fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

أهراءات بيروت بعد خمسين عامًا من اليوم، إن وجدت

في تحليلٍ بسيطٍ لما يجري منذ ظهور اهتمام الفرنسيين بالمرفأ بعد التفجير، من المرجّح أن تعمل شركة فرنسية على استلام إدارة المرفأ، كما استلمت قبلها إدارة مرفأ طرابلس
ــــــــ المـكـان
12 سبتمبر 2022

تحت عنوان “المدن والرغبة”، يحكي إيتالو كالفينو قصة فيدورا، مدينةٌ بمتحفٍ مختلف، في كل غرفةٍ منه كرةٌ بلورية، يرى من ينظر إليها نسخةً مختلفة للمدينة. هكذا، تستطيع الزائرة بينما تنظر إلى كرة أو أخرى، أن تختار المدينة التي تتلاءم ورغباتها وأحلامها، المدينة التي تستطيع أن تتخيّل نفسها تعيش فيها، فتنظر إلى ساحاتها الواسعة، وبركها المتلألئة، تمشي في أزقّتها المغطاّة بأغصان شجر التوت الذي سمعت أنّه كان منتشراً فيها.

في كل غرفة من هذا المتحف نسخةٌ مختلفة لما يريد كل شخصٍ أن يراه في المدينة.

الفرق بين ما يريده سكّان بيروت وما تريده السلطة، كرةٌ بلوريةٌ ننظر نحن إليها فنراها مدينةً للجميع، مدينةً للعيش والعمل والاستمتاع، مدينة نرى فيها ماضينا وتاريخنا. وتنظر السلطة إليها فتراها مصدراً للصفقات والربح. وأهراءات مرفأ بيروت اليوم بَلوَرةٌ لهذه الرؤية، وللفارق الكبير بين رغبات الناس ورغبات السلطة.

ففي 4 آب 2020، فجّرت السلطة 2750 طن من نيترات الأمونيوم، بعد أن خزّنتها لمدّة ست سنوات بشكل خاطئ وغير آمن في مخزن لا يتمتّع بالمواصفات المطلوبة. يُعتبر التفجير بقوة 1\20 من قنبلة هيروشيما، وهو الثالث من حيث الكِبَر بعد تفجيري هيروشيما وناغازاكي.

هزّ التفجير المنطقة كلّها، شعر الناس به في كل أنحاء لبنان، سوريا، فلسطين، الأردن، تركيا وقبرص. وسجّله المقياس الجيولوجي في الولايات المتّحدة كهزّة مقدارها 3.3 درجة، ويُعتَبَر أحد أقوى التفجيرات غير الطبيعية وغير النووية في التاريخ، والذي قتل أكثر من 218 شخص، وجرح أكثر من 7000، وهجّر حوالي 300 ألف من سكان المدينة. تدمّر زجاج مباني وسيارات المنطقة الشرقية من بيروت بالكامل، وكذلك في بعض أحياء بيروت الغربية. 

منذ 4 آب 2020، احتلّت الأهراءات مكاناً هاماً في صلب الذاكرة البصرية؛ إن من خلال الصور أو الفيديوهات التي سجّلت قوة التفجير وتأثيره المخيف على مبنى بهذه الصلابة للمتضّررين وأهالي ضحاياه اللواتي والذين أصبحت تحرّكاتهم كلّها تبدأ من أمام المرفأ وشكل أهراءاته المتداعية في الخلفية، أو تنتهي عندها. 

وعلى الرغم من احتلال هذا المبنى أهمية معنوية وعاطفية عند الناس، ووجود حقٍ عام للاحتفاظ به، كشفت السلطة نيّتها التخلّص منه من جهة، واستغلال تدمير المرفأ لنهب المزيد من المال من جهة أخرى.

ما هي الأهراءات وماذا تريد السلطة أن تفعل بها؟

حين بُنِيَت عام 1968، كانت صوامع أهراءات مرفأ بيروت الأكبر في الشرق الأوسط، بحسب غابريال أسيون، المهندس المدني الذي كان مديراً تقنياً للورشة خلال إنشاء الأهراءات من قبل مكتب رودولف إلياس وشركة البناء التشيكوسلوفاكية برومستاف Průmstav.

