fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

الباحث كعامل.. ومتهم أحيانًا

بالتأكيد لن تحمل عيون أمن المطار أي انبهار بمشروعي البحثي، أو أفكاري، أو عملي الميداني، مثلما رأيت في أعين زملائي في الورشة في مناقشاتنا
ــــــــ العمل
1 سبتمبر 2021

بيروت..صباح يوم حار ورطب منذ أكثر من عامين، بدأ النهار بخبر القبض على زياد العليمي وهشام فؤاد وحسام مؤنس وحسن البربري وأحمد تمام وآخرين فيما سيعرف إعلاميًا بـ “خلية الأمل“، يتم بث الخبر وتكراره على قنوات التلفزيون المصري الرسمية مصحوبًا بالاتهامات الفظيعة والتي صارت مكرورة. 

من المفترض أعود للقاهرة بعد بضعة ساعات، بعد ورشة عمل في بيروت. أقرر تدخين النرجيلة أولًا في شارع الحمرا، حتى أستعيد توازني وثقتي في خطواتي، أتناول إفطارًا سريعًا.

أعود لحقائبي وأبدأ في التخلص بهدوء من جميع أوراق الورشة والتي حملت مناقشات سياسية عدة، شاركت في الورشة كطالبة دكتوراه يختص مشروعها البحثي بموضوعات تحليلية لوضع القاهرة ما بعد 2011، هو في حد ذاته تهمة تضعني في السجن دون رجعة، وبالتأكيد لن تحمل عيون أمن المطار أي انبهار بمشروعي البحثي، أو أفكاري، أو عملي الميداني، مثلما رأيت في أعين زملائي في الورشة في مناقشاتنا. ألقى نظرة نحو جواز سفري، المهنة.. مهندسة معمارية، أجهز كلمات وجمل سوف أرد بها على ضابط الجوازات في مطار القاهرة، عندما أستقبل سؤال.. كنتي بتعملي ايه في لبنان؟

شاركت في الورشة كطالبة دكتوراه يختص مشروعها البحثي بموضوعات تحليلية لوضع القاهرة ما بعد 2011، هو في حد ذاته تهمة تضعني في السجن دون رجعة، وبالتأكيد لن تحمل عيون أمن المطار أي انبهار بمشروعي البحثي، أو أفكاري، أو عملي الميداني، مثلما رأيت في أعين زملائي في الورشة

لم يكن هذا قلقًا جديدًا، ولم يصبح أيضًا أمرًا عاديًا، ولا هي المرة الأولى أو الأخيرة التي أمر فيها بكل هذه المشاعر وضرورة الاستعداد، يجب تجهيز هاتفي وحاسوبي لأي تفتيش محتمل، وإلغاء بعض التطبيقات، وإرسال رسالة نصية لأحد المقربين تحمل رقم الرحلة وميعاد وصولي، وفي أي صالة في مطار القاهرة. 

الباحث كعامل.. ومتهم أحيانًا

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

اليوم تمر في رأسي قائمة بأسماء من تم القبض عليهم فجرًا، أعرف كثيرين منهم، بدرجات مختلفة، ويبدو من الحال أننا سنظل هكذا طويلًا. وبالفعل أتم معتقلي قضية الأمل عامين في السجن منذ أكثر من شهرين، وبدأ البعض منهم إضرابًا عن الطعام استمر أيامًا اعتراضًا على استمرار حبسهم بعد انتهاء مدة الحبس الاحتياطي القانونية.. أحاول إزاحة الأسماء والوقائع من ذهني كي أستطيع إنهاء الورقة البحثية التي عليّ تسليمها خلال أيام.

