كنا نطوف بالدراجات في رحلتنا الأسبوعية، حين وجدنا أنفسنا بمنطقة المنيل القديمة، قالت رندا أنها تريد البحث عن قرية الصيادين، التي سمعت عنها من قبل، وربما تقع هنا في المنطقة. دخلنا في حواري وأزقة بحثًا عن منازل الصيادين، الطرق ما زالت شبه خالية، فنحن في الصباح الباكر جدًا من يوم الجمعة، حتى قابلتنا إحدى السيدات التي تسكن المنطقة.
لم تلفت الدراجات انتباهها، لكنها توسمت أننا صحفيون -ربما بعد عمر معين تبرز مهنتنا على وجوهنا دون أن ندري- وبدأت على الفور في سرد حكايتها وحكاية المنطقة. يومها كنا مجموعة صغيرة أربعة أفراد فقط، بيننا بالفعل صحفيتين، لم تخطئ سيدة المنيل، رندا شعث المصورة الصحفية القديرة، وأنا.
زرنا المنيل من قبل أكثر من مرة في رحلات الدراجات الأسبوعية التي انضممت إليها قبل حوالي عام، وعبرها اكتشفت القاهرة وكونت علاقة جديدة تمامًا معها. ويمكنني القول أني أعلم منطقة المنيل -حنوب شرق القاهرة- بعض الشئ، فأمي كان عملها دائمًا في المنيل، كانت مدرسة ثم موجهة في منطقة مصر القديمة التعليمية، ورغم تغييرها عدد من المدارس، إلا أنه لسبب لم تغادر مناطق المنيل والروضة والملك الصالح.
كانت ماما تحب المنيل، وأحببته أنا بالوراثة، بالذات حين كانت تصحبني معها للعمل، ثم لتمشيات أو خروجات بعد شغلها. جزيرة كانت في القرون الوسطى إحدى مقرات المماليك المفضلة، ثم تحولت لحي طبقة متوسطة قديم مقابل للنيل، لكنه ليس برجوازيًا بقدر جزيرة الزمالك، وليس مصطنعًا، في هيئته العمرانية، كالأحياء الجديدة مثل مدينة نصر والمهندسين. في الجامعة واظبت على الخروج في منطقة المنيل أيضًا، حيث كانت الفروع الأولى لمحال البيتزا والدجاج المقرمش في القاهرة، في المنيل، الذي كان يبعد مسافة كوبري من جامعتي، جامعة القاهرة.
المنيل القديم، تصوير: رندا شعث
ناس وبيوت
حكت لنا سيدة المنيل أن حالة البيوت في المنطقة سيئة جدًا، وأن الحكومة بنت بجوارهم ثلاثة عمارات سكنية، وتركتها خالية، بينما تنهار بيوت السكان واحدًا تلو الآخر. طلبت منا ايصال صوتها للمسئولين، فسألتها رقم هاتفها، ووعدتها بزيارة لاحقة. بعدها استكملنا مسيرتنا بالدراجات أحيانًا وعلى أقدامنا أحيانًا أخرى، لضيق الأزقة أو لسوء حالة الطريق.
ما لفت انتباهي في زيارتي الأولى للمنطقة أن سيدة المنيل، التي فضلت أن يبقى اسمها مُجـهـلًا هي والسيدتان اللتان قابلتهما في زيارتي الثانية للمنطقة، قالت أنها هي وسكان آخرين وقعوا على إقرار أنهم مسئولين مسئولية كاملة عن توابع ما يمكن أن يحدث لهم لو انهارت منازلهم فوق رؤوسهم، وأن الحكومة لن تتحمل المسئولية.
في جولتنا الأولى في المنطقة بدت البيوت قصيرة، ثلاثة أدوار على الأقصى، وصغيرة الحجم جدا، تأكد هذا حين رأيتها من الداخل لاحقًا، حالتها بالفعل سيئة، يمكن رؤية التشققات في الجدران، والأسقف الخشبية المتهالكة.
استمر بحثنا عن بيوت الصيادين، كانت هناك علامات، أو ربما هكذا أردنا أن نصدق، حتى نقنع أنفسنا أننا وجدنا ما نبحث عنه، مثلًا بعض البيوت مدهونة بالأزرق، بيوت أخرى مهجورة بها كراكيب تشبه معدات الصيد، بعض الكتابات والرسومات على الجدران، ربما تخص صيادين أو أي مهنة أخرى. لم نتأكد أبدًا. ربما سكن المنطقة صيادين، وهذا منطقي للغاية لقرب المنطقة الشديد من النيل، لكنني أردت تتبع الحكاية.
