fbpx
الإثنين 22 فيفري/فبراير 2021. تصوير: نهلة جابي

الآن.. في الجزائر

أسئلة كثيرة؟.. نعم، لكن دعوني أعترف أنّنا تخلّصنا من أوهام كثيرة، وتعلّمنا بضعة أشياء
25 فبراير 2021

“المناضلون (..) الثوريون يحرثون الأرض ويمهدونها للثورة، ولكنهم لا يفجرون ثورات، ولا انتفاضات كبرى أو صغرى، ولا حتى إضراب عمالي عابر أو مظاهرة طلابية كبيرة أو صغيرة، وليس بوسعهم ذلك. ولكن ما أن تندلع هذه حتى تدفع بأولئك إلى مقدمتها.” هاني شكر الله (1950 – 2019)، مناضل ومفكّر مصري

بعد 11 شهراً من توقّف المسيرات الأسبوعية في الجزائر، بسبب وباء كورونا، عادت الحركة للشارع في الذكرى الثانية لانطلاق الحراك. أولاً، في عدد من المدن –بالتواتر- التي أحيت ذكرى مسيراتها السابقة لتاريخ “22 فيفري”، ثم في عشرات المدن يوم الاثنين 22 فيفري (فبراير) 2021؛ حيث وصل المتظاهرون حركة اليوم بحركة ما قبل سكون الحجر الصحي-السياسي.

عودة المسيرات تفتح لنا الباب لسؤال مهم: إذا كانت البيولوجيا أقوى من السياسة فتجعل الثورات والمظاهرات تتوقف، وتُقيّد الحركة بالسكون، هل يعني هذا أنها تُلغي كل حركة، تضع لها حدا؟ ما حصل في الذكرى الثانية للحراك بالجزائر، وما يحصل في كل العالم، يُثبت أن الشرط البيولوجي لا يُلغي السياسة. توقف المسيرات بالجزائر في مارس 2020 لم يكن إيذانا بعودة الاستقرار واستتباب الأمن للنظام.

ما حصل في الذكرى الثانية للحراك بالجزائر، وما يحصل في كل العالم، يُثبت أن الشرط البيولوجي لا يُلغي السياسة. توقف المسيرات بالجزائر في مارس 2020 لم يكن إيذانا بعودة الاستقرار واستتباب الأمن للنظام.

هل يجعلنا هذا نفرح أم نقلق؟ هل يعني هذا أنّ هنالك فصلاً أخيراً لم يُلعَب بعد؟

الانتخابات الرئاسية في 12 ديسمبر 2019، والتي ترشح لها زبائن النظام ووزراء سابقون لبوتفليقة، وفاز فيها أحد هؤلاء، لم توقف المسيرات، والحجر الصحي لم يمنع من صوّتوا في الرئاسيات “ضدّ الحراك” من أن يستعيدوا حقهم في الاحتجاج، محاولين صبغ مطالبهم بأنها “اجتماعية وليست سياسية”، لا يهُم.. فكل المطالب حلّها سياسي. وإلى اليوم، نحن لا نعرف حلاً ولا نهاية للحالة الثورية التي نعيشها منذ عامين.

حل.. غير العنف

في بداية الحراك، وبعد الأسابيع الأولى لمارس 2019، انتبهت صديقة للحالة التي نحن فيها، ننظر إلى الحراك وأنفسنا بالعين المجردة ثم عبر مرآة شبكات التواصل الاجتماعي. فنكتئبُ تارة وننتشي تارة أخرى، وأمام هذا الطلوع والهبوط في نسبة الأمل في الدم، قالت: “نحن نعيشُ فترة 1945-1954.. لازال المسير طويلاً”. يُمكننا مدّ الخط على استطالته والقول أنّ اللحظة المُعاشة اليوم تُشبه أيضاً فترة 1988-1992، وفي الحالتين وصل الجزائريون إلى حرب أهلية، وإن كانت الأولى متَضمّنةً في ثورة مسلّحة ضد المستعمر.

