fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft (*)

الصحفي.. كعامل منتحر يتخفف من أثقاله

العامل إن لم يجد سوقًا لصنعته سيموت من الجوع، أو ينحر نفسه بسبب الجوع، وهذا ما يحدث الآن للصحفيين المصريين وأسوأ
ــــــــ العمل
3 مايو 2022

قبل أن يهل سبتمبر من كل عام، كانت صالات التحرير قبل عقد ونصف تقريبًا تجهز نفسها لشهر مزدحم، صحفيو الحوادث يعرفون ما سيفعلونه، وصحفيو التحقيقات يحضرون الأسئلة والزوايا، وزملاء يشيّرون قواعد التغطية المهنية أو يناقشونها فيما بينهم سواء في أماكن العمل أو في قعدات الشاي والقهوة، فهذا شهر الانتحار.

أتذكر أننا بحثنا قبل سنوات لماذا أختير هذا الشهر لمكافحة الانتحار أو للتوعية بأسبابه، وفشلنا. أعدت البحث الآن ولم أصل كذلك لنتيجة مقنعة. تفسيرنا المصريّ وقتها انصبّ على أن هذا شهر دخول المدارس، وأولياء الأمور عادة ما يفشلون في تدبير النفقات فينتحرون، وإذا ما ترافق موسم المدارس مع عيد كبير أو صغير، ستزداد وتيرة الحوادث، وما يتبع ذلك من محاولة التعاطي معها بشكل مختلف، كعادة التغطيات الموسمية.

صحيح أن حالات الانتحار، آنذاك والآن، لا تتوقف طوال العام، فمثلًا ترتفع حدة الأمر في شهر يونيو، وهي في الغالب محاولات غير ناجحة لأطفال الثانوية العامة، لكن بقي لغز شهر سبتمبر عصيًا على التفسير. 

الآن تلخبطت الشهور والمواسم تمامًا؛ الانتحار لم يعد مرتبطًا بتغير الفصول ولا بنفقات المدارس، وانخفضت أعمار منفذي الانتحار، حسبما نقرأ في الأخبار. تتحدث الأرقام الرسمية عن عشرات الحالات سنويًا، وهذا تهريج يشبه إحصاءات إصابات كورونا في مصر أو الدول العربية التي لم تتجاوز أبدًا مئات الإصابات، حتى إحصاءات منظمة الصحة العالمية تُبقي الرقم في عدة آلاف وسط اعتراض ونفي حكومي.

قبل أيام أقرت الأردن قانونًا يفرض غرامة مالية وحبسًا على محاولي الانتحار في الأماكن العامة. على ذِكر الأردن؛ يبدو أن مواطنيها مستمرون في المحاولات في موسم سبتمبر الانتحاري.

أزمة/ غياب/ ضياع التعريف

هنا في مصر وبعد القضاء على الصحافة بسبع سنوات -سأعود لهذا التاريخ لاحقًا- يقرر زميل الانتحار من مكتبه في صحيفة الأهرام. ردود الأفعال الغاضبة، بين ما يمكن تسميتها بالجماعة الصحفية، التي تعبّر عن نفسها في مجموعات فيسبوك تضم منتسبي النقابة وممارسي المهنة دون اعتراف رسمي، جاءت غاضبة وأعادت مجددًا الشكاوى من الأوضاع المالية. 

معظم المواطنين يعاني أزمة اقتصادية طاحنة، لا أقول غير مسبوقة لأن خبراء الاقتصاد يقولون إن القادم أصعب، وبالطبع الصحفيون جزء من هذا الكل. بعض من هذه الجماعة الصحفية ربط الأزمة الاقتصادية للصحافة والمشتغلين بها بأوضاع الحريات العامة وهذا شرط أساسي لعمل الصحافة بالطبع. لكن نظرة على تغطية المواقع الإلكترونية الحكومية والخاصة لحادثة انتحار الزميل المؤلمة، يكشف أن الأزمة أصبحت أعقد من غياب الحريات العامة، فمعظم تغطيات زملائنا الشباب المدفوعين، غالبًا، بالفجيعة على الزميل وصفوا الواقعة بكل تفاصيلها الدموية في العناوين والمتون. 

أحمد الله أن صحفيي المواقع الإخبارية الكبرى لم يخرجوا علينا بـ لايڤ فيسبوك يستعرضون فيه الأشلاء.