سؤال عادي وشديد الصعوبة

لا أستطيع التركيز.. أتذكر مشاهد الاستعداد لأسئلة مثل..”كنتي بتعملي ايه في لبنان؟” في رأسي، أفكر أني حتى الآن لم استطع تعريف نفسي في مصر بأني باحثة، لأنها لا تعني شيء لدى الكثيرين، احتفظت في هويتي الشخصية بـ مهندسة معمارية في خانة الوظيفة، حتى أحمي نفسي مجتمعيًا بموقع مفهوم ويحمل ربما طابعًا إستعلائيًا بعض الشيء. أحيانًا أعرف نفسي كمدرسة جامعية وطالبة دكتوراه، لكن حتى هذا يثير بعض التساؤلات لدى البعض حتى من دائرة الأقارب الواسعة، إذا يبقى السؤال الذي يظهر في العيون إن لم يطرحوه، إذا كان لدي مصدر دخل ثابت أم لا، وهل يكفي لحياة كريمة أو لا؟ والأهم هل هو مصدر مشروع؟ وإذا وصل الحديث إلى حصولي على منحة مثلًا يطل الشك أحيانًا، هل أحصل على منح من دول أجنبية نظير الحصول على معلومات من بحثي وكتاباتي؟ مما يضعني في طائلة الجواسيس أنا وأقراني.

تمر برأسي صور جوليو ريجيني، إسماعيل الإسكندراني، باتريك جورج، أحمد سمير سنطاوي، وآخرين من الباحثين المعتقلين.. حتى الليلة التي قضتها الباحثة عليا مسلم محتجزة بعد توقيفها في المطار.

لا يبدو للورقة التي أعمل عليها أنها ستنتهي قريبًا.. أترك العمل.. وأفكر في العمل.

محدد أساسي للحياة

بدأتُ أعي معنى العمل أثناء مقابلاتي لبعض العاملين بمدابغ الجلود في مصر القديمة أثناء التحضير لمشروع تخرجي في قسم العمارة. حكى العديد منهم عن يوم عملهم وكيف تدور حياتهم حول ممارسات العمل في المدبغة طوال اليوم. 

تحدثوا وعبروا ببساطة عن أن عملهم هو ما يرسخ وجودهم وعلاقتهم بالمنطقة. بعد سنوات، وفي مقابلاتي مع سكان مناطق مختلفة في القاهرة والجيزة، كان الناس يتحدثون دائمًا عن عملهم، حتى العاملين من المنزل في رعاية الأطفال والأحفاد، لخصوا علاقاتهم بالمكان والجغرافيا عبر مفهوم العمل وترسيخه لجزء أساسي من وجودهم وممارساتهم اليومية.

بعدها بسنوات ارتبطت تلك الأحاديث بما شرحه كارل ماركس في الفصل العاشر من كتاب رأس المال الصادر عام 1867، يحدثنا ماركس عن يوم العمل، وكيف يتلخص معنى العمل في قيمته. قيمته المادية البحتة تتلخص في عدد من الساعات والذي يعني كمية معينة من الإنتاج، وهذا هو ما يرسخ يوم العمل.

اليوم المكون من 24 ساعة، ليس واحدًا بالنسبة للجميع، يتغير تعريفه ما بين الشخص الذي ينام ويأكل ويرتاح ويعمل، لكن اليوم بالنسبة لصاحب العمل يتمثل في الوقت المحدد للعمل وللإنتاج الذي يدر ربحًا. وبناء على هذا الفصل، أنتجت العديد من النصوص والنظريات والتي تتحدث عن قيمة العمل، وكيف تتأثر حياة البشر به.عندما كتب ماركس كان النموذج الذي أمامه هو الطبقة العاملة الإنجليزية ولكن بعدها أصبح نمط العمل هذا عالميًا.

نقل هذا المفهوم لي أمي وأبي وعائلتي وكل من حولي، تترسخ فكرة أن الزمن يدور حول العمل منذ الطفولة قبل الانضمام للمجتمع الرسمي بمؤسساته، فيذكرنا ماركس أن الأطفال يعتادون النوم في ساعة معينة طبقًا لتقسيم اليوم لدي أسرهم المرتبطين بيوم العمل، وبعد عدة أعوام عند التحاقهم بالمدرسة، يدخل الأطفال مؤسسات تعليمية تعلمهم الانضباط والدوام عليه وتعطيهم المفهوم الأساسي عن معنى خمسة أو ستة أيام من العمل ثم الذهاب للمنزل لإنهاء الفروض المنزلية المطلوبة، يتبعهم يوم أو اثنين عطلة يتم تمضيتها في بعض النشاطات الترفيهية أو قضاء وقت مع العائلة أو الأصدقاء. وهو ما أسماه ميشيل فوكو في نظرياته مجتمع الانضباط الحديث. 