تتألّف الأهراءات من برجٍ في الجهة الشمالية الغربية للمرفأ، تتّصل به 14 خلية على ثلاثة خطوط بعلو خمسين مترًا، أُضيفت إليها خليتان سنة 1967 و1977 (أي ما مجموعه 48 خلية)، بقي منها حتى اليوم 12 خلية، وقد بناها عمّالٌ سوريون ولبنانيون.  

تمّ بناء الأهراءات خلال حقبة بناء مؤسسات الدولة اللبنانية، وبالذات من خلال توسيع مرفأ بيروت في الستينيات. وكان لها القدرة على تخزين 120 ألف طن من الحبوب، واستطاعت الاحتفاظ بمخزون لبنان الاستراتيجي من القمح. فبين 1964 و1968، كان لبنان يستهلك سنوياً ما يقارب الـ311 ألف طن من الحبوب، وينتج ستين ألف طن، ممّا أظهر حاجةً كبيرةً للتخزين.

وخلال تفجير مرفأ بيروت، وعلى الرغم من تضرّر بعض الصوامع، حَمَت الأهراءات بخلاياها السميكة النصف الغربي لمدينة بيروت. ولكن في 31 تموز (يوليو) 2022، بدأ انهيار خلايا الأهراءات، ثم انهارت أجزاءٌ أخرى بشكل متتالي، إلى أن سقطت ثماني خلايا في 23 آب (أغسطس) 2022. واليوم، هناك 12 خلية صامدة قابلة للتدعيم، وعُرضَت في نقابة المهندسين آليةٌ لتدعيمها.

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

مخططات السلطة

بعد أن نشأت حركة اعتراضية واسعة للحفاظ عليها، هناك شعور مستمرّ بأن السلطة تسعى إلى تخريب الصوامع، وذلك عبر تقاعسها عن اتّخاذ قرار التدعيم الذي تطالب به نقابة المهندسين في بيروت منذ سنتين، وعدم جدّيتها في التعامل مع الحريق المتجدّد في الموقع، وأخيراً عبر تقرير نقابة المهندسين الذي يظهر تعمّداً في إضعاف إنشاءات الصوامع.

ففي 11 آب (أغسطس)، وبعد أيام قليلة على انهيار نصف الجزء الشمالي للأهراءات، صدر عن نقابة المهندسين في بيروت تقريرٌ إنشائي مرحلي بعنوان “صوامع الأهراء في مرفأ بيروت بعد التفجير- الجريمة”، يكشف أن ما تسبّب بزعزعة الحالة الإنشائية للصوامع الشمالية يعود إلى أضرارٍ غير متعلقةٍ بتفجير المرفأ. يوثّق التقرير استحداث ثقوبٍ في الصوامع (قارب حجمها المترين) نُُفّذَت بآليات غير موصى بها ممّا أدى إلى ضرر شديد في الأساسات. فيما أوصى تقرير لشركة خطيب وعلمي -الشركة المكلَّفة رسمياً بإعداد دراسة تفريغ الصوامع من الحبوب- بإحداث ثقوب صغيرة (40 سنتمترًا). ويُظهر التقرير تأثير هذه الثقوب في تسريع “إضعاف الصومعة، وظهور التشقّقات”.

وقد نشرت حملة الأهراءات والمدينة التي تقودها مجموعة من المهندسات والمهندسين والمخططات والمخططين المدينيين بأن “الثقوب كانت قد نُفِّذت قبل أشهر من حريق الجزء الشمالي. بالتالي، فإن الحريق والتقاعس بإخماده كان خطوة مكمّلة للقضاء كليّاً على الصوامع، بعد زعزعة أساساتها، ثم العمل على جعل مشهد انهيارها وكأنّه مجرّد مصادفة، أو «قضاء وقدر»- كما يحلوا للمسؤولين أن يتعاطوا مع هذه الجريمة”.

بالإضافة إلى ذلك، يتحمّل “مجلس الإنماء والإعمار”-إحدى مؤسسات الدولة الأساسية في تخطيط المناطق- المسؤولية المباشرة عبر تحضيره مشروع هدم الأهراءات، بالرغم من المطالبات الدولية والمحلية بتدعيمها، مُظهّراً رؤية الدولة للأهراءات. كما أن عدداً من النواب طرحوا مشروع قانون معجّل لتدعيم الأهراءات، إلّا أن السلطة أسقطته في تموز (يوليو) الفائت، وعلى الرغم من تصويت 41 نائباً ونائبةً لتأييد مشروع القانون، ومعارضة 37 له، إلّا أن رئيس المجلس أسقط القانون. 

