fbpx

تمثال رجل عادي

لا تستغرب إن لم تعرف شخصية صاحب هذا التمثال النصفي.. فأغلب التونسيين لا يعرفونه أيضاً.
18 ديسمبر 2020

مئات الناس يعبرون المكان كل يوم.. باعة الأرصفة وأصحاب عربات المروّب والعياري (أكلة تونسية شعبية) تعودوا منذ سنوات على هذه المكان. منطقة ما بين زمنين وحالتين، بين أمس كانت فيه ملامح العمارة الأوروبية محافظة على رونقها وسفارة دولة إيطاليا تتخذ من أحد المباني الجميلة في هذا المكان مقرا لها، قبل أن تغيّره، ومحطة تونس للقطارات المفتوحة على ساحة برشلونة الشهيرة سابقاً بحديقتها كما تظهر صور الأرشيف القديمة..كل هذا الجمال تبخر وصار أشبه بحكايات الأولين، أما الآن وهنا، فلم يعد يوجد سوى الفوضى والمعركة التي قد تندلع فجأة بين باعة الأرصفة وعناصر الشرطة.

تغير المكان وما حوله وذلك التمثال ثابت في مكانه في ساحة صغيرة تفصل ما بين المقر القديم لسفارة إيطاليا ومحطة القطارات بتونس العاصمة. لم يجرفه تيار التغيير ولم تحركه تقلبات السياسة كما فعلت ببعض تماثيل الحبيب بورقيبة (1903-2000)، وأشهرها تمثال “الزعيم” ممتطياً الحصان.

ففي العام 1982 نُصب تمثال الحبيب بورقيبة في وسط العاصمة، ويبدو فيه أول رئيس للجمهورية على صهوة جواده يلوح بيده اليمنى للشعب، تخليداً لذكرى عودته من المنفى بعد مفاوضاتٍ مهّدت لاستقلال البلاد عن فرنسا. لكن التمثال نُقل (أو نُفي) بعد أربعة أيام من انقلاب زين العابدين بن علي في 7 نوفمبر  1987، فاحتل موقعاً هامشياً في ضاحية حلق الوادي. وبقي بورقيبة وحصانه منفيان هناك لـ 29 عاماً، إلى أن سقط نظام بن علي وقررت الحكومة إعادته إلى مكانه الأصلي في شارع 14 جانفي الذي كان يسمى سابقاً شارع الحبيب بورقيبة.

تمثال رجل عادي

تمثال بورقيبة في تونس العاصمة. المصدر: ويكيميديا.

قد تكون أحد العابرين اليوميين على المكان ولم تعرف عمّن أتحدث. وسوف يتبادر لذهنك تمثال العلامة ابن خلدون وهو مؤسس علم الاجتماع والعمران البشري، والذي خُلِّدَت ذكراه بأن نُحِت له تمثال ضخم بواسطة النحّات التونسي زبير التركي، الذي كشف بعد سنوات من ذلك أن ملامح وجه ابن خلدون في حقيقة الأمر هي ملامح وجهه هو. وكان التمثال مكان احتجاج  المثقفين قبل الثورة وبعدها لما يحمله من رمزية ثقافية في تونس. 

إن التمثال الذي أتحدث عنه ليس أحد التماثيل ذائعة الصيت بل هو تمثال المنجي بالي رائد الحركة الكشفية ومنه أخذت الساحة الخضراء اسمها: ساحة المنجي بالي. لا تستغرب إن لم تعرف الشخصية. فأغلب التونسيين لا يعرفونه وهذا الأمر بديهي ربما. المنجي بالي لم يكن شخصية بارزة في الحركة الوطنية التونسية وفي التاريخ عموماً. 

تمثال رجل عادي

ساحة المنجي بالي. المصدر: Google Earth

من هو المنجي بالي؟

تذكر مراجع تؤرخ للحركة الوطنية التونسية أن المنجي بالي كان مناضلاً وطنياً يقوم بطباعة وتوزيع مناشير الحزب الدستوري في سريةٍ تحت غطاء نشاطه الكشفي، وأنه من روّاد الحركة الكشفية التونسية، وقد كان عضواً في الكشافة الفرنسية قبل أن ينضم إلى جمعية الكشّاف المسلم.