بين مجازر 1945 وثورة 1954، عاش الجزائريون –تحت الاستعمار- تخبّطاً كبيراً وخرجوا إلى العمل السياسي العلني وبدؤوا في تحضير العمل العسكري، وهذا على خلفية حركة وطنية نشِطة منذ العشرينات، ليصلوا إلى الاستقلال. وبين انتفاضة 1988 وتوقيف المسار الانتخابي نهاية 1991، فترة انفتاح للحقل السياسي -في جزائر مستقلة- نشطُت فيها الأحزاب والجمعيات وتحرّكت حكومة إصلاحات وسلّح الإسلاميون أنفسهم ليصل البلد إلى حرب أهلية.. لازال الكثيرون يرفضون تسميتها كذلك.

من هنا ربما، وإن كان بغير وعي، نفهم ضرورة كلمة السلمية المقرونة بكلمة الحراك، والتي صارت كليشيه تقريباً في وقت الرخاء وشعاراً يواجه به المواطنون العُزّل هراوات وسجون السلطة. نفهم أنّ اللاوعي الجمعي يبحث عن حلٍ غير العنف.. هذه المرة.

ولكن هذا الحراك، الهادر مثل نهر منذ عامين الآن، والذي يُترجم غليان بلد شاسع المساحة، أليس يبحثُ عن مصب؟ عن نهاية للحالة الثورية التي تعيشها شوارع المُدن مع كل أزمة أو ذِكرى؟

الآن.. في الجزائر

الإثنين 22 فيفري/فبراير 2021. تصوير: نهلة جابي

التنظيم؟ نعم ولكن كيف؟

على قدر ما سُجِن المواطنون والمواطنات، سواء اعتقلوا في المظاهرة أم من بيوتهم بسبب رأي أو منشور فيسبوك، بقدر ما حرّر الحراك الملايين. ملايين الناس الذين يخرجون في مسيرات في نفس الوقت مُطالبين بـ الاستقلال وبـ مدنية الدولة ومُندّدين بالفساد والسرقة، مُقابل عشرات المسجونين.. تبدو حسبة عادلة. ولكن سؤال التنظيم دائماً حاضر، سواء طُرح من جانب أطياف جمهور الحراك أم من المعادين لهذا الأخير، أم ممّن كانوا فيه من قبلُ وصاروا الآن على الضفّة الثانية في أجهزة وبرامج السلطة، مؤمنين بأن التغيير “يحدث من الداخل”.

يقول مثل شعبي من شرق البلاد: “البعيد ع الزازا عاقل”، والزازا في شرق الشرق هي الفوضى. فكيف نُحلّل ونفهم ما يحصل ونحن من زازا إلى أخرى منذ عامين؟

لكن دعوني أعترف أنّنا تخلّصنا من أوهام كثيرة، وتعلّمنا بضعة أشياء. منها عدم الحُكم على الظواهر والجموع، ومحاولة الفهم وتتبّع الأسباب التي أوصلت لنتائج معيّنة. مثلاً: القول إن حضور حركات سياسية رجعية إسلامية (أو أي طيف سياسي آخر) في الحراك هو ممارسة للسياسة وتكتيك وليس اختراقاً. أو القول إن شعار “الاستقلال” الذي أزعج الكثيرين، خاصة من عاشوا الاستعمار، لا يعني بالضرورة أن جيل اليوم يستهين بدولة استقلاله ويصنّفها كاستعمار، بل هو يرى أن بلده ليست سيّدة في قرارها، يُسيّرها الفساد وتابعة لجماعات المصالح الأجنبية. الفهم قبل الحُكم.

سؤال التنظيم دائماً حاضر، سواء طُرح من جانب أطياف جمهور الحراك أم من المعادين لهذا الأخير، أم ممّن كانوا فيه من قبلُ وصاروا الآن على الضفّة الثانية في أجهزة وبرامج السلطة، مؤمنين بأن التغيير “يحدث من الداخل”.

