمح لنا الحارس بالدخول بدايةً، وبعد إلحاح فتح لنا الباب مع التنبيه بعدم تصوير المكان الذي يخضع بدوره للتطوير. كان المكان مليئاً بالفعل بما يدل على خضوعه للتجديد، ولكن لا أحد يعمل، فسألته إن كانت أعمال التطوير تجرى الآن، ولكنه أجاب أنها لا تتم بشكل دوري ومستمر، فسألته من جديد إن كان من المنتظر أن تنتهي في وقت معين، ولكنه أجاب بالنفي.
خرجنا من حوش الباشا، متجهين إلى عمق الشارع، حيث يرقد المواطنون العاديون بجانب الملوك، هم والأحياء الذين يسكنون أحواش هذه المقابر، لا يبدو أنهم مرحبين بالزيارات التي تكون في الغالب إما من صحفيين فضوليين، أو من لجان المتابعة الحكومية الساعية لمزيد من الهدم. سألت سيدة تقطن في إحداها إن كان أحداً قد تواصل معها بشأن الهدم، فأجابت بالنفي ولم ترد الاستزادة، فلم أثقل عليها.
توضح بيانات الحكومة أن قرارات التطوير تشمل المنطقة بأكملها، المقابر والأحواش والبيوت المجاورة لها، من أجل تحويل المنطقة لمزارات سياحية أو خدمية، الأمر الذي يعني بالتالي تهديد حياة 1.5 مليون شخص يعيشون هناك.
كان أكثر ما لفت انتباهي هو تفاوت الهدم ذاته، فتارة تجد مقبرة مهدمة، وبجانبها أخرى لم يقع عليها الاختيار بعد، الأمر لا يشي بخطة تضم منطقة بأكملها.
تحركت فيما بعد للسيدة نفيسة، وهي المنطقة التي سرت بها يوماً وعدت إليها فلم أتعرف عليها. هي الأخرى المدمر بداخلها يجاور الصامد ولا يشي عن نظام يوضح خطة أو نسق ما. أثناء التجوال سألني عدة أشخاص عن الأموال، أو عرضوا بيع الورود للموتى، فاعتذرت بأدب، وأثناء هذا الوقت كنت قد سألت عدة مرات إن كان أحد السكان يعرف أين يقع مدفن عائلتي المهدم، ولكن أحداً لم يكن لديه فكرة، فمررت بالمدافن، وتخيلت أن كل ما تهدم منها هو ما يخص عائلتي، ثم وجدتني خارجها، كأنها تلفظني، لأقرر حينها حينها ركوب المواصلات والعودة للمنزل.
تشير رشا عماد، وهي مهندسة شاركت في ترميم قبة الإمام الشافعي، اللصيقة بالمقابر، إلى أن عملية الترميم قد ركزت بشكل أساسي على ترميم قبة مسجد الشافعي، التي استغرق العمل عليها 5 سنوات منهم عام ونصف فقط لتوثيق محتويات المسجد. وأوضحت كذلك أن المشروع يستهدف «تطوير المنطقة المحيطة للقبة بحيث تصبح مزاراً يسهل الوصول إليه، كما يتم العمل الآن على تطوير عدداً من الأضرحة».
على أطراف العاصمة
ما كدت أبدأ في العمل على هذا الموضوع حتى توفيت شقيقة جدتي الأخرى. لهذا القسم من عائلتي مدفن يطل على أهرامات الجيزة، وهو الآخر مهدد بالهدم. حتى الآن لم يأت إخطار للعائلة بوقف الدفن، لكن المكان الاستراتيجي يعيد الأنظار الاستثمارية من جديد إليه في كل فترة، وهو ما جعل العائلة تقرر إيقاف الدفن به طوعاً حتى لا تضطر لنبش القبر فيما لا تزال أجساد أقربائنا راقدة فيه، خصوصاً وأن الحكومة ماضية في ما يعرف بـ «تطوير نزلة السمان»، المنطقة المحيطة بالأهرامات، للاستفادة من معالمها السياحية، وبالاصطدام كذلك مع السكان المحليين، الذين باتوا مقيدين بالعمل في الخدمة السياحية بعد تسلم شركة «أوراسكوم» المملوكة لعائلة ساويرس، إدارة المنطقة بأكملها.
تطوعت العائلة بوقف الدفن في المقابر الواقعة في مناطق خاضعة للتطوير بسبب التكلفة النفسية والمالية لعملية نقل الرفات. الحكومة لا تتكفل بذلك بالطبع، ولا تخطرنا بوصول جرافات الهدم، وحده حارس المقبرة يتولى تنبيه العائلات، وإن كان غائباً أو قرر ألا يخبرهم لأي سبب، يكون المصير هدم المقابر على سكانها من الأموات والأحياء.
