fbpx
مشهد من فيلم: Les 400 coups للمخرج الفرنسي Truffaut. المصدر يوتيوب

أول مكرر

عندما ظهرت نتيجة التيرم الأول بعد بدء التيرم الثاني بقليل، كنت الأول على المدرسة، بنفس درجات أحمد عبد الجواد، ولقد فوجئت قبل الجميع بالنتيجة.. كنت سعيدًا ومرتبكًا.
ــــــــ تعليمــــــــ ماضي مستمر
5 نوفمبر 2021

لا أنسى الأستاذ ممدوح، مدرس الحساب والعلوم، الذي قرر أني لا أصلح كي أكون الأول على المدرسة. وقد أعلن هذا الرأي بإصرار وحماس وعداوة لم يجتهد للحظة في إخفائها. 

الأستاذ ممدوح هو جزار الفصول، الوحش الذي ستقابله في نهاية رحلة المدرسة الابتدائية.. الصف الخامس. كانت سمعته تسبقه وقد بلغتنا قبل ثلاثة أعوام على الأقل، مخلوطة بإشاعات وأساطير، وعندما دخل حصته الأولى، بدا مستمتعًا بكل حرف نُطق عن سطوته.. لن يرحم. 

روى خطته على شكل مزحة وابتسم لها، كمن يضيف بذوق فنان رفيع لمسة رعب خاصة.

أنيق بطريقة كلاسيكية، قميص، وبنطلون قماشي وحذاء لامع وساعة. كل شيء فيه مربع، وجهه وجسده وتصفيفة شعره، لأن من يُدرس استعمال المنقلة والبرجل لأول مرة عليه أن يماثل شكلًا هندسيًا مغلقًا بصرامة. يده غليظة، يضع اليسرى دائمًا بجيبه، كي يداري خنصرًا مبتورًا، لأن لابد للوحش من علامة.

كان متزوجًا من محبوبتي الأولى.. ميس إيمان التي كات تشبه أجمل نساء العالم في تلك الفترة.. الممثلة نسرين، خاصة في براءة الملامح ولون العينين، عدا أن لها شعر طويل.

على عكس الأستاذ ممدوح كان لميس إيمان وجه دائرة، لأن الأمنيات فيه لا تنتهي ولا تجاب، أو كما قال الحلاج.. “هيهات من يدخل الدائرة والطريق مسدود، والطالب مردود والدائرة مالها من باب” كشأن كل حب أول، حب مستحيل.

كنت أسهر الليالي أفكر كيف لنا أن نتجاوز عائقين بحجم فارق السن وكونها متزوجة، ولم أكن أعرف حتى الصف الخامس من يكون زوجها، لكني كنت أؤمن في نشوة أحلامي الزائفة، أن العوائق أمام كل حب مستحيل، تافهة، فقد كنت تلميذها المفضل.

لا أعرف لم أو كيف تطورت علاقتنا لتراني أفضل تلاميذها، كنت أقدم لها ما لم أقدمه لأي مدرس على الإطلاق، فعادتي التي واصلتها طيلة سنوات دراستي، أن أعرف الإجابة دون أن أرفع يدي، لا أنطق بها إلا عندما أحاصر بين الرد أو العقاب. صُنفت على هذا الأساس من باقي المدرسين والتلاميذ.. كطالب شاطر، لكن التفوق كان يحتاج شيئًا آخر.. بروتوكول سلوك، إعلان فج في كل لحظة.

الأكثر إثارة للرعب كانت نزوات أستاذ ممدوح المفاجئة التي يقرر أن يقيم من أجلها مذبحة دون أن نرتكب أخطاء حقيقية، كمن يفضي إلينا بغضب وحقد مكتوم من شيء بعيد وعميق داخل نفسه، لا علاقة له بالدراسة أو بسلوكنا ولا ذنب لنا فيه أو حيلة

لم أكن أبذل إلا الجهد المطلوب طيلة السنة، كانت المذاكرة وتحصيل المعلومات لعبتي السهلة، أدخر تركيزي الأكبر للامتحان النهائي فقط، وكنت أجتازه بجدارة. أما اختبارات الشهر، فكنت على أوقات متباعدة أعلن بين العشرة الأوائل في الفصل، غالبا ما بين الرابع إلى العاشر. وفي كل مرة لم أفهم السبب، لم أفعل شيئا مختلفًا عما اعتدته.

