fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft. الصور الأصلية لمروان طحطح

لبنان.. بداية تصلح للتغيير

من المرتقب أن تكون الفترة المقبلة حافلة بالمعارك والتجاذبات داخل المجلس الجديد، التي يندرج جلّها في إطار حماية مصالح الفئات المحدودة الدخل من تبعات الانهيار
17 مايو 2022

ما أن بدأت نتائج الانتخابات النيابية اللبناينة بالظهور تدريجيًّا مساء أول أمس، الأحد، حتى تبيّن أن القوى التغيريّة تمكنت من حصد كتلة وازنة غير مسبوقة داخل المجلس النيابي. فبعد أن انحصرت خروقات قوى الاعتراض المدنيّة في دائرة واحدة في انتخابات العام 2018، تمكنت هذه القوى ولأول مرّة من حصد مقعدين في دائرة الجنوب الثالثة، معقل تنظيمي حزب الله وحركة أمل، أبرز أركان المنظومة السياسيّة القائمة. 

في جبل لبنان الجنوبي، وتحديدًا دائرة الشوف وعاليه، بلغ عدد المقاعد المؤكّدة التي نالتها قوى التغيير ثلاثة مقاعد. وكذلك نالت قوى التغيير مقعدين في بيروت الثانية، ومقعدين في بيروت الأولى، إضافة إلى مقعدٍ في البقاع الغربي ومثله في دائرة الشمال الثالثة، وثلاثة مقاعد في دائرة صيدا-جزين.

حتّى كتابة هذه السطور، تؤكد نتائج الانتخابات امتلاك قوى التغيير 16 مقعدًا من أصل مقاعد البرلمان البالغة 128، ما لم تجر طعونات خلال الأيام المقبلة. نتيجةٌ من المفترض أن تخوّل تلك القوى لعب دور بيضة القبّان داخل المجلس النيابي، بما يسمح لها بفرض شروطها على القوى السياسيّة الأخرى المتمثّلة داخله

نجاح غير منتظر 

يمثّل حصول قوى مدنيّة غير طائفيّة على هذه النسبة من مقاعد البرلمان، مسألة غير مسبوقة في تاريخ الدورات الانتخابيّة السابقة. وليس هذا للأسباب المعروفة وحسب، ولكن تدخلت عدة عوامل في استبعاد نجاح الأصوات المستقلة والمعارضة في الوصول إلى المجلس؛ فمع إقفال باب تسجيل اللوائح الانتخابيّة في وزارة الداخليّة، شعرت نسبة كبيرة من اللبنانيين بخيبة أمل من تعدد لوائح المعارضة في كل من الدوائر الانتخابيّة الخمسة عشر، خصوصًا أن جزءًا كبيرًا من هذه اللوائح تجمعها قواسم مشتركة كان يمكن أن تمثّل مشروعًا انتخابيًا موحدًا. 

أمّا حساسيّة تعّدد اللوائح على هذا النحو، فكمنت في خفض عدد الأصوات التي ستحصل عليها كل لائحة، ما يعني تقليص فرص جميع هذه اللوائح في الحصول على الحد الأدنى المطلوب على المنافسة على مقاعد كل دائرة، بحسب النظام النسبي المعتمد.

 كان من السهل تحديد خيار انتخابي واضح وجدّي في كل دائرة، يملك إمكانيّة الخرق ويحظى بالاهتمام الإعلامي، وهو ما سمح بإعطاء حملات المعارضة زخمًا شعبيًا لم يكن متوقعًا في المرحلة الأولى بعد إقفال باب تسجيل اللوائح

كان من شأن تعدد اللوائح أيضًا كبح الزخم الذي يمكن أن تحققه نتيجة ضياع الرأي العام بين الخيارات المتعددة، خصوصًا أن أي منها لم تملك ماكينات انتخابيّة حزبيّة منظمّة كحال الأحزاب الطائفيّة العريقة. لهذا لم تدخل قوى الاعتراض الاستحقاق النيابي في البداية بزخم كبير، ولم يتفاعل الرأي العام بسرعة مع دعوات دعمها، رغم وجود الحاضنة الشعبيّة التي تسمح بذلك.

