fbpx
نور عسلية، عمل تحت عنوان: lettre de Virginia Woolf-2015 / Das et tissu

أن تحيا كنحّات.. ومنحوتة 

هل يمكن للمنحوتة أن تكون دفترًا ورقيًا.. أو هدمًا وتركيبًا على لوحة؟ وهل يمكن للنحت أن يكون فعل تحنيط؟
7 ديسمبر 2020

عندما دخلت إلى كلية الفنون الجميلة في دمشق عام 2001 لم يكن لديّ معرفة عميقة بمعنى الفن وتجليّاته وكم هو وثيق الصلة بالحياة اليومية، أو حتى بمغزى دراسته تاريخاً وأرشيفاً. وسرعان ما تبين لي أنني لست وحدي في هذا الأمر، وأن نقص المعرفة بالفنون التشكيلية مشكلة قديمة في العالم العربي، أسبابها تتشابك بين ما هو اجتماعي وديني وما هو سياسيّ.

كانت دوافعي الأولى لدراسة الفن موروثة عن حبّ والدي للرسم وممارساته المتواضعة في رسم البورتريه بواقعية مبسّطة. وعندما تخرّجت باختصاص النحت عام 2005 لم أكن قد شكّلت بعد صورة واضحة لمستقبلي المهني أو الفني. فقد كنتُ أعتقد أن اتخاذ الفن مهنةَ لا يعني إلّا إنتاج أعمال جيدة تذهب إلى صالات العرض وتلقى حظاً بالاقتناء، على أن تخضع لمعايير الصلابة والديمومة ولأبعاد جمالية، ربما تعبيرية، لكن دون شطحات استفزازية سواءً في المنحى الاجتماعي أو السياسي. 

وفي المقابل كان ميلي للتعرّف على نظريات الفن واضحاً، وهو طموح شاركني فيه العديد من طلاب مرحلة الدراسات العليا التخصصية، الذين كانوا يسعون للحصول على منحة للدراسة في الخارج.

حين قدِمت إلى فرنسا كان في نيّتي تحصيل مؤهل علمي أعود به إلى دمشق للعمل في كلية الفنون الجميلة، لكن الأحداث شاءت غير ذلك بعد أن تفجّرت سوريا في كل أنحائها، وسوف يصعب عليّ فيما بعد حصر كلّ ما انطبع في داخلي من تغييراتٍ في تكويني الفني والفكري، وكيف تشابك معها كلّ ما هو شخصي أو نفسي.

أذكر جيداً كيف بدأتُ دراستي في باريس وكانت تتنازعني رغبتان، الأولى هي الاشتغال على نفسي كفنانة، وفي الوقت نفسه، التعمّق النظري في الفنّ، دون أن أعتقد بإمكانية الدمج بين التوجّهين.. ثمّ جاءت معوّقات وانتكاسات في حياتي الشخصية لتحدّد الطريق.

أصبحت أمّاً نهاية عام 2011، وكان عليّ أن أتابع دروسي إلى جانب عدد كبير من المهام الأخرى المرتبطة بوجودي في بلد جديد، بعيدةً كل البعد عن أيّة مرتكزات. في تلك المرحلة توقْفت عن الرسم والنحت نهائياً طوال أربع سنوات، ثم استرجَعتْ يدي ذاكرتها التي أوشكت على الضياع في عمل “رسالة إلى فرجينيا وولف” نهاية عام 2014. هذا العمل الذي مثّل لي نقطة تحوّل على عدة أصعدة، رافقتها آلام وتخبطات جديدة إثر إصابة والدي بسرطان الرئة.

أن تحيا كنحّات.. ومنحوتة 

رسالة إلي فيرجينيا وولف.نور عسلية 2015. بإذن خاص من الفنانة

اتخذ والدي من تحنيط الطيور والحيوانات مهنةً جانبيةً متمّمة للدخل، وبينما كان يعمل كانت المواد الكيماوية التي يستخدمها في عملية التحنيط تفعل فعلها في جسده، أما أنا، فكنت طفلة أجلس طوال الوقت أراقب عمله، أستقبل حدث التحنيط بصرياً ومعنوياً بتأثر شديد.

تجذرت في رأسي أصوات ارتطام عظام الحيوانات والطيور على طاولة العمل الخشبية العتيقة، وآثار الأدوات عليها، ورائحة عجيبة كان يشكلها امتزاج الدم المتخثر مع الريش، كما أن فكرة تحويل جثة إلى مجسّم بديع -كما كنت أراه حينها وليست الحالة اليوم- كانت فاتنة بالنسبة إليّ.