أما في حصة ميس إيمان، والتي كانت تدرس لنا الجغرافيا والتاريخ، كنت ألمع بلا مجهود، كأني أتنفس، كأني بوركت بلمسة تجعل من كل ما أفعله موفقًا. كنت أول من ينطق بالإجابة على أكثر الأسئلة تعقيدًا ومراوغة، بحس أشبه بالإلهام، لا جهد المذاكرة. تأتيني فجأة فلا أتردد في أن أغامر بالنطق قبل أن تطلب، فيشرق وجهها بسعادة المحب، أما لمعة عينيها حين أفعل، كمن اخترقت حجبًا لتكتشف سرًا أو تخترع داخلي واحدًا، فلم تغادر روحي أبدًا. لأن النقطة التي في وسط الدائرة هي الحقيقة، يقول الحلاج.

كنت أبذل من أجلها ما أبخل في تقديمه عن كسل أو عن عدم رغبة في أن أكون مرئيًا، أو عدم فهم لعاقبة قلة اهتمامي بالتصرفات التي يجب على الطالب المتفوق أن يؤديها كعرض مسرحي مستمر.

أول مكرر

المصدر: أحمد الفخراني

لذا كان من المنطقي أن تغادر ميس الإيمان المدرسة قبل أن نذهب إلى الصف الخامس، اختفاء جدير بحبكة ظهور وحش أنيق ذي ظلف مبتور ووجه مغلق ومزحة مرعبة، ليأسر أجسادنا كل يوم لبضع ساعات. 

أتذكر تحديدًا درس المنقلة، كلما أخطأت في استعمالها، هوى بسيف عصاته على يدي، فعلها لمرات بدت كأنها لن تنتهي، حتى صارت يدي كتلة متورمة زرقاء. فسمح لي أخيرًا أن أغسلها بالماء، لأن على الضحايا عبء محو الأثر، وفي ذلك يكمن كل كرمه.

لا فائدة من إخبار الآباء (كما تعلمون)، فكل ما سيفكرون فيه أني لا أفهم كيف تعمل المنقلة، كيف يمكن لي أن أفهم طريقة استخدامها وغدر موحش كهذا يختفي خلف ما تدعيه قطعة البلاستيك تلك من براءة كاذبة.

لكن الأكثر إثارة للرعب كانت نزوات أستاذ ممدوح المفاجئة التي يقرر أن يقيم من أجلها مذبحة دون أن نرتكب أخطاء حقيقية، كمن يفضي إلينا بغضب وحقد مكتوم من شيء بعيد وعميق داخل نفسه، لا علاقة له بالدراسة أو بسلوكنا ولا ذنب لنا فيه أو حيلة.

لاحظت من الصف الثاني الابتدائي، أن عبء تصحيح كل تلك الكراسات يوازي تنفيذ عقوبة حشوها بالإجابات، لذا كنت أكتب ما يكفي لملء صفحات قليلة، في بداية الكراسة ومنتصفها ونهايتها

لذا، نعم، لم أكن تلميذه المفضل. بل.. أحمد عبد الجواد (على اسم سي السيد، شخصية نجيب محفوظ الشهيرة).

 الأول في كل شهور السنة، المتفوق الرسمي، عبقري المستقبل، محبوب المدرسين، نموذجي كزاوية حادة تقيسها منقلة، كدائرة يرسمها برجل، عشيق ذاته، الذي كان يحضر كل يوم كأنه يخطط لغزوة طويلة ستنتهي به إلى دك حصون السحاب (رغم أن لحظة مجده اقتصرت على سنوات المدرسة الابتدائية، وقد رأيته بعدها في المدرسة الإعدادية، تائهًا كملك مخلوع، تلميذًا عاديًا بين ألف، لم يتبق منه شيء سوى سخافة ابتسامته، ووجه لا ينقصه سوى منقار إوزة، يا لشري، يا لطيبة وجهه التي أضاعها في محاكاة نبلاء لا ينتمي إليهم)

لذا كان ألفة الفصل ولم يكن يتهاون في مهامه عند غياب المدرسين، لقد كان امتدادا لهم يرفل في نعيم سلطتهم، ويؤدي كل حركة بحس من يعرف أن شيئا أرستقراطيًا موروثًا وقدريًا، يفصله عنا.

كانت ميس إيمان تجعلني ألفة الفصل في غيابها ولم تغضب لأني لم أكتب اسمًا واحدًا تحدث مع زميله أو مارس “شقاوة” لتعاقبه، كتهديد فارغ لم تمارسه أبدًا، بل ضحكت من الأمر بود لأنها وضعت “فرقع لوز” في مهمة كتلك. تسمية أطلقتها عن حب لا سخرية، لفرط ما قفزت فرحًا بقامتي القصيرة النحيلة في حضرتها كي أمنحها ما أرادت.. إجابة على كل أسئلتها، كمن يحاول طمأنة حيرتها. وكذا مراقبتها المغتبطة لانغماسي النشط في ألعاب الفسحة. وقد فكرت كثيرًا في بهجة تلك التسمية، وكم أحببت أكون من أجلها فرقع لوز، أفضل فرقع لوز في العالم.