تأسست الكشافة التونسية ما قبل الاستقلال عن الاحتلال الفرنسي، وتعتبر أغلب المصادر أن الكشافة في تونس بدأت سنة 1924 أمّا أول جمعية كشفية تونسية فهي الكشاف المسلم التونسي سنة 1933. ثم تلتها جمعيات كشفية أخرى على غرار “الخضراء” و”الهلال الكشفي” ثم توحّدت جميعاً سنة 1956 تحت مسمى الكشافة التونسية. وقد لعبت دورا مهماً في تأطير الشباب التونسي واستقطابه للحركة الوطنية في فترة النضال الوطني ضد الاستعمار الفرنسي ولعب بعض عناصرها أدوار نضالية على غرار المنجي بالي. 

أما عن سر نحت تمثال خاص به، فيحكى أنه كان تكريماً له ولِذكراه، فقد غادر الحياة مبكراً في سن الثالثة والعشرين. ولما تركه من أثر وسيرة طيبة في نفوس رفاقه قررت بلدية تونس العاصمة بعد الإستقلال نحت تمثال له كأحد رواد الحركة الكشفية الوطنية. 

وجه بلا ملامح

التمثال هو عبارة عن منحوتة نصفية للمنجي بالي بزيه الكشفي وبملاح وجه غير واضحة.. كأنها ممسوحة عمداً، فهناك حرص على تفاصيل الملابس والشارة الكشفية أكثر من محاولة إبراز ملامح الوجه. وقد نُصِّب على سطح رخامي بعلو ثلاثة أمتار تقريباً.

ومنذ عام 1962 أي نصف قرن تقريباً يتوسط هذا التمثال ساحةً تحمل أيضاً اسم المنجي بالي، تقع بين شارع جمال عبد الناصر ونهج المحطة. وقد تغيّرت تفاصيل المكان حولها وأهميته داخل المدينة، فلم يعد رواد الساحة ذاتهم وتبدّل دورها إلى فضاء لاقتصاد الهامش

تمثال رجل عادي

المصدر: ويكيميديا

أحمل شخصياً ذكريات متضاربة مع التمثال. كأن أزوره آخر الليل مع الرفاق، بعد أن تغلق آخر حانات المدينة وتكاد الشمس أن تبزغ لنأكل كسكروت عيّاري حار جداً (أكلة شعبية مكونة من الخبز والهريسة والبيض). عملاً بأسطورة أن الأكل الحار يجنبك الصداع الناجم عن الثمالة صباح اليوم التالي. ويكون وقتها تمثال المنجي بالي شاهداً على حلبة منافسة “من يلتهم أكثر عدد من العْضَم المروّب” (البيض السائل صفاره) وهي من عادات السكّيرين، ومن تعاليم حياة الليل والصعلكة بتونس. 

ولا أنسى طبعاً ذكريات الحب والفراق التي أُُحَدّث بها التمثال. حيث كنت أعبر من أمامه مع حبيبة قديمة، كانت تسكن أحد الأحياء القريبة. أو حين قرأت عليها ما كنت أعتقد أنه قصيدة وقتها، فصرت أرسم ملامحها على وجه التمثال المسكين وحولته لمجرد علامة نلتقي عندها أو ينتهي بها اللقاء. 

تمثال رائد الحركة الكشفية قد يكون الملاك الحارس أيضا لتجار العملة والمتلاعبين بأسعار سوق الصرف الرسمية، فكلما تعطلت أحوالهم نتيجة تضييقات البوليس بشارع الجزائر يستجِيرون بهذه الساحة ويستعملون التمثال كمحدد للمكان، لأن الساحة ببساطة ليست ظاهرة جداً للفت نظر البوليس أو المتطفلين وليست بعيدة ومنزوِية لتُخيف الزبائن.

وهكذا هو تمثال المنجي بالي في منزلة بين منزلتين، لا هو شخصية معروفة جداً، ولا نكرة لم يساهم في أثر ما.. لا هو شخصية غامضة لا نعرف عنها شيئاً ولا هو شخصية تجد عنها الكثير من المعلومات لو حاولت البحث. 