وبعد سقوط الجزء الشمالي بكامله، مازال الجزء الجنوبي سليماً ثابتاً منذ التفجير، كونه مفصول تماماً عن الجزء الشمالي. ويؤكّد الدكتور يحيى التمساح، أن الجزئين الشمالي والجنوبي من مبنى الأهراءات بُنيا بشكل منفصل تماماً ويمكن اعتبارهما مبنيين مستقلّين، يبعدان 1.2 مترًا عن بعضهما البعض. 

وفي دراسته التي أعدّها ومساعديه سنة 2021، يفكّك تمساح أقاويل السلطة حول خطر سقوط الأهراءات، وهي -عكس أقوال ممثّلي السلطة ودراسات شركاتهم المبنية على المصالح- نُشرَت في Engineering Structures  مجلة مرجعية عالمية، وهي تُشكّل، حتى اليوم، الدراسة العلمیّة المرجعیّة الوحیدة حول الحالة الإنشائية لأهراءات المرفأ.

كما تدعم الدراسة المشتركة التي أجراها سحر اسماعيل ووسيم رافايل ووإيمانويل دوران، واستخدم فيها المسح بالليزر ثلاثي الأبعاد، أن الجزء الجنوبي ما زال سليماً.

لماذا تريد السلطة هدمها؟

الربح. منذ نهاية الحرب الأهلية، يلعب الربح الدور الأساسي في كل مشاريع السلطة. ويبدو ذلك واضحاً منذ عملية إعادة إعمار بيروت التي نُهِبَت المدينة من خلالها، حتى تفجير المرفأ ومبادرات هدم الأهراءات اليوم. تربط السلطة هدم الأهراءات بإعادة إعمار المرفأ، على الرغم من تأكيد الدراستين السابقتين على صعوبة استخدام الموقع للبناء، نتيجة التفجير. وتشكّل إعادة الإعمار في هذا السياق، المجال القانوني والاقتصادي الأنجح لتنفيذ عملية نهب جديدة. 

وفي تحليلٍ بسيطٍ لما يجري منذ ظهور اهتمام الفرنسيين بالمرفأ بعد التفجير، يرجّح الناشطون بأن شركة فرنسية تعمل على استلام إدارة المرفأ، كما استلمت قبلها إدارة مرفأ طرابلس. 

في الوقت ذاته، ونظراً لأهمية موقع مبنى الأهراءات وسعي السلطة المستميت للتنقيب عن الغاز، تحتلّ الأهراءات والمباني التي تخدمها (وهي تمتدّ على رقعة يقارب حجمها ما يعادل خمس مرات حجم المبنى، بحسب أحد المهندسين) موقعاً أساسياً لخدمة عمليات التنقيب وتخزين المواد المستخدمة. 

وهو موقع يؤكّد أهميته أحد المهندسين، نَظَراً لسهولة الوصول إليه من البحر ومن السفارة الفرنسية، وسهولة حمايته وتأمينه عسكرياً. ويلعب المرفأ اليوم دوراً أساسياً في المنطقة، بين مرفأ حيفا والصفقات الفرنسية التي جاءت مع ماكرون.

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

لماذا نريد حمايتها؟

منذ بداية تجربة عملية إعادة إعمار وسط بيروت، عاش السكان تجربة تغيير المكان دون إرادتهم، كما اختبروا أشكالاً متنوّعة من النهب، بدايةً من الثروة حتى التاريخ والذاكرة. وما يجري اليوم في المرفأ عامةً، وفي مبنى الاهراءات بالتحديد، مشابه لما جرى يومها. 

تحمل المدينة بساحاتها ومبانيها وشوارعها تاريخ من يعيشون فيها، وتكون شاهدةً على التغييرات التي مرّوا بها. ويُعتَبَر المرفأ  ملكاً عاماً للناس. لذا، وبسبب قوة التفجير والظلم المُتأتّي عنه، إن كان لناحية الجريمة بحد ذاتها، أو عدم تحمّل الدولة مسؤولياتها تجاه الضحايا واستمرار عذاباتهم حتى اليوم، وبقاء الأحياء البيروتية المدمّرة على حالها، والتهجير المستمرّ لمن تدمّرت بيوتهم أو تضرّرت، وغياب أي شكلٍ من أشكال التعويض ومنع محاسبة المجرمين، فإن الحفاظ على ذاكرة هذا اليوم ومعناه وتأثيره على الناس والمدينة، أساسي. 

