fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

هيمنة وسخرية.. الشيخوخة في التراث الشعبي

حاولت الذاكرة الشعبية الوصولَ إلى إجابات تُعزّي الإنسان أمام تقدمه في السن وإحساسه باقترابه من النهاية
ــــــــ تقدمـ العمـر
20 أغسطس 2021

كان والدي -حينما تقدّم به العُمر- يترنم في أوقات العصاري بمأثور شعبي عن الزمن وقصر الحياة الدنيا، يأتي هذا المأثور على شكل مناظرة بين شخصين في وصف الحياة وزيفها؛ الأوّل يقول.. “دنياك مثل ماش، مثل حلّام الليل صحي ما لقاش“، ولأنّ كلمة (ماش) تتكوّن من مقطعين صوتيين فإن الثاني يختار كلمة تتكون من مقطع صوتي واحد ليعبّر بها عن الحياة، وليحتّج بها.. “قال له: لا، دنياك مثل بُفْ مثل خيّاطن يخيّط، ما أعجل ليمن يُكف“.

فالأوّل يرى أن الحياة مجرّد حلم ينتهي فورَ استيقاظ الإنسان منه، بينما يرى الثاني أنها أقصر من أن تكون حُلمًا، بل هي تشبه عملية كف القماش عند الخيّاط، وهي عملية سريعة لا تتطلب أكثر من ثني القماشة والخياطة عليها.

تؤكّد مثل هذه المأثورات، إضافة إلى الكثير من الأمثال والأغاني الشعبية في جنوبي بلاد الشام، أنّ الإنسان لا يزال يُفاجئه تقدّمه في العمر وهروب السنوات من بين يديه واقترابه من النهاية الأكيدة. ومثلما حاول جلجامش البحث عن إجاباته، حاولت الذاكرة الشعبية الوصولَ إلى إجابات تُعزّي الإنسان أمام تقدمه في السن وإحساسه باقترابه من النهاية، وقد خُلِّدت هذه الإجابات عبر الأمثال والأنساق الشعبية التي خلقتها هذه الأمثال.

يرى الأول أن الحياة مجرّد حلم ينتهي فورَ استيقاظ الإنسان منه، بينما يرى الثاني أنها أقصر من أن تكون حُلمًا، بل هي تشبه عملية كف القماش عند الخيّاط، وهي عملية سريعة لا تتطلب أكثر من ثني القماشة والخياطة عليها

تأتي مقولة “اللي خلّف ما مات” من أبرز الإجابات التي تعبّر عن تجديد الإنسان لحياته عبر النسل والإنجاب، والتي تؤكّد على أنّ الأبناء (الشباب) هم محاولة الآباء والأجداد للعودة إلى هذه الحياة عبر توريثهم جيناتهم وعاداتهم وتقاليدهم.

ولأنّ الكبر في العمر مرتبط بالضعف والهزل، فإنّ هذه المقولات خلقت أنساقًا تكفل الاحترام والحماية للكبار، وأعطتهم الأولوية على من هم أصغر عمرًا. لذلك ربطت الأمثال الكبر بالحكمة، فقالت.. “الكبير حكيم نفسه”، وربطتها بالتجربة فقالت.. “أكبر منك بيوم أفهم منك بسنة”، الأمر الذي وضع الصغار والشباب -الذين يمثلون القوة الفائضة- في سلك الكبار وطاعتهم، فكي يحوز الشاب الحكمةَ والتجربةَ عليه أن يستمع لأحاديث الكبار ويتعلّم من تجاربهم.  وفي المقابل، فإنهم لا يزودونه بهذه التجارب والمعارف إلّا بعد أن يخضع لتعاليمهم ويعلن ولاءه لهم ويضع نفسه رهن إشارتهم.

وهنا يصبح الشاب لا يرى نفسه إلا في تكرار حياة من سبقوه، لتأتي المقولة الكبرى التي تعبّر عن عملية تدجين الشباب الذين لا يزالون في مقتبل العمر لصالح الكبار الذين تقدّم بهم العمر، وهي.. “الكِبار دفاتر الصِّغار”، فالكبار دفاتر محبّرة ومكتوب عليها، وليس على الفتى سوى أن يقرأ ما هو مكتوب ويتعلّم منه ويخزّنه في ذاكرته بوصفه تجربة يمكن أن يكرّرها فيما لو تعرّض لنفس الموقف الذي تعرّض لها، من قبل، من هو أكبر سنّا.

وإذا كانت مجالس الكبار في مضافات العشائر ودواوينهم تشكّل مَجمَعًا لهذه التجارب، فإنها -المضافات- تقوم بدور المدارس التي تُعيد صياغة تلامذتها وإنتاجهم؛ لذلك قالوا.. “مجالسنا مدارسنا” وهي المجالس التي يديرها الكبار بطبيعة الحال.