عندما جاءت الثورة

لم يكن الشارع الرئيسي للعاصمة تونس، حيث دارت مواجهات المتظاهرين والشرطة، يبعد كثيراً عن ساحة تمثال المنجي بالي. كانت مهمة فيالق رجال الشرطة وخاصة فرق مكافحة الشغب وفرض النظام، بلباسها الأسود وعنفها المفرط تجاه المنتفضين، تحاول السيطرة على الشارع الرئيسي الذي تتربع فيه وزارة الداخلية بثقلها الرهيب ووقعها المخيف على قلوب التونسيين.

فكانت الساحات الجانبية لشارع سبعة نوفمبر (هذه تسميته قبل سقوط نظام بن علي) هي مراكز التجمع والتخطيط البعيدة نسبياً عن أعين النظام والقريبة من مواقع الاحتجاج. وكان الشباب المتظاهر يجعل من الساحة مكاناً لاستراحة المحارب، وكان طلبة الجامعات القريبة من وسط العاصمة يتدفقون عليها من شوارع ثانوية لكي لا يتمكن رجال البوليس من محاصرتهم ومن بين هؤلاء كان طلبة كلية تسعة أفريل للعلوم الإنسانية والإجتماعية.

حدثني صديقي بلال، الذي كان ناشطاً يسارياً في الإتحاد العام لطلبة تونس، أن الساحة كانت بمثابة غرفة التخطيط وكراسيها الخشبية الخضراء المتهالكة فسحة الراحة أو الأمل، وملاذاً للهروب من رجل بوليس كان قد لاحقك لكنه تراجع حين وصل الساحة المكتظة بالمحتجين. 

تمثال رجل عادي

الساحة كما تظهر من الأعلى. المصدر: Google Earth

ربما حركت هذه الأحداث فيما بعد سواكن التماثيل الحيّة الجاثمة فوق قلوب التونسيين، منذ صعودها على كراسي الحكم، لكن تمثال المنجي بالي في مكانه وسط الساحة التي تحمل اسمه، بقي رغم تغير الوقائع وجريان مياه كثيرة في هذا البلد “ذي الموقع الاستراتيجي والطقس المعتدل” كما علمونا في كتب الجغرافيا ونحن صغار. 

مناضل.. بالحدود الممكنة 

المنجي بالي كان شخصية ناضلت بالحدود الممكنة، وزّع وطبع البيانات وانخرط في الحياة الكشفية وكان وفياً لأصدقائه وزملائه، فحرصوا على تخليده من خلال تمثال يزاحم تماثِيل الزعيم الكثيرة ويكسر أسطورة ضرورة القيام بأعمال استثنائية وخارقة للعادة من أجل أن تنصب لك التماثيل أو تكون دكتاتوراً متجبراً.

إنه يشبه الكثير من التونسيين في تلك الفترة، لهذا ربما كنت معجباً بهذا التمثال قليل التبجح في وطنٍ فيه تماثيل الزعيم المهيب على صهوة جواده في قلب الشارع الكبير بالعاصمة، أو مع كلبه، في المدينة التي ولدت وعشت فيها معظم شبابي (طبرقة).

لهذا لم يهتم الكثيرون بتغير الشخوص والأحداث حول التمثال، فلو كان زعيماً سياسياً من الصف الأول وتجمّع حوله الباعة المتجولون، لرأينا حملات تطالب بردّ هيبة المكان ليفعل الزعيم فعله حتى بعد موته ويُحرّم على باعة العربات رزقهم كما فعلت سياسته الإقتصادية الرشيدة وهو يحكم. لكن تمثال رجل الكشافة النبيل يحتويهم دون أي مشكلة فلا أحد يهتم.  

لا أحد يريد إقلاق راحته وتحويل الساحة أيضا لمكان للاحتجاج، فلا رمزية كبرى قد تستغل، ولا هو مزار مشهور للعشاق. هو موجود هنا بسلام وسكينة. رغم تحرك وتغير العالم من حوله طيلة أكثر من نصف قرن منذ تنصيبه.