fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

جمال.. يسير مع الجميع وخطوته وحده

نصوص قصيرة تُحاول رسم صورة لجمال بن سماعين الملياني، حتى نتذكره ونذكُر عبوره بيننا، ربما لا يتكرّر ما حصل له مع آخرين.. أبدًا.
ــــــــ المـكـان
23 أغسطس 2021

تعيش الجزائر منذ أيام على وقع جريمة قتل الشاب جمال بن سماعين وحرق جثته بمدينة الأربعاء ناث إيراثن بمنطقة القبائل (100 كلم شرق العاصمة)، يوم 11 أغسطس الماضي. جمال شاب من مدينة مليانة (120 كلم جنوب غرب العاصمة)، تنقّل، مع مئات الجزائريين، إلى منطقة القبائل للمساعدة في إخماد حرائق الغابات التي أهلكت آلاف الهكتارات وعشرات البيوت وتوفي فيها أزيد من 160 مدني وعسكري.

صرّحت الحكومة أن النيران التي تشتعل في الجزائر هي فعل إجرامي، وكذلك فعلت حركة الـ “ماك” التي تدعو، من الخارج، لانفصال منطقة القبائل؛ ووسط هذا الجوّ المؤامراتي اشتبه سكان محليون في أن الشاب جاء ليُشعل النار -بدل إطفائها- فحاصروه وضربوه لتأتي شاحنة الشرطة ويُسلّم جمال نفسه، متأكدًا من براءته. كان هذا في القرى الجبلية حيث كانت النار تأكل الأخضر واليابس.

نزلت شاحنة الشرطة بصعوبة إلى مدينة الأربعاء ناث إيراثن، وتبتعها الجموع حتى ساحة مقر الأمن وهناك تهجّم الحشد على الشاحنة، كان عدد رجال الشرطة قليلًا جدًا، حاولوا دفع المتهجّمين ولكنهم لم يُفلحوا فانسحبوا وتركوا جمال يواجه مصيره.

من الصعب تحديد تواريخ في حياة جمال، نعرف تاريخ وفاته وتاريخ ميلاده.. 23 فبراير 1986 – 11 أغسطس 2021، عمره 36 سنة، نعرف من شهادة أصحابه أن وفاة أخيه مقتولًا عام 2013 أثّرت فيه. نعرف أيضا تعلّق جمال بالحراك الشعبي، كان تاريخ 22 فبراير 2019 مهمًا عند جمال بن سماعين، نراه في الصور يسير بين الناس أو جالسًا ليدخن، يربط على كتفيه العلم الجزائري والكوفية الفلسطينية أو يقفُ في ساحة أودان رافعًا صورة ابن مدينته، شهيد معركة الجزائر.. علي لا بوانت.

نراه في فيديوهات منزلية يغني بالغيتار نصوصا هو كتبها، ونسمعه في فيديو نادر سجّله معه صحفي وسط مسيرة للطلبة، في بدايات الحراك، يقترح تنظيم مسيرة صامتة ترحمًا على أرواح الشهداء.. كل شهداء البلاد، من شهداء الثورة الأولى إلى ضحايا الحرب الأهلية فضحايا الهجرة غير النظامية أو كما سمّاهم “خاوتنا اللي ماتوا في البحر”.. كان جمال يعرف جراح بلاده، ويعرف مقابرها الكبرى (هو الذي تربى على بُعد أمتار من مقبرة شهداء مدينة مليانة) كان جمال يعرف، ربما، أن الجزائر بلد يهرب من الحِداد.

هنا نصوص قصيرة تُحاول رسم صورة لـ جمال بن سماعين الملياني، حتى نتذكره ونذكُر عبوره بيننا وحتى لا يتكرّر ما حصل له مع آخرين.. أبدًا.

جمال.. يسير مع الجميع وخطوته وحده

مصدر الصورة الأولى: فيس بوك. مصدر الصورة الثانية: أصدقاء جمال.

حاضر بيننا كملاك

ياسمين لعريب/ طبيبة

حتى قبل أن تتوضح قضية مقتل وحرق شاب في مدينة الأربعاء ناث إيراثن بمنطقة القبائل، بدأت صور وفيديوهات الشاب جمال بن سماعين في الانتشار، بالتوازي مع انتشار فيديوهات وصور الجريمة. لا يمكننا القول أن جمال شاب مشهور، وحسب ما رأيت لم يكن ساكنًا دائما لمواقع التواصل الاجتماعي. ما عدا حسابه على تيك توك، فبقية الحسابات منحصرة على الأصدقاء. لم يكن جمال “صانع محتوى”.. لكنه ظهر في كل المحتويات.