هيمنة وسخرية.. الشيخوخة في التراث الشعبي

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

وآلية التدجين هنا تشبه ما حصل في “ألف ليلة وليلة” بين شهرزاد وشهريار، فشهرزاد تبدأ بجذب شهريار إلى الاستماع إلى حكاياتها، ثم تبدأ بالسيطرة عليه أولاً بأوّل حتى تتمكّن من إخضاعه لأنساقها وسردياتها، فتنقذ بذلك بنات جنسها.

وبالمثل، فإنّ الكبار يجذبون الشباب إلى مجالسهم بأحاديثهم عن تجاربهم وقصصهم التي تفوح بالحكمة والمعرفة، حتى تشكّل هذه التجارب والقصص الإطارَ الذي ينظم الشابُ داخله أحلامَه وتجاربَه المشتهاة التي يسعى إلى تحقيقها وخوضها. وما دام الكبار يروون هذه التجارب والقصص، فإنهم يفرضون احترامهم على الشباب ويملكون زمام توجيههم وإخضاعهم، وبذلك ينجو المتقدِّمون في السن من التهميش والإهمال.

من جهة أخرى، ورغم القداسة التي أحاطت الكبار -ولا تزال- فإنّ هناك الكثير من المحاولات -على يد الشباب غالبًا- التي سعت نحو كسر هذه القداسة والتشكيك في شرعيتها، وقد خزّن لنا التراث الشعبي عددًا غير قليل من الأمثال والأغاني التي تشكك وتطعن بها، ومن ثم تحاول كسر هذا الإطار الناظم. فيبرز من بين الأمثال مثل يقول لنا.. “شو خص الشيب بالرزالة؟”، إنّ هذا المثل يكسر الرابطة بين الوقار والاحترام وبين كبار السن، ويخبرنا بأن اقتراف الرذائل لا علاقة له بكبر السن.

وفي الأغاني الشعبية تبرز أغنية “عبد القادر قُوم صلي” لتؤكّد انكسار هذه العلاقة، وتأتي هذه الأغنية على شكل حوار بين شخص مجهول وعجوز اسمه عبد القادر على النحو الآتي..

◆ عبد القادر قُوم صلّي

◆ ماني قادر.

◆ عبد القادر قُوم تعشّى.

◆ هيني حاضر.

ولم تسلم النساء كبيرات السن من السخرية والنقد؛ ففي الأعراس يغنّي الأهالي أغنية ساخرة تقول.. “يا حجّة وميتى حجيتي وميتى صرتي صلاوية”.

ورغم القداسة التي أحاطت الكبار -ولا تزال- فإنّ هناك الكثير من المحاولات -على يد الشباب غالبًا- التي سعت نحو كسر هذه القداسة والتشكيك في شرعيتها، وقد خزّن لنا التراث الشعبي عددًا غير قليل من الأمثال والأغاني التي تشكك وتطعن بها، ومن ثم تحاول كسر هذا الإطار الناظم

كما تسخر الأمثال من بطء تعلّم الكبار وعدم جدواه، من مثل قولنا.. “بعد ما شاب ودّوه الكتّاب”؛ فالتقدّم في العمر مرتبط بالتوقّف عن الاستقبال والإنتاج، وكأن الكبير عالة على من هو دونه سنًّا. وتبلغ السخرية من حكمة الكبار ووقارهم في المثل الذي يقول.. “ما أكذب من شاب تغرّب، ومن ختيار ماتت أجياله”.

وإذا كان الجزء الثاني من المثل يسخر من التجارب والحكايات التي يقدمها الكبير الذي يتقدّم في السن، لدرجة أن مجايليه قد ماتوا، فإنّ الجزء الأوّل قد يوهمنا بأن سخرية المثل تساوي بين الشباب والكبار، بينما تأخذنا القراءة المتأملة إلى أنّ المثل يسخر أساسًا من فكرة التجربة التي تم على أساسها تقديم الكبار على من هم أصغر منهم سنًّا.

فشخصيتا أبو نمر وأبو نايف في مسلسل “الخربة” السوري على سبيل المثال، وهو يُعبّر عن الحالة الشعبية في التعامل مع الكبار التي نتحدّث عنها، تحظيان بقداسة واحترام منقطعين النظير، كلٌّ بين أبناء عائلته الأصغر سنًّا منه، لكنهما يقودان العائلتين نحو صراع عبثي لا طائل من ورائه، ورثوه عن كبارهم. والمسلسل إذ يعرض السلطة التي توفرها هذه القداسة والاحترام لهما، فإنه يُعرّيهما أوّلاً بأوّل ويُعرضهم للسخرية حتى يخلع عنهم ثوب القداسة والاحترام في ختام المسلسل.