الآن، ما وصفتُه بالجماعة الصحفية، تتناقش على مجموعات فيسبوك وواتساب، بعد تغييب النقاشات المهنية عن صفحات الجرائد والمواقع التي كان بعضها، بمبادرات فردية، يخصص مساحة أسبوعية ثابتة لنقاشات المهنة، وكانت بمثابة تدريب وتعريف بما وصلت إليه ”الصناعة“ في الخارج، سواء كان هذا الخارج غربيًا أو آسيويًا. لا أقول أن هذا تطور سلبي أو إيجابي، لكن هذا ما يحدث الآن.

قد يكون الاعتراف والتعامل مع هذه المهنة الآفلة في مصر بمنطق العمال أكثر راحة. فالعمل مرتبط بالانتحار، سواء كان انتحارًا فوريًا أو بالأجل من خلال أمراض المهنة.. حينها قد تصبح الرؤية أكثر وضوحًا عند حصر السؤال في صيغة بسيطة، وماذا يفعل العامل البسيط حتى ينجو؟

جزء من أزمة النقاشات أن الصحفيين يعتقدون أنهم ليسوا عمالًا بالتعريف القديم للعامل، وإن كانت دخولهم الشهرية، سواء قبل أزمة انهيار السقف الحالية أو بعدها، تضعهم في قلب هذا التعريف القديم بامتياز. لازلت حتى الآن لا أجد تفسيرًا للاحتفاظ بتعريف القرن التاسع عشر للعامل، أو حتى تصنيفات القرن العشرين للعمال البدنيين والذهنيين، الأمر مربك فعلًا، لأن هذه الفوارق تلاشت تمامًا، بينما بقيت التعريفات وبالتالي الصور الذهنية المرتبطة بها.

محاولة التميز المدّعاة تلك، يمكنك تأملها في اختيار العيد العالمي للصحافة، أو حريّتها، وأن يكون 3 مايو بفارق يومين فقط عن عيد العمال. وكأننا لسنا عمالًا. نغطي مآسيهم، لكننا لسنا مثلهم، نحن صحفيون.

قد يكون الاعتراف والتعامل مع هذه المهنة الآفلة في مصر بمنطق العمال أكثر راحة. فالعمل مرتبط بالانتحار، سواء كان انتحارًا فوريًا أو بالأجل من خلال أمراض المهنة.. حينها قد تصبح الرؤية أكثر وضوحًا عند حصر السؤال في صيغة بسيطة، وماذا يفعل العامل البسيط حتى ينجو؟

هنا، أعيد الاعتبار للاختيارات اللفظية لزملائنا في أقسام الحوادث عندما كانوا يستخدمون في أخبار الانتحار أو جرائم النفوس في الصحف كلمات مثل ”عامل“ و“عاطل“ و“فلاح“، لا مجرد مواطن أو شخص، فدائما العنوان عن ”انتحار عامل“، أو ”عامل يقتل عاطلًا عن العمل“، أو “مقتل فلاح في المدينة”. 

عند قراءة متون تلك الأخبار لا تجد عاملًا أو فلاحًا بالمعنى المتخيَّل: شخص في مصنع أمام ماكينة كبيرة يلبس أوفرولًا أو في الحقل يمسك فأسًا، وإنما هو شخص يعمل أي شيء، وهذا الشيء تصنفه بطاقة الهوية اختصارًا بكلمة واحدة: عامل. 

يتعلم الواحد أهمية هذه التصنيفات من التأمل في تقارير المنظمات الحقوقية المهتمة بحقوق العمال أو الفلاحين قبل الثورة والتي كانت تصدر إحصاءات عن الإضرابات أو الاحتجاجات أو الجرائم المرتكبَة في حقهم أو يرتكبونها، والتي كانت تعتمد بالأساس على أخبار صفحات الحوادث. أعرف، بحكم العمل في المطبخ، أن صحفيي الحوادث لا يقصدون هذه الفذلكات الفلسفية، لكنني كثيرًا ما أعجبت بها وأحفظها لهم كجميل مستحق.

ماذا لو انتهت الصحراء؟

تقول الأسطورة أن الدول الاسكندنافية هي الأعلى في معدلات الانتحار لكن في الحقيقة لا يقتل الناس أنفسهم من الغنى أو الفراغ، وإنما يقتلهم العمل، أو الاغتراب عن العمل إن قررنا استخدام المصطلحات الفلسفية، فمنظمة الصحة العالمية تقول إن 79٪ من حالات الانتحار حول العالم ينفذها مواطنو الدول الفقيرة والمتوسطة، أي أن الفقراء والمتوسطين هم المنتحرون. بصيغة أخرى المحترقون في العمل أو المغتربون عنه هم المنتحرون. صحيح، لماذا يُقدم شخص مطمئن، لا أقول غنيًا، على نحر نفسه أصلًا؟

العامل أو الموظف إن لم يجد سوقًا لصنعته أو سوقًا لتقديم خدماته سيموت من الجوع، أو ينحر نفسه بسبب الجوع، أو يلقي بنفسه في سوق عمل آخر يموت فيه من الاغتراب أكثر وأكثر، وهذا ما يحدث الآن للصحفيين المصريين وأسوأ، فبالإضافة إلى غياب السوق، هنا غياب إضافي للكفاءة.