كل يوم تظهر صورة جديدة للشاب. في مسيرة للحراك، يجلس وحده أو برفقة جماعة جاؤوا من مدينة غرداية (608 كلم جنوب العاصمة)، بزيّهم التقليدي، لكنه وحده أيضًا.. يسير مع الجميع وخطوته وحده. يُعيد رسم زهور لوز فان غوغ، يؤلّف مقاطع موسيقية بأربع نوتات أو خمس على الغيتار، تشهدُ الممثلة سهيلة معلّم على أنها التقته أثناء اختيار ممثلي مسلسل “عاشور العاشر” وأنه أخبرها برغبته في التمثيل.. لكن “لم يحصل المكتوب” كما تقول الممثلة. عشرة أيام بعد موته ينشر أحدهم صورة للصفحة الأولى لجريدة “الشروق” بتاريخ 21 أبريل 2019 فنرى صورة جمال وسط مسيرة للحراك الشعبي..

فجأة نكتشفُ أن جمال كان هنا طيلة الوقت، حاضر بيننا دون ضجيج، دون أن يُحاول إثارة الانتباه، كان دائمًا في المكان الذي يقع تحت ضوء العدسة أو الذكرى التي تبقى. وهذا أقسى ما في هذه الحكاية، قسوة مضاعفة، أولا لأن جمال كان يُمكن أن يكون أي أحد منّا.. مواطن عادي يسير مع الجميع وخطوته وحده، وثانيًا لأن جمال ورغم كل أدلة براءته وشهادات النّاس فيه ولم ينجُ، فما بالك لو كانت الضحية شخصًا مجهولًا لم تلتقطه عدسة أو ذكرى؟

نوم مستحيل

بهاء الدين صحراوي/ صحفي

مانيش نرقد الليل” عبارة ظلت تتردد طيلة الأيام الأربعة التي تلت مقتل الشاب جمال، عبارة تحمل في داخلها الأرق والتشبث بشاشات الهاتف بحثًا عن كل جديد متعلق بالقضية، جديد يحمل في طياته كل أشكال العنف النفسي على الجزائريين المتألمين من القضية، الشاعرين بالخذلان وبنفس قتلة جمال يطلون عليهم من هواتفهم في اليوم التالي مبرئين أنفسهم بشكل استفزازي.

في نفس الوقت هذا الألم وُزِّعَ على شكل دفعات، دفعات كانت تصلنا كفيديوهات تصور الحادثة.. ضرب جمال،حرق الجثة، سحلها، التجمع حول شاحنة الشرطة.. والأخير والذي كان الأكثر إيلامًا بينها، وهو فيديو جمال من داخل صندوق الشاحنة وهو يتحدث مع القتلة، محاولا إفهامهم أن لا علاقة له بما حدث وأن أهل المنطقة “رجال” لا يقومون بأفعال مماثلة.

رغم أن الفيديو لم يحمل نفس العنف والأذى الجسدي الذي شاهدناه في فيديوهات أخرى، لكن في هذا المقطع شاهدنا جمال يتحدث، يعبر عن نفسه ويدافع عن موقفه بشجاعة وشهامة. عرفنا حالة جمال الإنسانية قبل أن يقتل، وهذا ما كان غائبًا عن كل المقاطع التي لم نسمع فيها جمال يتكلم.

ماسمعتوليش” كانت كلمة في وجه من صم الجهل ٱذانهم، وفي وجهنا أيضًا، لتجعلنا نرابط تلك الليلة عند الهواتف مكررين الكلمة في وجه أنفسنا، في وجه الأمن ليتحرك، في وجه العنصرية والعنف. خذلان جمال من طرف قتلته انتقل إلى جميع من شاهد المقطع في شكل غضب واحتقار.

لا أحد يعلم مدى الأذى النفسي، على المدى الطويل، الذي سينجر عن الحادثة، لكننا نعرف من خلال الفيسبوك ومحادثتنا مع معارفنا عن حجم الأذى الحالي، الذي وصل في حالة بإمرأة أن تجهض بشكل فوري من بشاعة مشهد الذبح.