وإذا عدنا إلى المثل السابق، فإنّ شخصية أبو نايف تمثّل الختيار الذي ماتت أجياله وتتعرّض مروياته وقصصه للتكذيب والسخرية، غير أنه يلجأ إلى تحريض أبناء عائلته ضد عائلة أبو نمر مستغلاً العداوات المتوارثة، كي يستمر في الاحتفاظ بقداسته واحترامه.

هيمنة وسخرية.. الشيخوخة في التراث الشعبي

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

يشبه هذا ما يحدث مع الكبار في الموروث الشعبي، فإذ يبدو هذا الكبير / الطاعن في السن، الذي مات أبناء جيله، ضعيفًا عاجزًا ومكشوفًا أمام من هم أصغر سنًّا – أي أمام من لم يمت أبناء جيله بعدُ- فإنه يلجأ إلى أساليب دفاعية تتيحها له الأنساق الشعبية والدينية.

فهو يلجأ إلى أقدم قاعدة عرفتها الذاكرة الشعبية التي تقول.. “كما تُدين تُدان”، وأن الإنسان لا بد له -مهما طال الزمن – من أن يشرب من نفس الكأس التي أسقى بها غيره. وهنا تُستخدم هذه القاعدة لتذكير الشاب بأنه سيكبر يومًا ما، وسيشيخ وأنه سيحظى بنفس المعاملة التي عامل بها الكبار حينما كان شابًا قويًا. كما أنه يلجأ إلى العديد من الوصايا والأوامر الدينية التي تعزّز احترام الكبير وتؤكّد على ضرورة رعايته، وتُحذر من عواقب التمرّد والعصيان.

فيروى في التراث العربي القديم أن شابًا عفيًا سخر من عجوز محدودب الظهر، وقال له.. بكم القوس؟ فأجابه العجوز بأنه إذا كبر وأطال الله في عمره سيحصل على واحد مجّانًا. وأهلنا وأقرباؤنا من كبار السن لا يكفون عن ترديد المرويات والحكايات عن قريب هنا أو هناك أساء معاملة والديه أو أقربائه الكبار، وحينما جاء دوره -أي كبرَ- عامله أولاده بنفس الطريقة التي عامل بها والديه. إنّ هذه القصّة تُروى بشكل متتابع وعلى مدى عقود بل قرون؛ وبينما يختلف الأبطال وتختلف الأسماء، تبقى الأحداث والنتائج نفسها.

تُستخدم هذه القاعدة لتذكير الشاب بأنه سيكبر يومًا ما، وسيشيخ وأنه سيحظى بنفس المعاملة التي عامل بها الكبار حينما كان شابًا قويًا. كما أن الكبير / الطاعن في السن يلجأ إلى العديد من الوصايا والأوامر الدينية التي تعزّز احترام الكبير وتؤكّد على ضرورة رعايته، وتُحذر من عواقب التمرّد والعصيان

هذا الإجراء التحصيني (ترديد الحكايات وتكرارها والتخويف من العواقب والنهايات وإعادة تعزيز سلطة الأمثال التي تضفي القداسة على الكبار) يقود في النهاية إلى المصالحة بين الكبار والشباب، غير أنّ هذه المصالحة لا تتم بفضل هذه المرويات فقط، بل إنها لا تتم إلا بعد أن يبدأ الشاب بالشعور بوطأة التقدّم في العمر، وغالبًا ما تتم المصالحة بعد أن يدخل الشاب في سن الثلاثين.

ففي هذه السن يبدأ الإنسان بالتخلي عن روح التمرّد والتهوّر والمغامرة التي كانت تتملّكه أيام مراهقته، وظلّت كذلك في عشرينياته، ليأخذ في إعادة حساباته وتصحيح مساره من درب الطيش إلى الدرب التي تُوصف بالحكمة والتروي؛ إذ إنّ البدء بتجاوز الثلاثين يأتي بمنزلة تمرين أوّل على الشيخوخة.

***

اليوم، وأنا أطرقُ أبواب الثامنة والثلاثين، أعود إلى المأثور الشعبي الذي كان يترنّم به والدي -رحمه الله، والذي افتتحتُ به مقالتي، لأجد أن الحوار/ المناظرة لم تكن بين شخصين، بل هي مناظرة شخص واحد مع نفسه في مرحلتين عمريتين مختلفتين من حياته؛ الأولى في الثلاثين حيث يرى الإنسان طفولته ومراهقته بوصفها حلمًا لا يلبث المرء أن يصحو منه، أمّا الثانية فهي في ختام حياته حينما يكتشف أن الحياة أقصر من أن تكون حُلمًا.

لذلك فإنني لا أرى في طفولتي وأيامي الماضية إلّا حلمًا قصيرًا أصحو منه سريعًا، متقمّصًا الشخص الأوّل في المناظرة، ولن يقنعني شيء سوى التقدّم في العمر أو الموت بأن الحياة قد تكون أقصر من هذا الحلم!