fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

التحول إلى الرمادي.. رحلة البحث عن جدي

لكنه نادرًا ما غضب خارج المنزل، بل نادرًا ما عبر عن أي شعور. تشير الدراسات التي تبحث في الاكتئاب لدى كبار السن، أنه اكتئاب بلا حزن.
ــــــــ تقدمـ العمـر
1 أكتوبر 2021

لم أبك جدي يوم وفاته، لكنني بكيت حزن أمي على فراقه. توفي جدي وأنا في الثانية والثلاثين من العمر، حفيدة أخرى في طابور طويل من الأحفاد فلا شئ مميز لوجودي في حياته، لكنه كان جدي الوحيد. لم تكن هناك أي علاقة لا مميزة ولا غير مميزة تربطني به. لكنني ومنذ كنت طفلة تسحبها أمها من يدها أثناء الزيارات العائلية، كنت في رحلة بحث مستمرة عنه؛ رحلة فعلية وليست مجازية.

تزور أمي بلدتها مدفوعة بشوق لرؤية أبيها فهي صغيرته المدللة، آخر طفلة دللها جدي وتوقف احتماله للصغار من بعدها. كان الغياب سمة أساسية لما بينهما؛ كأب لعشرة أبناء، دفن منهم ثلاثة في حياته، لم يعرف الرجل المكوث في المنزل لخمسة وستين عامًا.

اعتاد على الخروج مع طلوع الشمس وركوب شاحنته الاسكودا والانطلاق على الطريق سعيًا وراء الرزق. خاض حربين، ونجا، هاجر من بلدته ثم عاد إليها وبقي محصنًا في عالمه، معزولًا عن تعقيدات البيت ومشاكل الأبناء وهمّ تزويج الفتيات، تاركًا كل شيء للزوجة، جدتي.

للطبقة الجديدة انتصاراتها، والابن الذي أصبح حاجًا هو الآخر لا يرتدي الجلباب الأبيض ولا يدخن الجوزة، يفخر أنه أول من أدخل تجارة الذهب للبلدة الصغيرة، وليس أي ذهب بل قطع أنيقة تحاكي أفضل ما يباع في بلاد النفط

يعود الرجل من أسفاره التي تمتد أسابيع، محملًا بما تيسر له من مال، والقليل من الرفاهيات التي غالبًا ما يخص بها أمي، أتحدث هنا عن قراطيس من السوداني المملح، وقطع من الهريسة الرخيصة التي تبيعها استراحات السيارات على الطرق الطويلة. يشرق ليل أمي لرؤية أبيها وغنائمها. ولعيونه تعلمت كيف تعدّ أفضل جوزة، ليقضي إجازته القصيرة في المنزل بدلا من القهوة.

التحول إلى الرمادي.. رحلة البحث عن جدي

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

كان التحدي كبير على مراهقة تنهرها أمها عن عبور طريق يصدف أن تكون به قهوة بلدي. لكن جدتي الصارمة تصالحت مع عزوف أمي عن تعلم الطبخ فلديها الكثير من البنات ليقمن بتلك المهمة. وشجعتها على مهمة إعداد الجوزة لأنها الوحيدة التي أظهرت شغفًا وبراعةً في الأداء. سمحت لصغيرتها بشراء المعسل، وتعلًم أنواعه المختلفة والسؤال عن المقدار المطلوب لضبط الحجر، ورصة الفحم اللازمة لتعديل المزاج.

نصل بلدة أمي التي لا نسكنها ونذهب من فورنا لمحل أخيها علنا نجد جدي هناك. بعد سفر طويل لبلاد النفط عاد الابن الأكبر واقترح على جدي التخلي عن الطريق كمصدر للرزق والمكوث على مقعد أنيق في محل بيع الذهب. كان السبب المعلن هو أن يرتاح جدي الذي لم يكن قد وهن حينها.

لكن أمي والبنات استشعرن حرجًا من ناحية الأخ الذي يشق طريقه في تجارة جديدة تحمله معها نحو طبقة اجتماعية أعلى، لا مجال فيها للأب أن يخوض معاركه المعتادة على أجرة الحمولة، أو يشاع له في البلد انتصار جديد في تحديات أكل أكبر كمية من الحلاوة الطحينة في الموقف، أو أن يأتيه زبون يشترى قطعة ذهب فيهنأه على قدرة أبيه الاستثنائية في كشف التبّاعين الذين يسرقون شرائط الكاسيت ويعيدون بيعها من جديد.