ومع انطلاق الحملات الانتخابيّة، بدأ يتبيّن خيط اللوائح الأبيض من خيطها الأسود، ليلتفت الرأي العام إلى أن تعدد قوائم المُعارضة لم يمنع وجود لائحة تغييريّة واضحة المعالم انضوت تحتها الغالبيّة الساحقة من مجموعات التغيير في كل دائرة. من بين هذه اللوائح، حملات تمّ تشكيلها وفق نموذج التنظيم القاعدي، الذي سمح بإجراء جولات من “الانتخابات التمهيديّة الداخليّة” بشكل ديمقراطي لاختيار المرشحين، مع فتح باب الانتساب لناخبي الدائرة، وهذا ما جرى تحديدًا في حالة دوائر “الشمال الثالثة” (مع حملة “شمالنا”) والبقاع الغربي (إئتلاف سهلنا والجبل). 

في حالات أخرى، تبيّن أن المجموعات قررت التفاوض المباشر كتحالف واسع لتشكيل قوائم تملك قدرًا كبيرًا من التعدد داخلها، كما جرى في حالة دائرةبيروت الثانية” (مع لائحةبيروت التغيير“). كان من السهل تحديد خيار انتخابي واضح وجدّي في كل دائرة، يملك إمكانيّة الخرق ويحظى بالاهتمام الإعلامي، وهو ما سمح بإعطاء حملات المعارضة زخمًا شعبيًا لم يكن متوقعًا في المرحلة الأولى بعد إقفال باب تسجيل اللوائح

بيروت 15 أيار (مايو). تصوير: مروان طحطح

تحول المزاج الشعبي 

مثّلت ثورة 17 تشرين الأوّل 2019 نقطة تحوّل بالغة الأهميّة في الحياة السياسيّة اللبنانيّة، بعد أن تلى هذه الثورة تحوّلٌ كبيرٌ في المزاج الشعبي اللبناني، نشأ عنه ابتعاد شرائح اجتماعيّة واسعة عن الزعامات الطائفيّة التقليديّة، مقابل انجذابها نحو الخطاب المدني التغييري، المناهض للنظام الطائفي القائم.

سرعان ما ترجمت القوى السياسيّة التغييريّة- التي انبثقت عن الثورة أو تلك التي ناهضت النظام الطائفي لفترة طويلة قبلها- هذا التحوّل الشعبي من خلال في استحقاقات عديدة ذات طابع انتخابي، من انتخابات المجالس الطلّابيّة في الجامعات، التي سيطرت عليها المنظمات والنوادي الطلابيّة المستقلّة ذات التوجّه العلماني المُعارض للنظام، أو انتخابات نقابات المهن الحرّة كنقابة المهندسين مثلًا، التي سيطر على مجلسها إئتلاف من القوى التغييريّة المُعارضة. كانت هذه الاستحقاقات دلالة على وجود تبدّلات سياسيّة على مستوى الرأي العام، بما يسمح بالبناء عليه لتحقيق تغيير فعلي على المستوى السياسي لاحقًا. 

ومع كل ذلك، ظلّ الانتقاد الأساسي لقوى التغيير في البلاد عدم تأطّرها في حالات منتظمة سياسيًّا على المستوى الوطني، بما يسمح بتنسيق الحالة الشعبيّة أو الخطاب السياسي في أي استحقاق جدّي أو مواجهة كبرى. فبعد أسابيع من اندلاع الثورة، وإسقاط الحكومة اللبنانيّة في ذلك الوقت، عادت القوى التي انخرطت في التحرّكات على الأرض لينحصر عملها في تحرّكات موسميّة وغير مركزيّة، دون أن تتمكّن طوال السنتين الماضيتين من التكتّل في ائتلافات أو تنظيمات أوسع تسمح بخوض مواجهات طويلة الأمد وبحسب أهداف سياسيّة مدروسة.

هذه المسألة بالتحديد، مثّلت نقطة الضعف التي لطالما كان يُشار إليها عند الحديث عن فرص ترجمة حالة قوى التغيير في تحوّل فعلي على مستوى النظام السياسي، أو حتّى تحقيق إنجازات ملموسة تبشّر بقرب حصول هذا التحوّل.

تتسم نتائج انتخابات 2022 بحساسيّة خاصّة، لجهة توقيتها والقضايا المقبلة التي سيتعامل معها هذا المجلس النيابي بالتحديد، وخصوصًا في ما يتصل بملفّات توزيع خسائر الإنهيار وأكلاف مرحلة التصحيح المالي، وطبيعة الفئات التي ستدفع ثمن هذا  التصحيح

ثم جاءت انتخابات لبنان النيابيّة، التي حصلت الأحد، لتمثّل تحدّيًا كبيرًا بالنسبة إلى جميع قوى التغيير المناهضة للنظام السياسي. وتمحور السؤال الأساسي حول قدرة هذه القوى على الانضواء ضمن لوائح منسجمة ذات برنامج انتخابي متناسق، وبخطاب واضح أمام الرأي، وحول إمكانيّة تنسيق جهود هذه اللوائح على المستوى العملي للتواصل مع الناخبين بشكل جماعي في كل دائرة. 