منذ 22 فيفري (شباط) 2019، يوم مشيتُ على رصيف المسيرة الأولى مدهوشا قبل أن أدخل البيت وأكتب نصا –سرقتُ عنوانه- عن “توسّع ميدان المُمكن”، منذ عامين أقول وأنا أراقب ميدان المُمكن هذا يضيق ويتوسّع.. أساءل نفسي داخله وخارجه، وأحاول أن أرى حركتنا جميعا، نحن “مواطنو الجمال” كما يقول شاعرنا الوطني جان سِناك، محاولين اختراقه كلما ضاق.

بعد 11 شهراً من الحجر الصحي والسياسي، وبعد أن صار العالم يُشبه لأقصى درجة الجزائر “في حالها العادي” بلا حياة ليلية وبلا حركة كبيرة للبشر والسلع، خرجتُ لأمشي وسط آلاف البشر وسط العاصمة مرددين “ما جيناش نحتفلوا / جينا باش ترحلوا”، مُتسائلاً: من سيرحل؟ ومُتذكراً كلمات الاقتصادي ومحافظ البنك المركزي السابق في زمن الحكومة الانتقالية 88-91، عبد الرحمن حاج ناصر في حوار منذ شهور: “من المستحيل التقدم ما لم يُتمّ الجيش تحديث نفسه“.

التنظيم؟ نعم، ولكن كيف نتنظّم في بلد به مساحات رمادية شاسعة يُسيطر عليها البوليس السياسي، ومع فضاء عام مُغلق وهش. الفوضى؟ لا، ولكن كيف نتفاداها.. وما عادت خيارا أصلاً. يبقى الركود، صورة الجزائر كما عرفتها منذ وعيتُ حتى 22 فيفري 2019…

لنذهب قليلاً.. إلى دلهي

ولكن.. لأنّ هنالك دائما بقيةٌ للقصة، وإن كُنت سأتحرّك ربما بشكل قد يبدو غير مفهوماً، في الجغرافيا والسياق، ولكني سأبقى على نفس الخط.. نحتاجُ دائما خطوط انفلات نهربُ عبرها لنعود أقوى، لنفهم أكثر. في الهند، ومنذ خريف السنة الماضية، هنالك حركة هائلة وغير مسبوقة في التاريخ للمزارعين. جاءت على خلفية عقود من النضال الأخضر في الهند.

خلاصة الحكاية، المستمرة إلى اليوم، هي كالتالي: مرّر البرلمان الهندي قوانين اعتبرتها نقابات المزارعين “معادية للفلاحة” وفي صالح الشركات الغذائية الكبرى، وتُفقِر المزارعين -تجعلهم تحت رحمة مضاربات الشركات الخاصة- الذين يعيشون أوضاع مزرية، إذ بلغ عدد المزارعين المنتحرين في الهند سنة 2019 أزيد من 10 آلاف.

بعد شهرين من المظاهرات أطلقت النقابات حركة سمّتها لنذهب إلى دلهي أو إلى دلهي فيسير عشرات آلاف المزارعين والمزارعات من البنجاب إلى دلهي فتواجههم حكومة الوزير الأول نارندرا مودي، اليميني المتطرّف، بالقمع. نوفمبر 2020 تدعو النقابات لإضراب عام في البلاد، فيتحرّك 250 مليون مواطن (عدد سكان الهند 1,353 مليار نسمة) ضد السياسات الاقتصادية اللبرالية، مما جعل هذا الإضراب الأكثر متابعة عبر التاريخ. بعدها بأربعة أيام يصل ما بين 250 و300 ألف مزارع ويحاصرون دلهي.