أول مكرر

المصدر: أحمد الفخراني

لن أصف المزيد من مواقف الأستاذ ممدوح القاسية، ما الفائدة. مظاهر القسوة ليست في جوهرها إلا تكرارًا مبتذلًا لشيء تافه يدعو للضجر، لكني أتذكر أني خدعته مرتين.

الأولى عن عمد، والثانية دون قصد.

حيلتي الأثيرة التي صرت خبيرًا بها هي الإفلات من واجبات نصف السنة، التي كانت تجعل من الإجازة القصيرة أشغالًا شاقة، فقد لاحظت من الصف الثاني الابتدائي، أن عبء تصحيح كل تلك الكراسات يوازي تنفيذ عقوبة حشوها بالإجابات، لذا كنت أكتب ما يكفي لملء صفحات قليلة، في بداية الكراسة ومنتصفها ونهايتها، وقد أفلت بجريمتي وإجازة نصف السنة في كل مرة، لكن المخاطرة الكبرى كانت في أن ألعب اللعبة نفسها مع جزار مختلف، أكثر يقظة وتمرسًا وانتباهًا لأقل هفوة، حتى خبرتي لم تحمني من الرعب، لكنها “خالت” عليه، وأنقذتني من مهرجان التعذيب الذي أقامه ذلك الجلاد النشط احتفالًا بكراسات ملونة لم تُحش بالواجب. لا أنسى متعتي حينها، حين أدركت أن خداع كل وحش هو شيء على عكس الحب المستحيل، أمر ممكن.

أما الثانية. عندما ظهرت نتيجة التيرم الأول بعد بدء الترم الثاني بقليل، كنت الأول على المدرسة، بنفس درجات أحمد عبد الجواد، ولقد فوجئت قبل الجميع بالنتيجة.

كنت سعيدًا ومرتبكًا.

ترجم أبي صراعه بين الإيمان والشك إلى ضغط شديد استمر إلى الثانوية العامة، تحول فيه كل صيف إلى كابوس

لم أبذل شيئًا مختلفًا كي أكون الأول على المدرسة، لم أسع لهذا، ذاكرت فقط، ولم أخرج من أي امتحان بشعور أني أجيب كطالب تزعجه غياب نصف درجة، كل ما أردته حقا هو اللعب، حتى المذاكرة حولتها إلى سلسلة من الألعاب، فصارت ممتعة، سري الذي لم يفهمه أحد -سوى ميس إيمان ربما-، وهو أمر يشترط التوقيت والمزاج المناسبين للتخيل، وإرادة الاختيار.

ما تعجبت له هو رد فعل أستاذ ممدوح، بعد ظهور النتيجة، ليقول أمام الفصل كله موجها كلامه إلي.. 

“اللي غش السنة دي مش هيغش السنة الجاية”، ثم قرر أن يكون عبد الجواد هو الأول، وأصر أن ألقب بالأول مكرر، الإصرار الذي انتقل إلى الجميع ثم اتخذ شيئًا فشيئًا نبرة المعايرة، التلاميذ والتلميذات اللذين تبنوا التفرقة بحماس، أحمد عبد الجواد الذي ازداد انتفاخًا ولؤمًا تجاهي، لكنه رغب فيما هو أكثر، أن يحول معنى الأول مكرر إلى الثاني، لأن الأول بالنسبة له مكانًا لا يقبل المشاركة. المدرسون اللذين حدثهم أستاذ ممدوح عن نظريته عن عدم استحقاقي، فصار كل تعثر في إجابة عن سؤال -وقد أمطرت من حينها بالأسئلة في كل حصة- يثبت فكرته، ومثله لم يحاولوا إخفاء اتهامهم، فتحولت كل حصة إلى محاكمة مستمرة.

مدرس الحساب والعلوم الذي لم تتغير معاملته، بل ازدادت سوءً وترصدًا، لم يكتف بما فعله، بل زرع الشك في أبي أيضا.. أني طالب متذبذب المستوى يحتاج إلى الضغط، لأن التفسير الثاني لتفوقي بعد الغش هو درس المنقلة الذي كاد أن يهشم فيه يدي. دفعت ثمن تأويلاته لسنوات تالية.