بدأ الجميع يفكر بحلول أخرى، وأولنا تيتا «قُطة» كما تحب أن يسميها الجميع، وزوجها، اللذان اختارا أحد مدافن أكتوبر المطلة على طريق الواحات. دُفن زوجها منذ سنوات ودُفنت هي فيه منذ أيام.
لم يكن من الممكن الذهاب للمدافن إلا عبر السيارات الخاصة، الطريق طويل إن لم تكن من سكان مدينة 6 أكتوبر، ومن المستحيل أن تذهب أي مواصلة عامة إليه، وحتى إن وافق سائق خاص الذهاب بك، فبالتأكيد لن تجد واحداً عند العودة. اتفق من لا يملك سيارة خاصة مع المحظوظين بواحدة، وتحركوا في موكب جماعي نحو المقابر الصحراوية فيما تحركت عائلتي منفردة. وصلنا قبل النعش لأن المرحومة كانت تسكن الإسكندرية، وبالتالي لم يأتوا في الموعد المتفق. عندما اقتربنا بالسيارة وحدنا لبوابة المدافن سألنا الحارس إن كنا نريد شراء مقبرة، أجبنا بالنفي، وأكملنا طريقنا، فسألنا آخر بالداخل السؤال ذاته، حتى دلفنا للموقع الذي أرسلوه لنا عبر الواتس آب.
تمشيت قليلاً أتابع شواهد المقابر التي حاولت جميعها استلهام الطراز الإسلامي المبنية به مقابر مدينة الموتى، تتشابه الأبنية مع بعضها البعض رغم أنها تختلف من حيث الضخامة والفخامة، جميعها تقريباً تستخدم الخط ذاته، والطلاء ذاته، كنت أشعر أنني في منتجع سياحي ما ذو أبنية متشابهة، إلى الدرجة التي شعرت فيها أنني لو أكملت الطريق لآخره سوف أرى البحر. لم يكن المنظر مزعجاً على أية حال، وإن كان يفتقر إلى الفن والإبداع.
عدت من جديد لنداءات أمي التي نبهتني لوصول الجثمان، وقفت صامتة أراقب العصافير تغرد فوق المباني الرخامية، والنباتات تحوط المقابر، فيما أشم رائحة النعناع تملأ مقبرة خالة أمي المفتوحة للتو، ربما ما لم أرد مشاهدته فقط هو لحظة الدفن، وعموماً لا تحتمل المقبرة الصغيرة المسيجة بحوائط لا يحدها سقف أكثر من 4 أفراد بداخلها، وهم من كانوا يقومون بطقوس الدفن.
كنا جميعاً نقف بالخارج، ثم دلفت للحوش بعد أن انقضت المراسم لقراءة الفاتحة، وقفت أمام الشاهد أتخيل أن الأرضية الرخامية ليست موجودة، وأنه بات بإمكان المرحومة مشاهدة السماء لترى ما أراه حالاً، سماء غائمة ولكنها جميلة، وقمراً يبدأ أول أطواره.
أثناء عودتنا استوقفني مبنى صغير مكون من طابق واحد، على حوائطه مجموعة من صور المقابر المختلفة، استأذنت أمي في النزول، سألته هذه المرة عن أسعار المقابر، فأوضح لي أن الأسعار متفاوتة حسب حجم المقبرة ونوعها، فهناك التي يحدوها باب حديدي كبير، وأخرى مزينة وهناك مقابر تجاور مشاهير الموتى سعرها أعلى، كل هذا يجعل الأسعار يمكن أن تكون بين 250 ألف جنيه إلى أكثر من مليوني جنيه (بين 5 آلاف و 40 ألف دولار أمريكي)، شكرته وعدت أتعجب من زيادة سعر المقبرة لأنها تطل على آخر ميت كان مشهوراً في حياته، فما الذي يمكن أن يفيدني في موتي أثناء وجودي بجانب شخصية مشهورة؟ تذكرت إعلاناً كثيراً ما ظهر لي على فيس بوك لامتلاك وحدة مقابر، كان يُقَدم الموقع الممتاز ضمن مميزات هذه الوحدة، وكأن الفيو هو الآخر ضروري أثناء وجودي بحفرة في باطن الأرض، وإن كان يحلو لي بالطبع أن أتمكن من مشاهدة الفيو فيما أرقد.
يوضح الخبير العقاري محمد العيدروس أن «أسعار أراضي المقابر تبدأ من 200 ألف جنيه، بينما بناء المقبرة يكلف 300 ألفاً، أي تصل تكلفة المقابر في المتوسط لنصف مليون جنيهاً، في وحدات لا تتعد من ال20 إلى 50 متراً على الأقصى»، و«هو سعر غير مقنع بالمرة»، بحسب تعبيره.