غياب السوق دفع زملاء للعمل سائقين في تطبيقات النقل التشاركي، أوبر وغيرها، وسط حسد من بعض الزملاء أن هؤلاء لديهم سيارة ورخصة قيادة أصلًا، هؤلاء ذهبوا أصلا لسوق عمل سيئ بدرجة مذهلة، فلا تأمين صحي أو ضمان اجتماعي أو تأمين على رأس المال، السيارة في هذه الحالة البائسة، لأن ”السوق“ أصلا مصري وبالتالي هو خروج من النار إلى الجحيم في مفارقة حزينة.

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

مجددًا؛ هل تتوقف الأزمة فعلًا عند غياب الحريات؟ طيب ولو افترضنا أن قرارًا أُتخذ الآن بفتح الأبواب أو تعلية السقف ماذا سيكتب هؤلاء، سواء الذين اعتادوا على الكتابة بريموت التعليمات الواردة من أعلى، أو أولئك الذين دخلوا المهنة في السنوات السبع الأخيرة ووجدوا أرباع صحفيين على مقاعد الإدارات الصحفية، تستوي في ذلك مواقع الأخبار التابعة للحكومة والمخابرات العامة، أو ما تبقى من ”الخاصة“، أو مواقع ”إقطاعيات العصور الوسطى المستقلة“ كما سمّاها صديق. فهل يستطيع الزملاء الأصغر الإفلات من هذه الصحراء المميتة؟

لا أريد أن أكون متشائمًا فالجيل الذي دخل الصحافة مع حركة التغيير المصرية بعد 2005 وحتى الثورة في 2011 لم يجد أساتذة، أو فلنقل لم يجد العدد الكافي من الأساتذة، فاختار تعليم نفسه بنفسه عبر الإطلاع على الصحافة الغربية مع طفرة الإنترنت وملفات التورنت وتبادل ”الهاردات“، وما يتبعها من نقاشات عما يحدث هناك والصح والغلط، مع وجود إمكانية للتجريب واختبار الأفكار في أماكن تفتح الباب للتجريب. 

الخبر الطيب، وما خبرته من عدة تجارب في أماكن مختلفة، أن الجيل الأحدث من الصحفيين أفضل تعليمًا من الجيل السابق عليه، وأكثر إطلاعًا ورغبة في عمل أشياء جيدة، على الأقل أتحدث عن صحفيين يهتمون بالعمل في صحافة التحقيقات والعلوم والاقتصاد، وعددهم ليس بالقليل، وإن كانوا وسط سوق به 100 مليون مستهلك محتمَل للصحافة يعتبر إهانة.

صحيح أن الإنترنت لم يختفِ وإنما صار أفضل، وحلّ نتفليكس وإيجي بست محل التورنت، لكن ما يغيب الآن هو تلك المساحة للتجريب واختبار الأفكار مع الناس، فماذا سيفعل هؤلاء الزملاء في معضلتهم تلك؟

دوائر

محاولة الإفلات من فخ المقارنات وأحاديث تكرار التاريخ لنفسه، تتلقى ضربات موجعة بسبب القراءات البطيئة المنظمة التي يتعلمها الواحد بمرور السنين، كثفتُ قراءات تركّز على فترة السبعينيات؛ في أوقات ما بين ساعات العمل استمعت إلى تسجيلات، وزرت الأرشيف، بجانب جلسات نقاش تتناول ملاحظات باحثين وكتّاب تناولوا هذه الفترة.

ما يدفع الواحد لمثل هذه الزيارات هو تشابه عملية التصحير المنظمة للصحفيين والكتاب، ومقاطعة المؤسسات الرسمية أو الاستبعاد منها، وما ترافَق معه آنذاك من رحلات الهجرة إلى الخليج لشراء الشقة وتأمين مستقبل الأولاد في التعليم وانتظار الخلاص ورفع السقف، أو البقاء هنا ومحاربة أربعة أشباح؛ الانتحار، أو الدروشة والاستشياخ، أو العمل في السمسرة، أي سمسرة من الأراضي إلى اللحوم المستوردة، أو التماهي مع المهزلة والغَرْف من بِركة العفن.