خوفاً من “الخالق المصوّر”

لقد صنَعتْ هذه الذكريات صورةً في رأسي يستحيل تبديدها، وباتتْ المحرّك الأساسي لعملي في النحت، لذا فإنني أعتبر أعمالي محنّطاتٍ، وهذا هو إذا بالنسبة لي معنى “المنحوتة”، أو “التمثال” في تسمية أخرى. 

ففي اللغة العربية تستخدم كلمة “تمثال” للتعبير عن المجسّم الذي يستحضر هيئة حيوانية أو إنسانية، وكلمة “نُصب” لما ينصب في فضاءات واسعة. كما كانت الهيئات المجسّمة سابقاً تسمى “أصناماً” و “أوثاناً”. وحسب مختار الصحاح، وهو من أقدم معاجم اللغة العربية المستخدمة حتى اليوم لصاحبه محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي المتوفى بحدود عام 1261م، فإن كلمتيّ “صنم” و”تمثال”، (دون أن يحدد المعجم مدلولهما بدقة) مرادفتين لبعضهما البعض. كما يرد في هذا المعجم ذاته بأن “التمثال” هو “الصورة”. 

وتجدر الإشارة إلى أن هذه التعاريف المعجمية شديدة الاختصار مسبوقة بتعاريف لهشام بن محمد الكلبي المتوفى بحدود عام 819م في كتابه “كتاب الأصنام” على النحو التالي: “الأصنام: ما كان معمولاً من خشب أو ذهب أو من فضة صورة إنسان فهو صنم“. “الأنصاب”: “حجارة تنصب أمام الحرم وأمام غيره مما استحسن للطواف به“.

وأغلب الظن أن هذا الاختلاف بين تعريف الرازي وتعريف الكلبي يشير إلى توجّس صاحب مختار الصحاح من الدخول في التفصيل في معاني كلمات مدانة من وجهة نظر التفسير الإسلامي، الذي يحرّم التماثيل بوصفها أوثاناً تذكّر بفترات تعدد الآلهة. لكن هذا الفارق ما هو إلا نقطة في طريق التحريم الطويل الذي نشهده حتى اليوم، الجاثم ليس فقط خوفاً من الوثنية، فهي باتت بعيدة عن أي منطق معاصر اليوم، إنما بدرجة أكبر لتجنّب التشبه بالخالق، من حيث أن صانع التمثال يقوم بخلق (أو تصوير حسب تعريف كلمة تمثال في مختار الصحاح) المجسّم، وهو بذلك يقوم بالفعل ذاته الوارد في القرآن في سورة الحشر: “الخالق البارئ المصور”.

أن تحيا كنحّات.. ومنحوتة 

نور عسلية، عمل تحت عنوان: l’oeil de ma mère.2017: photos sur papier et résine. بإذن خاص من الفنانة

والحقيقة أن قضية التحريم بتشعباتها ليست أولويّةَ بالنسبة إليّ، إنما تشغلني هذه التسميات التي أوردُتها، لأنها تدفعني للتفكير في معنى وتعريف التمثال ذاته. وهذه الطريقة بالتساؤل البحثي الذي ينطلق من الكلمة، إن كان فلسفياً أو نقدياً، قد استقيتها من دروس الأستاذ عبد العزيز علون ضمن منهج علم المصطلح خلال مرحلة الدراسات العليا التي قمت بها في دمشق.

كان له، هو الواسع الاطلاع على اللغة الإنكليزية والمصطلحات الأصلية للفنون، وجهة نظر فريدة حول تعريب هذه المصطلحات وضرورة الحذر من استخدامها جزافاً، وكان له بذلك أثر كبير على منهجي البحثي. وكذا، اتبّعت هذه الطريقة في لغة دراستي الجديدة الفرنسيّة.

تحنيط الوجه واليد.. تحنيط اللحظة

في بداية الطريق، شكّل ضعف لغتي الفرنسية عائقاً معرفياً ونفسياً، وأضاف هذا العامل تحدياً أمامي دفعني للمقارنة دوماً بين سرعة الإنجاز البحثي للزملاء الفرنسيين أو الأجانب المتمكنين من اللغة وعدم قدرتي على القيام بالمثل. مع الوقت، برفقة الفضول الذي ينطلق من كلمة والذي يتحوّل إلى التعرّف على المفاهيم والدلالات التي تعبّر عنها تلك الكلمة، تفتّت هذا الحاجز تدريجياً، تاركاً وراءه لديّ الطرق المنهجية التي ولّدها. وكل هذه المعطيات الأكاديمية والذاتية قد أثرت تأثيراً كبيراً على عملي في الفن.