إن الاحتفاظ بهذا المبنى على حاله، مع تدعيمه، هو مطلبٌ يقول بأنّ المدينة لم تعُد كما كانت منذ هذا التفجير، وبأن سكّانها قُتِلوا وهجّروا بسبب السلطة. لذا تلعب الأهراءات دوراً مدينياً سياسياً بامتياز في حفظ الذاكرة بصرياً، وفي إثبات قوة هذا التفجير وفظاعته. 

وفيما يشكّل هدم الأهراءات مبادرة تجارية جديدة، إلّا أنّه أيضاً خطوة من الخطوات العديدة التي اتّخذتها السلطة في السنين الأخيرة، خارج إطار رؤية محدّدة وواضحة لتخطيط الأراضي والمناطق في لبنان. بمعنى أن أي عملية إعادة إعمار أو تغيير تجري على مستوى الأراضي، يجب أن تكون جزءاً من الرؤية الشاملة للدولة، للأراضي ودورها الاجتماعي الاقتصادي السياسي. وصياغة هذه الرؤية الشاملة، هي أحد مسؤوليات الدولة. لكن تدمير الأهراءات أو إعادة إعمار المرفأ خارج إطار رؤية شاملة لبيروت بالذات، ولباقي المرافئ وشبكات المواصلات العامة، هو استكمال للحلول المجتزأة التي عوّدتنا عليها السلطة في لبنان.

وقد نشطت مجموعات تضم مهندسات ومهندسين ونشطاء ومجموعات معارضة عديدة  تضمّ من تضرروا من تفجير المرفأ وأهالي ضحاياه، بعد بدء الحديث عن تدمير الأهراءات أو جرفها من قبل الوزارات المختصة، خاصة وزارة الأشغال العامة. وتلعب نقابة المهندسين في بيروت، دوراً أساسياً في دعم حماية الأهراءات، عبر إجراء دراسات مستمرّة والكشف عليها من جهة، والضغط المباشر على السلطة لمنع تدمير ما تبقّى.  

من الصعب تفادي مقارنة ما يحدث مع الأهراءات بما جرى بخصوص قبّة غنباكو بعد تفجير هيروشيما، على الرغم من ذكرها في العديد من المقالات التي تذكر الأهراءات؛ فالمقارنة هنا ضرورية وأوجه الشبه كثيرة. عام 1996، تمّ إدراج قبّة غنباكو Genbaku Dome الشهيرة في هيروشيما على لائحة اليونيسكو للتراث العالمي. تعلو هذه القبة معرضاً للمنتوجات المحلية لهيروشيما، وهو المبنى الوحيد الذي صمد من القنبلة. 

افتُتِح هذا المبنى عام 1915 كجزء من عملية إدخال المدينة عصر الحداثة. أكثر من خمسين سنة بعد هذا التاريخ، كان بناء مؤسّسات الدولة والمرافق العامة في لبنان أيضاً محاولة لإدخال البلد الخارج حديثاً من احتلال عثماني تبعه استعمار فرنسي، عصر حداثةٍ ما، وتطوير مرفأ بيروت وبناء الأهراءات كانا جزءاً من هذا المشروع.

في تشيلي، ما زالت بقايا نظارات سلفادور أليندي، نصفها المكسور والمشظّى، محفوظة في المتحف الوطني. النصف، لا الكلّ، مع آثار حريق أو تفجير، يُحفَظ لأنّه ذو قيمة عاطفية وسياسية. الأمكنة والأشياء تحتفظ بالتاريخ، كما لا تحتفظ به الكلمات، بفجاجته وحقيقته وقسوته. 

أن نقول بعد خمسين سنة بأن المرفأ تفجّر، لا يعبّر ولو بشكل ضئيل عمّا جرى، بقدر ما يعبّر عنه المكان، المبنى المدمّر، أطرافه المتهالكة. قوّة ما جرى يومها، ظلمه وقهر الناس، كلّ ذلك، يحفظه مبنى الأهراءات المتهالك.