عموماً ليست مقابر الواحات الوحيدة التي تشهد تلك الاستثمارات والتطوير، فمنذ بداية عملية هدم المقابر، وبيزنس الدفن يشهد قمته، تشارك فيه شركات التطوير العقاري والاستثمار عبر الدعايا وفتح مواقع للشراء، وعبر المكالمات الهاتفية للزبائن- الأموات المحتملين.
بشكل عام، يتوارث المصريون مقابرهم، أو يحصلون على أخرى جديدة خارج زمام المدينة عبر شركات التطوير العقاري أو تلك التي تقدمها الدولة كمقابر هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة أو المحافظة، والتي يتم التقديم إليها عبر عدة طرق مثل عضوية النقابات والجمعيات أو الإعلانات العامة، في حين تستقبل «مقابر الصدقة» الأموات من غير المحظوظين بمقبرة «ملاكي»، وتتكفل بها الجمعيات الخيرية، غير أن ازدحامها يشكل تحدياً كبيراً في استقبال المزيد من الجثامين.
بعيداً عن العاصمة القاهرة، في رحلة للإسكندرية، قررت زيارة «سراديب الموتى» الموجودة بآثار كوم الشقافة. كنت أقرأ قبلها في المتحف الروماني أن المصريين بالإسكندرية رغم تأثرهم بالثقافة الرومانية، لكنهم لم يحرقوا جثثهم أبداً. هناك رأيت طابقاً تحت الأرض مليء بسراديب كانت مخصصة لدفن الموتى في الفترة بين القرن الأول والثاني الميلادي، وفي الخارج خُزنت التوابيت كانت تتزين برسومات مقدسة تحمي الميت في العالم الآخر، فكرت فيما ألتقط صوراً لهذه التوابيت، أن تزيين أماكن الموتى لم يكن حكراً على الثقافة الإسلامية، بل كان أقرب لثقافة امتدت بين كل العصور والحضارات والديانات.
تعجبت حينما قارنت في رأسي بين شواهد القبور الرخامية التي وجدتها على طريق الواحات، وبين التاريخ الطويل الذي يعود قدمه للحضارة الفرعونية من تقديس الموت، إلى الحد الذي جعل المصريين يتعاملون معه بوصفه أهم الأحداث الواجب تخليدها بالفنون. بنى المصري القديم الأهرامات، بداية من هرم زوسر، مروراً بسنفرو حتى الأهرامات الثلاثة، ليجعل من الموت فناً. تغيرت العصور، وتغيرت أشكال الفنون، حتى الحضارة الإسلامية، التي تعاملت مع الموت بإجلال وجمال هي الأخرى، للدرجة التي جعلت بعض شواهد القبور تُكتب بماء الذهب، إذ توالى الخطاطون للكتابة على جدران المقابر، وبُنيت القباب التي جعلتها كأماكن عبادة.
تطوير أم تدمير؟
يُبيِّن الخبير المعماري عمرو أحمد أن «المقابر بجانب أهميتها المعمارية، لها قدسيتها أيضاً التي تصعّب من عملية المساس بها، ولو كان هناك بداً من نقلها، فليكن تحويل هذه المنطقة لمناطق خدمية أو في مساحة عامة لتكون متنفس للناس». ويلفت أحمد إلى أهمية التوعية بأهمية الأثر، وهي توعية يمكن أن تكون عبر استغلال الأثر نفسه، إذ إن «تحويل المساحات لمكتبة عامة أو مركز اجتماعي يخدم أهل المنطقة، ويوفر لهم فرص عمل، سيجعلهم يتعاملون معه باحترام وتقدير، كما أن ترميمه أيضاً سيلفت نظر السياح إليه، وبالتالي سيشكل مورداً إضافياً للسياحة».