المنيل القديم، تصوير: رندا شعث
كلام ثم كلام ثم كلام
المنطقة، بحسب وزارة الأوقاف، تعرف باسم منطقة طبطباي والقاضي عثمان، وطبطباي المقصود هو مصطفى بك طبطباي، أمير عاش في مصر في أثناء الاحتلال العثماني، ولم أجد معلومة عنه سوى أنه أنشأ سبيلًا في عام 1638، في المنطقة التي تعرف حاليًا باسم حي الخليفة، ويبدو أنها كانت أرضه ووصلت بشكل ما لسلطة الأوقاف. المنطقة مساحتها 4.6 فدان، بحسب صندوق تطوير المناطق العشوائية، وهي منطقة أملاك خاصة، وبها 280 وحدة سكنية.
والوقف حسبما تعرفه وزارة الأوقاف المصرية، الجهة المسئولة رسميًا عن إدارة الأوقاف، هو «المنع أو حبس العين عن التملك أو التصرف، والتصدق بمنفعتها أو ريعها، وذلك لصالح جهات البر المتعددة». وتبلغ أملاك هيئة الأوقاف ما يزيد عن تريليون و37 مليارًا و370 مليون في هيئة عقارات وأراض وأموال بحسب الحصر الذي تم إجراءه في 2018.
فلنسمي سيدة المنيل إذًا باسم رجاء، رجاء تزوجت في المنطقة وتسكن بها منذ 26 عام، تحكي رجاء القصة باختصار وتقول «من 2002 الناس بتشتكي إن البيوت بتقع، لأن فيه بيوت وقعت في زلزال 1992 وبيوت تانية اتشققت. في 2013 جه ابراهيم محلب (رئيس الوزراء ساعتها) قال هيطور المنيل وهيبنيلنا عماير سكنية نقعد فيها. بدأوا يبنوا البيوت في 2014، قعدوا يبنوها في أربع سنين. كل شوية ييجوا يقولوا هنشيل ونطور، ولما نسأل الحي هتسلمونا امتي، يقولوا مش عارفين. السنة اللي فاتت جم لموا بطايق الناس وورق العوايد. وفي مارس اللي فات لما بيت وقع، صاحب البيت راح اشتكى، فجت الحكومة جابت لجنة ثلاثية وعملت حصر». تضيف «كان فيه مشكلة بين الأوقاف والحي، وده وقف الدنيا. دلوقتي المشكلة اتحلت والأوقاف كسبت القضية».
هنروح فين؟ أقل حاجة بـ 2000 جنيه. أنا جوزي مريض، وأنا اللي بشتغل، وبنتي بتتعلم في الجامعة وبدفعلها مصاريف، معايا شباب بيشتغلوا بس على قدهم، ماقدرش أسكن بره، اللي هشتغل بيه بقى أدفعه للشقة ولا أدفعه أكل وشرب. يدونا شقق بس في مكان نعرف ناخد مواصلات ونروح الشغل ..
بدأ الحديث رسميًا عن تطوير المنطقة في يوليو 2014، حين قالت وزارة الأوقاف أنها وقعت على بروتوكول مع محافظة القاهرة لتطوير المنطقة، بتكلفة مبدئية 200 مليون جنيه. كان من المفترض الانتهاء من أربعة أبراج كمرحلة أولى للمشروع في خلال عام، أي في مارس 2015.
في أغسطس 2016، قالت وزارة الأوقاف أن رخصة تطوير منطقة طبطباي انتهت، واتفق المسئولون بالأوقاف وحي مصر القديمة والمجموعة الوطنية لاستثمارات الأوقاف على الإسراع من وتيرة المشروع، فيما أعلن رئيس حي مصر القديمة حينها أنه تم حصر ما يقرب من 56 أسرة، تمهيدًا لنقلهم للعمارتين اللتين تم الانتهاء من بنائهما، في الشهر التالي، قبل البدء في هدم «عشش» المنطقة، لتطويرها. رغم ذلك صدر القرار رسميًا من قِبل محافظة القاهرة لاعتماد مشروع تطوير المنيل القديم في 2018، ونشر في الوقائع الرسمية في فبراير 2019.