الباحث كعامل.. ومتهم أحيانًا

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

كلنا نشأنا في هذا المجتمع، دار آبائنا وأمهاتنا في حلقة الوظيفة الثابتة، والتي تدر دخلًا معينًا كل شهر. وعليه يتم تقسيم المرتب حسب الاحتياجات، وتأخذ كل التفاصيل مكانها في حياتنا تبعًا لهذا التقويم.. الرحلات، وشراء الملابس والأعياد والمناسبات وغيرها جميعها تأخذ مكانها على إيقاع الراتب وحجمه.

القيمة

ولدت لأسرة عادية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، يمكن القول أنها من الفئات الوسطى في الطبقة المتوسطة، ولكنها مميزة من حيث فهم العمل العام وقيمته والمشاركة فيه كواجب مبدئي وأخلاقي نحو المجتمع. 

أبي وأمي، ومعظم أقاربي، مدرسين وأطباء ومهندسين، رأت عائلتي أن العمل قيمة في حد ذاته. أدركت من هنا اختلاف عن أقراني، لم يتأثر أمي وأبي بالقيم الكسب السريع التي تسيدت في السبعينات، بل ولدت في بيت يعظم من قيمة المجهود والعمل بشكل عصامي بحت. وأن العمل العام شيء لا نتكسب منه ابدًا لأن هذا ضد المبادئ السياسية. كرهوا بشكل واضح عبدالناصر بسبب قمعه للمجموعات السياسية، واحتقروا السادات وفترة حكمه وقيم الفهلوة والسعي وراء المال في بلدان الخليج. وسعوا لتأصيل قيمة المجهود، وأن قيمتنا تتحدد بحسب إنتاجنا الفكري والعملي. 

كرهوا بشكل واضح عبدالناصر بسبب قمعه للمجموعات السياسية، واحتقروا السادات وفترة حكمه وقيم الفهلوة والسعي وراء المال في بلدان الخليج. وسعوا لتأصيل قيمة المجهود، وأن قيمتنا تتحدد بحسب إنتاجنا الفكري والعملي

ونظرًا لكون جميع أفراد أسرتي من خريجي كلية الهندسة بأقسامها المختلفة، لم أعي وقت مراهقتي قيمة كلية الآداب، أما كليات مثل التجارة والحقوق والإعلام أدركت مهنهم، لكن ظلت كليات الاقتصاد والعلوم السياسية والآداب لغزًا بالنسبة لي. 

كنت مثلًا أسمع اسم محمد السيد سعيد كمفكر وكاتب، ولكني لم أتساءل ماذا درس. 

في الثانوية العامة، كان واضحًا هذا التبجيل لكل من انضموا للشُعبات العلمية، والتسفيه والتعالي على الشُعبات الأدبية، كأن طلابها لا يرقون لمستوى السعي الجاد نحو مستقبل جدي مثل طلبة العلمي. 

لاحقًا، وبعد تخرجي في كلية الهندسة، وممارستي للهندسة المعمارية لسنوات كرهت المهنة نظرًا للاستعلاء المنتشر بين ممارسيها على غيرهم، وبشكل سياسي لم أجد قيمة للسعي في التصميم لشريحة اجتماعية صغيرة للغاية، ومما زاد تلك الكراهية انضمامي سنوات عملي إلى جيل تعمير السعودية ودبي. 

كان شغفي تجاه القاهرة والمناطق الفقيرة خدميًا، المناطق التي بناها الأهالي، هو ما أثار فضولي وشغفي أثناء دراستي للعمارة، وظللت أحاول جاهدة أن أعرف أكثر في هذا الاتجاه، حتى جاءتني فرصة لأعمل بمشاريع داخل القاهرة، واستمتعت كثيرا بتغيير اسمي على بطاقتي المهنية لتكون باحثة معمارية وليس مهندسة.

تقويم جديد

بعد انتهاء عملي كمهندسة معمارية في 2009، ثم انتهاء علاقتي بالدوام الكامل في 2012، ارتبكت لبعض من الوقت. كنت أعمل بدوام كامل من التاسعة صباحًا حتى الخامسة أو السادسة مساًء. حين بدأت الدراسات العليا وأصبح عملي البحث، تطلب الأمر طريقة حياة مختلفة، كل الأوقات متاحة للعمل، أو الكتابة، أو البحث، أو القراءة. 