فيما كنت أمر على السيدة نفيسة بقيت أفكر، هل ستتطور تلك الأماكن بما يليق مع عظمة ما فقدناه؟ وكيف يمكن أن نفهم التطوير؟
طالعت مطبوعة «استراتيجية التنمية العمرانية» لإقليم القاهرة الكبرى الصادرة بالتنسيق بين وزارة الإسكان وبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية والبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، والتي حددت التخلص من المقابر ضمن مساحات أخرى للحاق بركاب التطوير، ولكن كل الصفحات قدمت عروضاً عامة عن ذلك التطوير عبر جمل مثل «تحويل منطقة أو اثنين إلى متنزهات عامة»، و«تقييم بدائل إعادة تخطيط المقابر». فيما تشير بعض الخطط إلى تحويلها لمنطقة خدمية من «الكافيهات ومحطات الوقود وغيرها» فهل يستحق هذا «النوع من التطوير» إلغاء تاريخ يمتد عمره لأكثر من ألف سنة، ونبش جثامين المرتاحين فيها؟ وهل يمكن أن تكون فكرة «مقبرة الخالدين»، التي أعلن عنها الرئيس بديلاً مرضياً لجمع رفات الموتى من كبار الشخصيات؟ فماذا عن العمارة التي تخص ألف سنة من التاريخ الإسلامي؟ ماذا عن شواهد تدل على حلقة في التاريخ لمدينة تاريخية؟
في العام الماضي، ومع واحدة من موجات هدم المقابر المتعددة، تعالت أصوات نددت بنبش القبور وهدمها، خاصة أن بعض منها تضم رفات شخصيات تاريخية بارزة من زعماء سياسيين وفلاسفة وعلماء وقادة عسكريين. وجّه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بإنشاء «مقبرة للخالدين» في موقع مناسب، لتكون صرحاً يضم رفات عظماء ورموز مصر من ذوي الإسهامات البارزة في رفعة البلاد. انتهى التنديد العام هذا بتوجيه من رئيس الجمهورية ببناء «مقبرة للخالدين، تتضمن متحفاً للأعمال الفنية والأثرية الموجودة في المقابر الحالية، على أن يتم نقلها من خلال متخصصين وخبراء، بحيث يشمل المتحف السير الذاتية لعظماء الوطن ومقتنياتهم».
خرجت كذلك وزارة الآثار لتحدد الشروط الواجب توفرها في القبر ليعد قبراً تاريخياً، منها أن يكون قد تجاوز تاريخ بنائه 100 عام، وأن يتم تسجيله في الوزارة كمبنى تاريخي، غير أن الكثير من تلك المقابر غير مسجلة من الأصل، وهو ما بررته الوزارة نفسها في أحد التصريحات، بأن ذلك «يكلف التسجيل الوزارة عبء مالي، لأنها في هذه الحالة ستكون ملزمة بحكم القانون بترميم الأثر، وصيانته بشكل دوري، وهو أمر لا تريده الوزارة خلال الوقت الراهن».
بناءً على هذا تم هدم عددٍ من المقابر الأثرية في مناطق عدة، أهمها كانت مقابر المماليك التي يعود تاريخها لأكثر من 500 سنة، لإنشاء محور جيهان السادات، بجانب مشروعات محطات بنزين ومقاه ومطاعم وجبات سريعة.
يرى الدكتور «عادل ياسين» عميد معهد الدراسات والبحوث البيئية أن مقابر الخالدين قد تكون حلاً مرضياً، وهو معمول به في العديد من الدول المتقدمة، إلا أنه يوضح أن طريقة الدفن عموماً بحاجة إلى المراجعة، فالدفن حتى في المقابر الجديدة يتم بطريقة غير علمية تصعب من تحلل الجثث، مما سيجعل هذه المقابر الجديدة مكتظة في وقت قليل.
ويوضح الخبير البيئي أن الطريقة الخاطئة تنتج ما يسمى بتشمع الجثث، ويفسر أن «طريقة الدفن تمنع الهواء المحمل بالبكتريا من الدخول للمقبرة، وبالتالي تتحول الدهون لمادة صابونية تمنع الجثث من التحلل، إذ أن دراسات تقييم الأثر البيئي للمقابر توصلت لأهمية المقابر الهوائية، أي جيدة التهوية، والتي التزمت بها بالفعل دول مثل فرنسا وأسبانيا وإيطاليا بما يسمح بتحلل صحي وسريع للجثث».
تحولت المقابر المصرية لوقت طويل إلى مكان يجتمع فيه العامة، يتسامرون، ويتحاكون، بل وسكنوها، إذ يأنسون بالموتى ويأنس الموتى بهم، حتى لو كان بالأمر صعوبة تكمن في شظف المعيشة، ولكن يرى البعض أنهم يحرسون تلك البقاع المقدسة التي دفن فيها شيوخ وعلماء وأسماء بارزة، ويشعر البعض بالفخر لأنه يجاور شخصاً ذي أهمية حتى لو كان فقيداً. والآن يبدو أن هذا كله تغير،سواء بصدمة نقل رفات السابقين، أو تدنيس عظامهم تحت الجرافات.
تتغير خريطة المدينة، بما يشمل خريطة الموت نفسه، ويشعر الأحياء أنهم محاصرون حتى بعد موتهم، وكأن الراحة بعد الموت صارت ترفاً هي الأخرى، وهو ما يجعل الجميع بحاجة لخارطة مفهومة يمكن أن تشمل التطوير والأمان في آن، فالعالم لا يشترط أن يظل راكداً للأبد، ولكن هل يجب لكي يتطور أن ينسى أمواته؟