مشروع التطوير المعلن عنه، مساحته 5 أفدنة، ويضم المشروع عمارات سكنية اقتصادية، سيكون عددها 10 عمارات بإجمالي 433 شقة، بالإضافة إلى 57 محل تجاري. والجزء الآخر من المشروع هو مباني استثمارية وإدارية وخدمية.
صورة بانورامية لمنطقة المنيل القديم. المصدر صندوق تطوير المناطق العشوائية
الحياة في انتظار
في زيارتي الثانية للمنطقة قابلت سيدتين من جيران رجاء، فلنسميهما نهلة ومريم، لأن جميعهن فضلن أن تبقى أسمائهن مُجـهـلة. بعكس رجاء ولدت نهلة ومريم في المنطقة، عائلة نهلة أتت من البحيرة وبنت بيتًا وسكنت فيه قبل أكثر من ستين عام، وأيضا عائلة مريم التي جاءت من سوهاج. أخبرتني النساء الثلاثة أنهن يدفعن عوائد لوزارة الأوقاف كل عامين ويحصلون على إيصالات رسمية، كما أن كلا من نهلة ومريم شهادات ميلاديهما مسجلة بالمنطقة وعناوينهما أيضًا، «عندنا حاجات تثبت اننا مولودين وعايشين هنا»، أكدت السيدتان.
في نهاية 2018، وتزامنا مع انهيار بيت جديد في طبطباي، كانت الأوقاف قد انتهت من بناء أبراجها الثلاث، ذات العشرة طوابق، لكن خلافات بين الأوقاف ومحافظة القاهرة أوقفت المشروع. تقول رجاء «في 2018 جم خيرونا بين شقق وتعويض 60 ألف جنيه للأوضة (2000 دولار تقريباً)، وناس اختارت شقق وناس اختارت تعويض، ومحصلش حاجة من ساعتها».
بدأ الإعلان عن تفاصيل مشروع تطوير المنيل القديم في 2020، وكان مقررا الانتهاء منه نهاية 2021.
كلما وقع عقار، زارت الحكومة المنطقة. قالت رجاء ونهلة أن عقار مجاور لهما وقع مارس الماضي، أوضحت نهلة «البيت اللي جنبنا وقع وخد الحيطة بتاعتنا، أهل الخير هم اللي بنوهالنا، في مارس اللي فات»، وأضافت رجاء «طلع قرار إزالة لتلات بيوت، اللي جنب البيت اللي وقع، ساكن فيهم 9 أسر، قالولنا يا تروحوا تأجروا في حتة على حسابكم لمدة 6 شهور وتيجوا نديكم شقق، يا تتنقلوا مدينة بدر. قلتله مش هامشي ولو هديتوا البيت على دماغي. الحي مضّانا تعهد، لو حصل حاجة للبيوت احنا المسئولين. واتعملنا محاضر في القسم لاثبات التعهد». تسعة أسر ينتظرون إنهيار بيوتهم فوق رؤوسهم.
«هنروح فين؟ أقل حاجة بـ 2000 جنيه. أنا جوزي مريض، وأنا اللي بشتغل، وبنتي بتتعلم في الجامعة وبدفعلها مصاريف، معايا شباب بيشتغلوا بس على قدهم، ماقدرش أسكن بره، اللي هشتغل بيه بقى أدفعه للشقة ولا أدفعه أكل وشرب. يدونا شقق بس في مكان نعرف ناخد مواصلات ونروح الشغل» تقول مريم. قاطعتها نهلة قائلة «يدونا في الخيالة ولا يدونا في أبو الريش في تل العقارب، فيهم شقق فاضية»، واستطردت مريم «احنا عايزين بس نقعد في مكان كويس. حلو ونضيف. مش عايزين من الدنيا أكتر من كدة».
بنايات الأوقاف خلف منطقة المنيل القديم. تصوير هدير المهدوي
أحد العقارات المنهارة في المنيل القديم. تصوير هدير المهدوي
بنايات الأوقاف خلف منطقة المنيل القديم // أحد العقارات المنهارة في المنيل القديم. تصوير هدير المهدوي
حل المشكلة أم نفيها؟
قمت بتغطية ملف العمران صحفيًا منذ 2008. ورأيت من خلال عملي كيف تطور التعامل الحكومي مع المناطق غير المخططة رسميًا، وكيف أن في السنوات الأخيرة لا أحد آمِن من «التطوير»، فربما يتحول منزلك فجأة إلى عمود لحارة جديدة مُضافة لتوسعة كوبري قديم، أو ربما كوبري جديد تمامًا يبتلع منزلك ومنازل جيرانك، أو طريق جديد أو أرض استثمارية. وهكذا، في الأوراق الرسمية دائما ما يكون السبب إما تطوير أو منفعة عامة.