آنذاك كانت الخريطة أمام الصحفيين بعد عملية التصحير تلك محصورة في المؤسسات الحكومية بعد الإنهاء على جيوب المقاومة في بعض الإصدارات التي احتضنت الأصوات المستقلة بمعايير هذا الوقت، أو الخروج للخليج.. لا طريق ثالث.

يمكنك العودة لكتاب الإمساك بالقمر للكاتب المصري الكبير محمود الورداني، فهو يفصّل أكثر أوضاع هذه الفترة. 

كم يتشابه هذا الوضع الآن مع إضافة تلك الإقطاعيات القروسطية المستقلة أو الخاصة.

 تلك القلاع الضخمة التي تقول الأرقام الرسمية إنها تنتعش الآن، كانت حلمًا قديمًا لمَن يريد العمل الجاد أو لمَن يكتفي بالتمرّغ في تراب الميري والانتظار في طابور التعيين واقتناص المزايا من الشقق في المدن الجديدة والسيارات بالتقسيط

بعد بحث لكتابة مقال سابق، وجدتُ أنه يمكننا التأريخ لانهيار سقف الصحافة على رؤوس عمّالها بعدد من تصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يحدد فيها شكل ونوعية التغطية الصحفية المقبولة من وجهة نظره، وتتابعت كلها في عدد من شهور العام 2015، وكانت ذات درجة عالية من العنف اللفظي، وما يتوجب على الصحفيين فعله، أو عدم فعله، في التغطيات الإخبارية، ووصلنا إلى الهجوم المباشر بغرض إسكات الجميع ”لإن أكيد يعني الإعلام دا فيه كارثة“.

هذا الإعلام ”اللي أكيد فيه كارثة“ تنقسم خريطته الآن بين مؤسسات حكومية تصدر 76 صحيفة يتبع معظمها مواقع إلكترونية تنشر الصحف في صورة ملفات بي دي إف أونلاين، لا تسألني لماذا، أو ماذا تعني هذه النكتة، بجانبها 3 صحف حزبية يمكنك اعتبارها هي الأخرى حكومية، وعدد من الصحف والمواقع التي تسمى خاصة يسيطر على معظمها شركة مملوكة للمخابرات العامة، بجانبهما، يقبع عدد من المواقع المستقلة المحجوبة.

هذه الخريطة الحزينة لم تمنع التبشير الحكومي بأن الصحافة الإلكترونية لم تؤثر على التوزيع الذي ارتفع حسب آخر إحصاء بنسبة تزيد عن الـ 7٪. تلك القلاع الضخمة التي تقول الأرقام الرسمية إنها تنتعش الآن، كانت حلمًا قديمًا لمَن يريد العمل الجاد أو لمَن يكتفي بالتمرّغ في تراب الميري والانتظار في طابور التعيين واقتناص المزايا من الشقق في المدن الجديدة والسيارات بالتقسيط. تباعًا انسحبت هذه المزايا وبقيت قلاع البؤس الضخمة مغلقة على عمّالها، حتى ذكّرنا الكاتب الأستاذ كارم يحيى في مقاله أن 4 من عمّال الأهرام سبقوا عماد الفقي في الانتحار، أحدهم تخلص من نفسه داخل المبنى.

نَ حَ رَ.. فائدة لغوية

يقال أنّ الفعل نَحَرَ، له أكثر من معنى، أشهرها هو ما نتحدث عنه عندما يتركنا صديق بقلوب مكسورة ووعود بلقاءات لن تتم. في لسان العرب، النحر هو أول الشيء، فنَحْرُ الشهر أي أوله، وقيل آخره لأنه ينحر آخر أيام الشهر، ويقالالناحرانهما عرقان في أعلى صدر الفرس، والناحرتانضلعان من أضلاع الزور، وقال ابن الأعرابيالناحرتانالترقوتان من الناس وغيرهم. لكن ما توقفت عنده هو استخدام الفعل مع السحاب للتعبير عن تخلصها من الماء بكثافة وكأنه حِمْل ثقيل يطلب الخلاص. ورد في اللسانانتحر السحابأي اندفع منه مطر كثير، ويقال للسحاب إذا أمطر بماء كثير؛ انتحر، وقال عدي بن زيد يصف المطرمرحٌ وبَلهٌ يسحّ سيوبَ الماء سحًا كأنه منحور، ويقول شاعر من بنى يربوعسقى الله المهلب كل غيث، من الوسمي ينتحر انتحارًا، ويقول الراعي عن ذلك المعنىفمرّ على منازلها ألقى، بها الأثقالَ وانتحرَ انتحارًا“.

* مصدر الصور في الغلاف: أمنيستي انترناشيونال، سيد داؤود، أصوات أونلاين، شروق نت، أرشيف zahma