تحولت حياتي لمجموعة من الأجندات غير الواضحة. أكثرهم وضوحًا كانت الأجندة الاكاديمية التي ترتبط بشهور الدراسة والتدريس، بدءًا من نهاية شهر أغسطس حتى نهايات ديسمبر، ثم إجازة شهر يناير بأكمله، ثم دراسة وتدريس من أوائل فبراير حتى نهايات مايو، وإجازة الصيف من يونيو حتى أغسطس. 

يتبع آخر كل فصل دراسي تصحيح أوراق الطلاب وتسليم الدرجات، وهي الفقرة التي تتحول لكابوس نظرًا لقسوتها، إذ تتحول العملية التعليمية لمجموعة من الدرجات وليس لمناقشة حول أعمال الطلبة. 

تخلق تلك الإيقاعات شكلًا وإحساسًا مختلفًا لأيام وشهور السنة يترسخ أكثر بالممارسات اليومية وشكل يوم العمل، لا يمكن الخروج عنها إلا بتغيير مجال العمل أو الانتقال إلى تقويم أكاديمي مختلف.

تخلق تلك الإيقاعات شكلًا وإحساسًا مختلفًا لأيام وشهور السنة يترسخ أكثر بالممارسات اليومية وشكل يوم العمل، لا يمكن الخروج عنها إلا بتغيير مجال العمل أو الانتقال إلى تقويم أكاديمي مختلف

مثلما انتقلت للبحث وتحولت حياتي تتبع عدد من التواريخ التابعة للتقويم الأكاديمي والعام الدراسي الجامعي الأمريكي نظرا لدراساتي العليا في جامعات أمريكية، في البداية لم أستوعب الكريسماس وإجازته وميعادها حتى بدأت دراستي للماجستير في الجامعة الأمريكية في القاهرة. 

نظريًا تبدو حياة الباحث منتظمة الإيقاع لكن عمليًا يتم إرباك هذا الإيقاع بعدة أشياء خارجة عن السيطرة، مواعيد التقديم للمنح الدراسية، وطلب نماذج أعمال لآخرين حصلوا على نفس المنح البحثية من قبل، أو قضاء ستة أشهر في مراجعات مستمرة لورقة بحثية قبل الحصول على الموافقة النهائية لنشرها. ثم القراءة التي لا تنتهي. 

ثم هناك التعقيدات التي تأتي من تعنت الدولة في إتاحة الوثائق والأرشيفات أمام الباحثين، أو رفض إصدار الموافقات اللازمة للبحوث الميدانية. التي يبدو أنها مصنفة في عداد الجرائم الجنائية. إذ عادة يبدو الباحث المصري في مجال العلوم الاجتماعية بالنسبة للدولة في خانة أقرب للجواسيس.

عمل فردي 

في العقدين الأخيرين، ظهرت كتابات وتحليلات هامة عن مسألة العمل غير الثابت، أي العمل الذي لا يتم من خلال عقود قانونية، ولا يخضع العاملين والعاملات به لقانون العمل. مثل سائقي التكاتك أو حتى الأوبر، العاملين بفرز القمامة، وغيرهم الكثيرين. يوم عمل هذه الفئات يبدو وكأنه خاضع لإرادة صاحبه، يمكنه هو اختيار متى يبدأ ومتى ينتهي. 

غير مطالبين بالتوقيع أو إعطاء إثبات لأي شخص أن هذا يوم عملهم. أتذكر العديد منهم يعبرون بسعادة عن حريتهم قائلين.. “أنا مدير نفسي”. بالتأكيد لا تنحصر أشكال العمالة غير الثابتة في أعمال جمع القمامة أو قيادة التكاتك، فالباحث الأكاديمي الحديث إذا جاز التعبير هو في حالة بحث شبه دائمة لإيجاد فرص لتمويل أبحاثه وانتاجه المعرفي. 