في السنوات الأخيرة، لم ينج أحد، من مناطق سكنية لطبقات محدودة الدخل في السيدة عائشة وعين الصيرة والوراق لمناطق سكنية لطبقات متوسطة مثل ألماظة ومدينة نصر لعوامات الزمالك النيلية. لكن ربما تختلف قصة المنيل بعض الشئ، فالأهالي هنا يريدون التطوير، لكن الحكومة تجاهلتهم لسنوات.
الأمر المشترك بين كل سكان المناطق غير المخططة رسميًا، أنهم يريدون أن يعيشوا حياة آدمية، والمشترك في تعامل الحكومة معهم هو النفي لنهاية القاهرة، خلع السكان من جذورهم والقائهم بعيدًا، بعيدًا عن تاريخهم ومصادر رزقهم ومدارسهم وجيرانهم، كنفي للمشكلة بدلًا من حلها، مثلما قال لي أحد الباحثين العمرانيين في لقاء سابق، والاستفادة طبعًا بالأراضي، بالذات إن كانت قيمتها الاستثمارية مرتفعة، مثل ما حدث في مثلث ماسبيرو.
في مايو الماضي أعلنت نائب محافظ القاهرة البدء في وضع آليات لتسكين المستحقين من أهالي المنطقة، للسكن في أبراج الأوقاف. لا تعرف رجاء أو مريم أو نهلة شيئًا عن تلك الآليات، هم يسمعون كلامًا كثيرًا منذ سنوات، ولا يعرفون كيف سيكون مصيرهم
قبل زيارتي الثانية للمنيل القديم، تواصلت مع الباحثة العمرانية أمنية خليل، قالت لي أمنية أن عدم تدخل الدولة في مناطق تحتاج إلى إنقاذ، هو أمر معتاد، مثل منطقة أولاد علام في الدقي، والتي تعاني من وضع مشابه، وهي مثل منطقة المنيل القديمة، مصنفة كمنطقة ذات خطورة، من قبل صندوق تطوير المناطق العشوائية.
أضافت أمنية أن عادًة ما تتذكر الحكومة المناطق غير المخططة رسميًا «لما تعوزها»، متسائلة ربما من الأفضل ألا تتذكر الحكومة منطقة المنيل القديم، حتى لا يتعرض السكان لنفس مصير من سبقوهم من سكان مناطق أخرى، تم نفيهم لمساكن جديدة في أطراف القاهرة الكبرى مثل بدر والأسمرات، أو طردهم بدون حتى تعويض لو قررت الحكومة اعتبارهم غير مستحقين، أو تعويضهم بمبالغ لن تمكنهم بالمرة من إيجاد سكن بديل، لأنها أقل بكثير من أسعار العقارات، حتى في مناطق محدودة الدخل.
لا أحد يشارك في تقرير مصيره فيما يخص مسكنه، الحكومة وحدها تقرر، هكذا أكدت أمنية. بينما أكدت رجاء على نفس الكلام بطريقة أخرى قائلة «لازم يكون فيه سياسة في شئون الناس».
«كل يوم بقعد أبص للعماير من الشباك، وابص للسقف البايش واتقهر»، هكذا وصفت رجاء وضعها هي وجيرانها. في مايو الماضي أعلنت نائب محافظ القاهرة البدء في وضع آليات لتسكين المستحقين من أهالي المنطقة، للسكن في أبراج الأوقاف. لا تعرف رجاء أو مريم أو نهلة شيئًا عن تلك الآليات، هم يسمعون كلامًا كثيرًا منذ سنوات، ولا يعرفون كيف سيكون مصيرهم.
بنهاية النهار، يجلس النساء الثلاثة في مواجهة الأبراج الخاوية، ينظرن لشرفات الأبراج ويبدأن في تزيين البلكونات بأسريات الزرع والورود، يتخيلن أنفسهن هناك داخلها، يتسامرن ويتناولن أكواب الشاي.
المنيل القديم، تصوير: رندا شعث