كان في عدم وجود حالات حزبيّة منظّمة ممتدة على المستوى الوطني إشكاليّة كبيرة بالنسبة إلى هذه القوى، خصوصًا بوجود قانون انتخابي قائم على النسبيّة واللوائح المقفلة، وهو ما يفرض وجود حملات منظمة قادرة على الوصول إلى شرائح اجتماعيّة متنوّعة في دوائر كبيرة. 

على أنّ حساسيّة الاستحقاق لم تكمن في التحدّي القائم أمام المعارضة فقط، من ناحية قدرتها على التنظيم والحشد والانتظام، بل كمن أيضًا في طبيعة المهام التي سيتعامل معها المجلس النيابي المقبل، ونوعيّة المعارك التشريعيّة التي يُفترض أن تخوضها المعارضة فيه.

بيروت 15 أيار (مايو). تصوير: مروان طحطح

المجلس وألغام مصالح الحلقة النافذة

تتسم نتائج انتخابات 2022 بحساسيّة خاصّة، لجهة توقيتها والقضايا المقبلة التي سيتعامل معها هذا المجلس النيابي بالتحديد، وخصوصًا في ما يتصل بملفّات توزيع خسائر الإنهيار وأكلاف مرحلة التصحيح المالي، وطبيعة الفئات التي ستدفع ثمن هذا  التصحيح. فقبل أسابيع معدودة من حصول الانتخابات، وقعت الحكومة اللبنانيّة اتفاقًا مبدئيًا مع صندوق النقد، ينص على موافقة الصندوق على منح لبنان قرضًا بقيمة ثلاثة مليارات دولار، مقابل التزامه بتنفيذ مجموعة من الخطوات قبل توقيع اتفاق القرض النهائي. 

هذه الخطوات، تم تلخيصها ضمن وثيقة عُرفت بخطّة التعافي المالي، وهي خطّة ستحدد شكل الاقتصاد اللبناني وهويّة المستفيدين منه على مدى عقود من الزمن، وكيفية التعامل مع تبعات الانهيار الحاصل اليوم، ونوعيّة الشرائع الاجتماعيّة التي ستتعامل مع هذا الانهيار.

سيكون بإمكان قوى التغيير ولأوّل مرّة أن تبرز أمام الرأي العام كحالة اعتراضيّة شرسة، تملك مشروعها الخاص وبرنامجها، إضافة إلى أدوات المواجهة التي تسمح لها بتحقيق إنجازات ملموسة داخل المجلس النيابي

من ضمن مندرجات الخطّة مثلّا، تبرز التعديلات على قانون السريّة المصرفيّة، وهي مسألة حسّاسة غالبًا ما يخشى منها كبار النافذين في النظامين المالي والسياسي، نظرًا للدور الذي تلعبه السريّة المصرفيّة في تسهيل تهرّب كبار المتموّلين من الضرائب، إضافة إلى دورها في تسهيل عمليّات الفساد والإثراء غير المشروع والجرائم الماليّة. 

كما يندرج من ضمن الخطة إقرار قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وهو القانون الذي يفترض أن يحدد كيفيّة التعامل مع الخسائر المتراكمة في ميزانيّات القطاع المصرفي المتعثّر، وكيفيّة استعادة أموال صغار المودعين. وهذا القانون يتسم بحساسيّة خاصّة، نظرًا لحرص كبار النافذين في القطاع، من أصحاب المصارف، على تفادي تحمّل قدرٍ وازنٍ من الخسائر المصرفيّة من رساميلهم.

تطول قائمة الخطوات التشريعيّة التي تتصل جميعها بإصلاحات الخطّة الماليّة، والتي تكثر في طياتها ألغام مصالح الحلقة النافذة مصرفيًّا وسياسيًّا. ولهذا السبب بالتحديد، من المرتقب أن تكون الفترة المقبلة حافلة بالمعارك والتجاذبات داخل هذا المجلس، التي يندرج جلّها في إطار حماية مصالح الفئات المحدودة الدخل من تبعات الانهيار.

هنا، سيكون بإمكان قوى التغيير ولأوّل مرّة أن تبرز أمام الرأي العام كحالة اعتراضيّة شرسة، تملك مشروعها الخاص وبرنامجها، إضافة إلى أدوات المواجهة التي تسمح لها بتحقيق إنجازات ملموسة داخل المجلس النيابي.