قرر أبي منذ تلك اللحظة التي علم فيها بالنتيجة، أن يجعل مني مشروعه الخاص، نسخة تفوق نموذجية كأحمد عبد الجواد، أو قريبًا لي أو أي خراء آخر، مدفوعًا في ذلك بإيمان أن الأمر ممكن، فقد سبق لي تحقيقه، وبالشك الذي زرعه فيه أستاذ ممدوح. ترجم صراعه بين الإيمان والشك إلى ضغط شديد استمر إلى الثانوية العامة، تحول فيه كل صيف إلى كابوس، صراخ وشجار مازال له أثر لسعات حريق في روحي، لأني يجب أن أذاكر خلال فترة الإجازة.

رغم كل الضغوط، قاومت بكل الطرق عبر ابتكار الحيل. لم أذاكر حرفًا في أي صيف وإن أقنعته بذلك بينما أختلس اللعب الذي لوث منذ تلك اللحظة بالشعور بالذنب، والقراءة التي وجدت فيها مهربًا، إشارات لعالم أرحب خارج تلك السياج التافهة التي حوصرت داخلها (حصلت، دون قصد، في الثانوية العامة على مجموع كلية الصيدلة، ولم أعمل بالمهنة سوى عام واحد، كان كافيا لأتأكد من رثاثة تلك السياج).

أتذكر اقتحام المدير للفصل، بوجه محقق في جريمة، ساقني كمذنب كي يناقشني في مسألة غشي بمكتبه، لم يمهلني حتى هبوط السلالم، عندما استدار إليّ وصفعني بغضب، نعتني بالحيوان، ثم أعادني إلى الفصل..

لا ألومه، هكذا الآباء يرتكبون الأخطاء بسذاجة كل قلب حسن النية، الآن أفهم كأب، بانتباه أكبر ربما، أي مزالق تنتظرنا خلف حسن النية.

بعد سنوات طويلة عاد ابني مازن من المدرسة التي حرصت أن تكون أفضل من مدرستي، وكان حينها في KG2، وقد رسم صورة لخنجر ويد تسيل منها الدماء، فهمت ما حدث، وعندما صعّدنا الشكوى، عوملنا كمتهمين من أصغر مدرس إلى مدير المدرسة، قررت مع زوجتي أن يغادرها فورًا، وأن نبدأ خطة للتعليم البديل،لم تكن الفكرة ساعتها مدروسة بشكل عميق، ربما ليست هي أفضل الطرق، لكن لم نرغب أن نرى طفلنا وهو في الخامسة يرسم أشلاءً، بعد فترة رأينا أن طفلنا صار أكثر سعادة وشطارة وحظى بساعات أطول للعب والتعليم والصداقة دون ضغوط مريعة، لا يهمني شيئًا آخر، ولا أعقد أي مقارنة. ولا أرى نفسي أبًا أفضل، فخلف كل محاولة خطأ ما، كل ما حدث هو أني صرت أكثر انتباهًا للمحاولة، معذبًا أكثر بكل خطأ.

أول مكرر

مازن في مدرسته والتعليم عبر اللعب .. المصدر: أحمد الفخراني

عندما أعلنت المدرسة عن حفل تكريم لأصحاب المراكز الأولى، سيقوم فيه التلاميذ بأداء استعراضات، انضممت لهم، لأني شككت فعلًا في استحقاقي لما لم أطلبه، مقتنعًا أن مكاني هو أن أحتفي بالمكرمين، لا أن يحتفي بي.

تراجعت في اللحظة الأخيرة، إثباتا لحقي من جهة، ولأني نفرت من الاستعراض الذي كان علي فيه أن أكرر حركات عشرات التلاميذ، ذائبًا وسط جمع، دون نظرة ميس إيمان لتنتشلني.

أما ذروة نجاح الأستاذ ممدوح في افساد فرحة حصولي على المركز الأول (مكرر) فقد حدثت عندما أقنع مدير المدرسة بنظريته، أتذكر اقتحام المدير للفصل، بوجه محقق في جريمة، ساقني كمذنب كي يناقشني في مسألة غشي بمكتبه، لم يمهلني حتى هبوط السلالم، عندما استدار إلى وصفعني بغضب، نعتني بالحيوان، ثم أعادني إلى الفصل، بوجه محمر متورم، يد غليظة لوحش ابتلع ذات يوم خنصر مبتور لوحش أقل قوة.

إخبار الآباء. ما الفائدة. 

سألتني أمي بعد عودتي من المدرسة عما أصاب وجهي، حكيت لها بلسان كومت على طرفه كل استغاثة مكتومة، قالت.. “لابد أنك أخطأت في شيء”

لا ألومها، فقد كان ذلك أفضل ما بوسعها فهمه، إلا أني لم أعرف حينها ذلك الشيء الذي أخطأت به، لكني أتذكر أني أخيرًا، بكيت.

أو لم أفعل، ربما.