كنت في بداية عودتي لممارسة النحت مقيّدةً بشكل واضح، أحاكم عملي كما أحاكم أعمال الآخرين، فقد ينتهي الأمر بأن أقوم بتكسير بعض القطع لعدم توفر رضى كامل عنها، وكثيراً ما كنت أقوم بالمحاكمات أثناء العمل، فأفكر بإسهاب في معنى النحت والمادة المستخدمة: بالنسبة ليّ المادة خامة العمل لها السطوة التعبيرية الكبرى وتمثّلُ أساسَ النحت فكرةً وتشكيلاً. ومن ثمّ فإني أسأل نفسي مبرراً لكل العناصر الشكلية والدلالية، وأصوغ بدقة دوافعي العاطفية، إذ لطالما حسبت النزعات العاطفية فخاً يقع فيه الفنان، لأنها تجعله لصيقاً بالعمل، وقد تحجب عنه إخفاقاته في الجوانب الفنية الصرفة.

مع الوقت صار هذا الحوار الداخلي أكثر ليونةً، متضمناً قبل الشروع بالعمل. أذهب إلى النحت وقد عبرت رأسي هذه الأسئلة فلا ترجع لتشكّل عائقاً أمام الاستغراق في عملية النحت ذاته. بعد ذلك، أخذت الأسئلة تتحول إلى تفكيرٍ لاحق حول نقاط أخرى: عن موقع عملي في الفن المعاصر؟ أو كيف يفهم الآخرون عملي؟ وهكذا.. فوجدت بعد استجوابٍ ذاتيّ، واستئناسٍ بمعرفتي النظرية، بأن نزوعي نحو التشخيص ليس رجعياً كما كنت أخشى، وأن استخدام الوجه واليد لا ينضب، وأن الحنين كان عاملاً يلعب دوره هنا، فلطالما رغبتُ بعدم التخلي عن هذه الجزئية المُعرّفة لهوية نحت الحضارات القديمة في المنطقة السورية التي كانت بمعظمها تشخيصية أيضاً.

لكني في الوقت ذاته كنتُ أفكر في ضرورة إيجاد حلولٍ تشكيلية معاصرة، من خلال إضافة الأقمشة الشفافة أو الريزين الزجاجي أو الشمع إلى القطع المنحوتة، وجميعها في رؤيتي بمثابة مواد للتحنيط، توحي بتحنيط جزءٍ من الجسد، وبتحنيط اللحظة التي وقع فيها الحدث المُمثّل قصّة العمل، وحدث النحت ذاته أيضاً.

أذهب مع ذاتي أبعد من ذلك، فأعتبر كل ما أنتجه تقريباً نحتاً، حتى في أعمال الكولاج..

دامتَ هذه الحوارات الفردية إلى أن شعرت بحدود عام 2018 بأني أمتلك ما أريد قوله وأمسك بمعظم خيوطه، فما عدت أخشى الأحكام، واتّخذتُ من النحت مساحةً حرة لا تشبه طريقتي في الكتابة، فعندما أنحت أقع في فوضى وكآبة شديدة، وعلى خلاف ما يصدر عن الكثير من الفنانين من اعتبار الفن مساحة للتفريغ أو العلاج، شعرت دوماً بأن النحت يزيد من عذاباتي، بل أنني في مقابلة سابقة كنت قد ذكرت أن النحت “يشبه تقيؤ قطع زجاجية”، لذا صار من المستحيل أن أتّخذ من النحت لي مهنة، فهو حدثٌ مضطرب ومتقطع ومؤلم.

أن تحيا كنحّات.. ومنحوتة 

رسالة إلي فيرجينيا وولف.نور عسلية 2015. بإذن خاص من الفنانة

أما عندما أبدأ بالكتابة، فغالباً ما أقوم بالعمل دون انقطاع، بسكون وتنظيم شديدين، وفي معظم الأحيان تكون النصوص بنسخةٍ وحيدة دون حذف أو تعديل أو حتى إعادة ترتيب. بقولٍ آخر، فإنني عندما أشرع بالكتابة عن ذاتي كفنانة أنقسم إلى شخصيتين.

والحقيقة أنني أدرك اليوم أن مبادئ تأسيسية مما قد تعلّمته خلال دروسي في جامعة باريس الثامنة، تشكّل لي مرجعيات مُحدِّدة لعملي في الفن، وأشدّ ما أومن به منها وأتبناه هو أولاً التمسّك والتعمّق بالتخصص، بمعنى آخر عدم الخوض في أشكال فنية أو تخصصات نظرية لستُ متمرسة فيها (دون أن يمنعني ذلك من التجريب بشكل فردي أو السعي للتعلّم) في حين أننا درسنا على سبيل المثال في كلية الفنون الجميلة في دمشق مقرر “تاريخ الفن”، وهي مادة في كتاب واحد يشتمل فيما يقارب أربعمئة صفحة على تعريف بتاريخ كل الفنون منذ الفنون القديمة وحتى المعاصرة، يمرّ عليها الكاتب باختصار شديد إلى درجة انعدام الإفادة.