تتحدد مواقيت عملي وشدتها حسب مواعيد التقديم إلى منح المؤسسات البحثية كي أتمكن من استكمال ابحاثي. الجهد الأساسي في العمل البحثي، هو جهد فردي، وفي مجال بحثي أتبع منهجيات الإثنوجرافيا والتي تتطلب عمل ميداني قد يستغرق شهورًا أو يمتد لسنين حسب الموضوع وتعقيداته. وعليه أجري مقابلات، وأعايش الأشخاص المشغول بهم سؤال البحث في حياتهم اليومية، بجانب البحث في الأرشيفات المتاحة.

بالتأكيد لا تنحصر أشكال العمالة غير الثابتة في أعمال جمع القمامة أو قيادة التكاتك، فالباحث الأكاديمي الحديث إذا جاز التعبير هو في حالة بحث شبه دائمة لإيجاد فرص لتمويل أبحاثه وانتاجه المعرفي. 

لا يرتبط البحث الميداني بيوم العمل المتعارف عليه، بل يتبع تمامًا حيوات أشخاص آخرين، ويتضمن عدد من الزيارات لأماكن وبيوت لا تتوقعها بالمرة، والتعرض لمغامرات غير محسوبة. 

قد تجد نفسك فجأة أمام مفاجأة قد تغير مسار بحثك ولا يتعامل معه أحد على أنه مادة هامة، بل يتعاملون معها كمجموعة أوراق لا قيمة لا ملقاة دون عناية في مكتبة منزلية تحمل جهاز تليفزيون، وحجر شيشة ينتظر ملئه في المساء، وعدد من كراسات لأطفال في المدارس ملقاة بغير عناية فور انتهاء العام الدراسي، وبعض الصور للعائلة وأفرادها معلقة على أرفف المكتبة، وبين كل هذه التفاصيل تجد أوراقًا قانونية تخص ملكية البيت وتحمل معركة شرسة بين أصحاب البيت ومتعدين على ملكهم، أو معركة مع الدولة حول اثبات الملكية. تلك اللحظات تمثل كنوز بحثية لعملك كباحث. 

تأتي بعدها فترة التحليل وهي فترة صعبة لأنها تطلب مرة أخرى عودتك للمكتب بعد فترة طويلة من العمل بالشوارع، ولساعات من العمل غير محسوبة لتحليل كل الملاحظات الناتجة عن العمل الميداني، أو تفريغ تسجيلات صوتية لمقابلات شخصية. 

ثم العمل على إنتاج نص البحث نفسه، والتفكير مرارًا في كيفية عرضه للقراء. وعند الانتهاء من مسودة تبدأ هنا في عملك محاولة البحث عمن يمكنه قراءة عملك من زملاء وأساتذة وتقديم ملاحظات عليه، وهي مرحلة هامة جدا، في هضم كل المراحل السابقة والتفكير خارج كل الإطارات التي افترضها الباحث سلفًا، ومحاولة التأكد انه يعمل في اتجاه منطقي ومقبول وأن افتراضاته مبنية على أسس علمية، وتحلل ما جاء في العمل الميداني، ومترجمة بشكل مفهوم للقراء في النص المنتج. كل هذا يجب أن يحدث في وسط ترتبك فيه عندما يسألك أحدهم..”أنت بتشتغل ايه؟”.

لا يرتبط البحث الميداني بيوم العمل المتعارف عليه، بل يتبع تمامًا حيوات أشخاص آخرين، ويتضمن عدد من الزيارات لأماكن وبيوت لا تتوقعها بالمرة، والتعرض لمغامرات غير محسوبة. 

أعود مرة أخرى لورقتي البحثية التي يجب عليّ الانتهاء منها، أحاول تجاوز الأسئلة والمشاهد وصور الزملاء والأصدقاء المعتقلين، أذكر نفسي بأن عملي هو جزء من معركة سياسية ضد احتكار المعلومات والمعرفة، ضد نظام لا يستمع إلى الآخرين من الباحثين والباحثات لأنهم بالنسبة له أعداء يحاولون تشويه سمعة البلاد، أذكر نفسي بأن ظرف عملي حتى وإن كان غير ثابتًا إلا أنه ما متعة البحث تبقى كافية لدفعي للمواصلة.