للطبقة الجديدة انتصاراتها، والابن الذي أصبح حاجًا هو الآخر لا يرتدي الجلباب الأبيض ولا يدخن الجوزة، يفخر أنه أول من أدخل تجارة الذهب للبلدة الصغيرة، وليس أي ذهب بل قطع أنيقة تحاكي أفضل ما يباع في بلاد النفط.

تصالحت جدتي الصارمة مع عزوف أمي عن تعلم الطبخ فلديها الكثير من البنات ليقمن بتلك المهمة. وشجعتها على مهمة إعداد الجوزة لأنها الوحيدة التي أظهرت شغفًا وبراعةً في الأداء

أصل وأمي إلى محل خالي ونجد المقعد الأنيق خاويًا، فهو للحاج الغائب. نذهب إلى بيت خالي حيث انتقل للعيش هو وجدتي ولا نجده، حينها لا يبقى أمامنا سوى أن ندور على مقاهي البلدة القليلة بحثًا عنه. يتبع جدي الجوزة الجيدة أينما حلت وبالتبعية نتبعه نحن. تقف أمي بعيدًا عن مدخل القهوة وترسلني لأفتش عن الجد في جلبابه وطاقيته البيضاء دومًا. ترمقنا الأعين مستهجنة، حيث تلك المقاهي قلاع ذكورية محصنة لا مجال لوجود النساء بها.

***

لحظة استجاب جدي لطلب ابنه بالتخلي عن منزله وشاحنته، انتقل طواعية من مكانة الحاج المعيل الأساسي للعائلة إلى مكانة أبو الحاج. ليس هذا مجرد تلاعب بالكلمات، لكن ذلك ما يتم دراسته عبر أبحاث مطولة لمعرفة ما تعنيه الشيخوخة وكيفية قياس الإنتاجية في مراحلها المختلفة.

التحول إلى الرمادي.. رحلة البحث عن جدي

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

على العكس من جدي كانت جدتي أكثر عنادًا في التخلي عن روتينها اليومي الذي طالما مارسته لسنوات. كانت حالتها أسهل، لأن محور عملها المنزل، أما الميزة الجديدة التي منحتها لها الطبقة الاجتماعية الأعلى فهي ميزة الاختيار والمزيد من التمكين. ما كانت مجبرة على القيام به لأعوام، صار بإمكانها التوقف عنه ولم تفعل، على العكس صارت تبالغ في القيام به وتنتقل به لمستويات أعلى، خرجت بالفرن من المطبخ الضيق إلى حجرة بالحديقة، وبدلًا من تربية دجاجتين صارت لديها تنويعات من الطيور وكثرة في الأعداد. طورت جدتي من عالمها بينما ينفلت من أصابع جدي ما يألفه.

بعدما توقف جدي عن استخدام شاحنته، انتقل لقيادة سيارة خالي الملاكي للتنقل في البلدة. كان يتشبث بثبات يديه خلف عجلة القيادة. فالذي اعتاد الانطلاق على الطرق السريعة ومراوغة الشاحنات العملاقة، تعلّم السباب من القيادة في طرق البلدة الضيقة المكتظة بالصغار. ينبتون له من الأزقة الجانبية ولا يهابون لا سيارات ولا شاحنات. كانت السيارات عموما في شوارع البلدة نادرة، فور رؤيتهم لواحدة تصبح لعبتهم الجديدة يتقافزون من أمامها ويجرون من خلفها حتى تخلّى الرجل سريعًا عن القيادة بالمجمل.

***

فور أن أعثر على يديه الموشومة وهي تحمل ليّ الشيشة في القهوة المنشودة أهرول إلى أمي.. “جدو جوا”. تدخل أمي معقل الرجال كامرأة خارقة لا يقهرها شيء. تحمل يد أبيها لتقبلها. ويرن صوتها النسائي في القهوة التي لم تعرف سوى أصوات السعال الذكوري:  إزيك يابا؟ وحشتني. يشرق وجه جدي لرؤية أمي، ويعرض عليها الشاي محرجًا، يعلم أن القهوة ليست مكان للقاء ابنته، حتى ولو هدأ الاستهجان قليلًا لأنها ابنة الحاج، سيظل المارة العابرون يرمقوننا شذرًا. لا تتخلى أمي هي الآخرى عن الكود الاجتماعي تمامًا، تتجاوز عن القليل فقط لرؤية أبيها. تمازحه.. أنا مابشربش شاي يابا ماليش فيه.

في النهاية لم يعد الكثير ليقال، من الأصل لم يكن هناك الكثير ليقال، فقد كان الجد عاليًا، سببًا للوجود ولم يكن يومًا جزءًا من استمراره. كان ما بينهما حب خفيف، تدليلًا من جانبه، وشوقًا للقاء من جانبها، وبعد وفاته، كان ميراثها منه العديد من الكراسات الممتلئة بالشعر الذي أحب جدي نظمه.