والمبدأ الآخر هو أن البعض من منظريّ الفن المعاصرين يميلون إلى تعريف النحت على أن يشمل كل الأعمال ثلاثية الأبعاد، فيتضمن بذلك أعمال التركيب والتجهيز المكاني بوصفها منحوتات يمكن الدخول إليها وتلقيها بالطرق اللازمة غير المألوفة، وهذه السعة في تعريف النحت لها مقدّمات قد بدأت بالتفتح منذ بداية القرن العشرين. وإني في النتيجة، أذهب مع ذاتي أبعد من ذلك، فأعتبر كل ما أنتجه تقريباً نحتاً، حتى في أعمال الكولاج (لصق قصاصات ومواد أخرى على سطح اللوحة) فهي حقيقةً تتخذ بعداً ثالثاً، عدا عن أن بناءها يستلزم تفكيكاً وتركيباً وهدماً، تماماً كما في عملية النحت. 

درجة من العنف..

على سبيل المثال، عملتُ في مجموعة من الدفاتر بعنوان “Journal intime” (دفتر الخصوصيات) نفذّتها في فترات متفرقة خلال عام 2019 على موضوع الاسترجاز (النشوة) لدى النساء، حيث قمت بتوظيف طيات الدفاتر وإمكانية تقليب صفحاتها لخدمة التعبير عن هذا، فكنت أشعر دوماً أنني أقوم بالنحت لأنني أتعامل مع هيئة ثلاثية الأبعاد.

أما عن موضوع هذه المجموعة فهو ليس محطّ ترحيب حتى لدى المجتمع الغربي. وبصرف النظر عن كونه أحد المحظورات الدينية والأخلاقية في بلدان عديدة، فهو يشير إلى إمكانية اكتفاء النساء بمتعة لا يتدخل فيها أحد، أي أنه يعبّر عن استقلال جنسيّ مطلق.

لا بد من القول بأنني ما كنت لأملك الجرأة ذاتها لو كنت في بلدي. ومؤخراً يفيض في رأسي كثير من الأسئلة حول الكيان المؤنث، عن النساء النحاتات، عن الجسد المؤنث في الفن، عن المرأة كيف تحيا كمنحوتة ونحاتة في آن، حتى أني كنت في نصين سابقين، أحدهما منشور بعنوان “الفن المعاصر برعاية نسويّة” والآخر لم ينشر بعد يحمل عنوان “الجسد المؤنّث في الفن نماذج من التجربة التشكيليّة السوريّة المعاصرة”، قد حاولت الاقتراب من بعض القضايا المرتبطة بالنساء والفن، ومن التفكير في مدى ارتباط سؤال النوع بمكانة الفنانات، وهو تساؤل قد نظرّت له مفكرات نسويات بشكل متخصص وفاعل (أشهرهنّ ليندا نوكلن) منذ سنوات السبعينيات.

أن تحيا كنحّات.. ومنحوتة 

نور عسلية.عمل بعنوان من دفتر الخصوصيات. بإذن خاص من الفنانة

أتطلّع لاحقاً للتعمق في النحت المنتَج من قبل النساء، وبالقيود المتراكمة أمامهنّ والتي، على تنوعها بين الشرق والغرب، تطلق أفكاراً أصيلة غير مسبوقة، تترافق مع حساسية خاصة تجاه المادة والخامات، فللنساء معها علاقة مختلفة عن تلك التي للرجال، وبإمكاننا تصنيف الأمهات في موقع الأشد تأثّراً والأوسع خبرة بالتعاطي مع المواد العضوية على وجه الخصوص، يضاف إلى كلّ ذلك المشقة الجسدية اللازمة لإنجاز النحت في أحجام كبيرة.

لكلّ هذه الأسباب تبدو أعمال النحاتات مختلفة، وبالإمكان استقراء درجة من العنف في معظم أعمال الفنانات تقريباً، عنف قد خضعن له في مرحلة من مراحل حياتهن سواء في موقع الابنة أو الأخت أو الحبيبة أو الزوجة أو الأم أو حتى الجّدة. واليوم فإن كان من تصنيف نقديّ أميلُ إلى تصنيف ذاتي الفنية ضمنه، فهو هذا النتاج المؤنث الذي أنتمي إليه فطرياً.