الآن.. في الجزائر

جانب من الإضراب العام على أطراف دلهي. 26 نوفمبر 2020. المصدر: IndustriALL Global Union. تحت رخصة المشاع الإبداعي

ثم يأتي دور نقابات النقل، التي تضم أكثر من 14 مليون سائق شاحنة، فتتضامن مع المزارعين وتهدّد بشل حركة السلع في بعض الولايات. ترفض الحكومة التراجع عن القرارات. تهدّد النقابات بالتصعيد وتستولي يوم 12 ديسمبر 2020 على محطّات الدفع في طرقات ولاية هاريانا، شمالي البلاد، وتفتحها للحركة مجاناً. المحكمة العليا تصلها عرائض لفض تجمعات المزارعين حول دلهي، ولكنها تريد أيضاً تسهيل مفاوضات النقابات مع الحكومة التي ترفض طلب المحكمة في إلغاء القوانين. تنجح النقابات في تسجيل طعن ضد القوانين لدى المحكمة العليا في 4 يناير 2021.

8 يناير، ورغم قبول الحكومة بعض مطالب المزارعين، تتمسّك عشر نقابات من أصل 11 أكبر نقابة في البلد بالإضراب العام: 250 مليون عامل مُضرب، رقم قياسي جديد. يوم 26 يناير، العيد الوطني، الحكومة تقطع الأنترنت عن العاصمة استعداداً لمظاهرة ضخمة. المثير هنا، في كل هذه الأرقام المخيفة، هو أن الجماهير –وسمّها الشعب- تقود الحركة وفي طليعتها من يُمثّلها، الجماهير التي أخرجها الجوع والانتحار كي تحتل المدن، قادت مصيرها.

شعار “الاستقلال” الذي أزعج الكثيرين، خاصة من عاشوا الاستعمار، لا يعني بالضرورة أن جيل اليوم يستهين بدولة استقلاله ويصنّفها كاستعمار، بل هو يرى أن بلده ليست سيّدة في قرارها، يُسيّرها الفساد وتابعة لجماعات المصالح الأجنبية.

هناك حراكات أخرى تحدث إذن، لكننا لم نسمع عنها شيئاً هنا في الجزائر (في الحقيقة، حتى من يتابع الإعلام العمومي والثقيل في الجزائر، لن يعرف شيئا عما يحصل في الجزائر).. ورغم الفارق الأكيد في الظروف التاريخية والسياسية، لكنه في النهاية حراك نجح في تنظيم وتسيير الملايين في شمال الهند ومن الممكن أن نتعلم منه شيئاً..  لا الصحافة غطّت ما يحدث ولا خوارزميات الفيسبوك والتويتر سمحت بظهور الهاشتاغ المليوني #indianfarmers للمستخدمين هنا..

على نفس الخط الجغرافي ولكن على خطوط سياسية واجتماعية واقتصادية أخرى. يحدث أن أشعر أن الجزائر تتكاسل كي تلعب حظوظها كاملة. البلد مساحته 2,5 مليون كم² وسكانه لا يتجاوزون 45 مليون، في حين أنه يمكن أن يحمل عشرة أضعاف بشرط أن يسكنوا ويستصلحوا الصحراء.

بين الغيبة والظهور

الجزائر لا تريد أن تصل بها المواصيل إلى هنا، فتجد نفسها تُحرّر السوق وتجعل من الفلاحة صناعة كاملة وتدخل الشركات الكُبرى لتنهب رزق الفقراء، فيثور هؤلاء على حياتهم البائسة ويحاصرون العاصمة وتحتار المحكمة العليا بين رئيس حكومة (أين ذهب الرئيس؟) متسلّط ورأسمالي وفلاحين فقراء يريدون خبزهم كفاف يومهم.

طبعاً لا تريد الجزائر هذا، هذا يُسمى الحركة، بكل ما فيها من مساوئ، ولا يتمنى كاتب السطور أن يعيشها، ولكنها حركة شئنا أم أبينا. وهذه الأرض، أرض الجزائر، رغم تجريفها وتصحيرها، ورغم الحروب التي جرت فوقها، إلاّ أنّها تسيرُ نحو أيام أسوأ من تلك التي مضت، ولكنها تحتاج لمن يحرثها.. ميدانُ الممكن الذي يتوسّع ويضيق قد يختفي يوماً ما ثم يظهر من جديد، وبين الغيبة والظهور، على من يهمّه الأمر أن يبني لغده.. ينتظر الفرصة السانحة.. ويبحث عن شركاء.