جدي الذي اعتاد الانطلاق على الطرق السريعة ومراوغة الشاحنات العملاقة، تعلّم السباب من القيادة في طرق البلدة الضيقة المكتظة بالصغار. ينبتون له من الأزقة الجانبية ولا يهابون لا سيارات ولا شاحنات

بعد أن نشرت روايتي الأولى أخرجت جدتي من أسفل سريرها كرتونة معبأة بـ اسكتشات رسم عريضة ملأها جدي بقصائده. كانت تعاملها معاملة الكركبة. لو ملكت لجعلت منها وقود للفرن الحطب الذي لم تكن قد تخلت عنه إلى حينها. فمن جانبها هي لا تعرف لها فائدة. لكنها تعرف جيدًا رد فعل جدي إذا قررت معاملتها كما تفكر، فالغضب أصبح الشعور الجديد لديه، والذي بدا لمن حوله في المنزل أنه طمس شخصيته القديمة. لكنه نادرًا ما غضب خارج المنزل، بل نادرًا ما عبر عن أي شعور. تشير الدراسات التي تبحث في الاكتئاب لدى كبار السن، أنه اكتئاب بلا حزن. الأساس في تشخيص الاكتئاب في كل المراحل العمرية هو مكونات المزاج، والتي تميل عادة إلى الصمت والعزلة والحزن.

اللافت أنه في كبار السن يعبر الاكتئاب عن نفسه على هيئة نوبات غضب قد يصاحبها هلاوس سمعية. لا يربط بعض الكبار بين الهمس المتنامي من حولهم وبين ضعف السمع الملازم للشيخوخة. يفسرونه بأنه مؤامرات تحاك من خلفهم، لتسلبهم ما بقي لهم.

التحول إلى الرمادي.. رحلة البحث عن جدي

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

كانت جدتي تفسر نوبات غضبه التي تتلقاها عشمًا، لأنها تتلقاها حصريًا. هي فقط من يمكنه أن يكون على طبيعته أمامها، لذا تتركه يفرغ سخطه وتضعه في مكانه الملائم في مخيلتها إلى جوار قصائده، وقودًا للفرن. تخبرني دومًا أن كل علاقة المرأة بالرجل يلخصها مثل شعبي وحيد.. إيش ياخد الريح من البلاط. فالمرأة في نظرها رياح وعواصف وقوى متحكمة، مهما أظهرت غير ذلك، والرجل في عالمها بلاط.

وجدت في قاع الكرتونة نسختين من الجرائد.. عدد من جريدة البحيرة الآن نشرت لجدي قصيدة في حب فريد الأطرش مطربه المفضل والأخرى للأهرام حيث نشرت له في التسعينات قصيدة في حب حسني مبارك، ليس رئيسه المفضل لكنه رئيسه المعمّر. والآن بعدما نشرت كتاب، صرت في نظر جدتي ساحرة طيبة ستحول اسكتشات الرسم بعصاها السحرية إلى دواوين شعر مطبوعة. اقنعتها أنني بالكاد صرت كاتبة، لكنني لا أفقه في النشر شيئًا. صمتت وضمّت موقفي لسلسلة خيبات الأمل الطويلة التي أصيبها بها.

اللافت أنه في كبار السن يعبر الاكتئاب عن نفسه على هيئة نوبات غضب قد يصاحبها هلاوس سمعية. لا يربط بعض الكبار بين الهمس المتنامي من حولهم وبين ضعف السمع الملازم للشيخوخة. يفسرونه بأنه مؤامرات تحاك من خلفهم، لتسلبهم ما بقي لهم

في الشهر الأول من وفاة الجد، لم تكن اسكتشاته تفارق يد أمي. وكأنها انتهت من رحلة البحث الفعلية لتبدأ الرحلة المجازية. تفتش في القصائد عن الأحداث الأكبر التي لم تعشها معه، عن الذكريات الأغنى التي كان من الممكن أن تحتفظ بها منه، لولا الغياب. تشعر بالرضا عن ما كتبه في الحب؛ فورث كل ابن وبنت من عياله قصيدة تحمل اسمه، وبدا أنه يتقرب من الله ورسوله بالعديد من القصائد في حبهم. لكن ما أحزنني بحق كانت قصائده عن الندم على ما أسماه شقاوة الشباب، فكان مخيفًا بالنسبة لي أنها أوضح ما عرفته عن جدي يومًا، كأنه كتبها لي دونًا عن كل أحفاده، إرث من الغياب والندم.