لم يكف هؤلاء الذين تحوّلوا في لحظة إلى وحوش أن يحدثوا ذلك الفعل البشع بجمال، بل تجاوزوه، إلى أن يصوروا كل ثانية من الحادثة، بكاميرات عديدة ومن زوايا مختلفة. في فعل ربما لا يفسر إلا بدرجة اللاخوف من العقاب التي كانوا فيها. وكان ذلك ذبحًا وحرقًا لكل الجزائريين الذين صدموا بتلك المشاهد المفجعة، فلم يقف أثر المشاهد على الناس الذين حضروا تلك المحرقة ولم يشاركوا إلا بتشويه نفوسهم بمشهد لن يفارق عقولهم بل تجاوزه إلينا في بيوتنا ولن يفارقنا أبدًا.

الوحوش

نهلة جابي/ محامية

قال حد المتهمين أنه ليس “تاع مشاكل”. المشكل أنني أصدقه، هؤلاء الناس -أغلبهم على الأقل- كانوا حتى ليلة الجريمة يعيشون حياة طبيعية لا تزعزعها سوى الحرائق التي مسّت منطقتهم، ثم قرّروا في لحظة قتل وحرق إنسان وتصوير كل ذلك على مرأى ومسمع الجميع.

هؤلاء ليسوا وحوشًا، كان يُمكن أن يكونوا جيراننا، أبناء حيّنا. هناك ضرورة لنقاش مجتمعي واسع وعلينا، اليوم وأكثر من أي يوم مضى، ألاّ نُغمض أعيننا. على القضاء أن يُحاسب المجرمين، لكن علينا أن نفهم، كمجتمع، أننا نعاني مشاكلًا كبيرة؛ عنصرية، وتعنّت، وعنف وكره للآخر، وعدم ثقة في الدولة والقانون. لن تختفي هذه المشاكل بمجرد نكران وجودها، بل أن استمرار وجودها هو ما سيُحوّلنا إلى وحوش تأكل بعضها البعض.

جمال

راضية عشي/ صحفية

قرأت الكثير مما كتب حول مقتل جمال بن سماعين، شاهدت فيديوهاته الموثقة لقبل الحادثة المروعة التي ينشرها الأصدقاء والأقارب. ثمة الكثير من المقاطع والنصوص المؤثرة، لكن أكثر ما ظل عالقا في ذهني هو اسمه.. جمال ذاته. جمال تحديدًا، بكل سذاجة أصدق أن لنا نصيب من أسمائنا وهذا ما كان، فلا شيء كُتب أو قِيل أو نُشر يفوق جمالَ جمالْ.

أحاول أن لا أتساءل لماذا يغادرنا كل هذا الجمال سريعًا، أو حتى لماذا لم ننتبه لجماله من قبل، أحاول كثيرًا ألا أستغرق في معرفة ما لن أعرفه، لأنني ممن لم يعرفوه قبل مقتله قط، ليس لدي صورة معه ولا ذكرى.. وأمام كل هذا لن أنكر أن قدرًا ما اختار أن يخلد ذكراه بداخلي للأبد.

الذُّهان الفاشي

عمر دريوش/ صحفي

كلما كان الحدث بعيدًا، يزداد الخطر. لايتفاعل الكثير منّا مع الأفكار المجرّدة، بل وقلة قليلة فقط من يكون لها رد عاطفي على التجريدات، فنحن نرتبط عادة بالتجربة المباشرة فقط. قد نشعر بصدمة نفسية إذا رأينا مباشرة شخصًا يتعرض للطعن والحرق حتى الموت، ولكن يمكننا مشاهدة الصور في الأخبار لبلد يقصف ثم نغير القناة عند بداية برنامجنا المفضل، أو أن نرى خبر قتل وحرق مشتبه فيه بإضرام النار في الغابات ومعه عشرات آلاف التعليقات التي تطالب بقتله وحرقه، وقد لا نشعر بالخطر حتى يختفي التجريد، وتظهر لنا صور الشاب البريء وهو يغني ويرسم ويناضل من أجل الحياة بعد أن فجعنا برؤيته يُحرق في مقاطع حية على فيس بوك.

مقتل جمال جريمة بشعة لم نشهد مثيلًا لها من قبل، وسواء كان مخططًا لها/تقف وراءها جهة ما أو لا، فإنه من غير المعقول حصر المشكلة في كيان مادي معزول جغرافيًا يكفي التخلص منه لحل المشكلة من جذرها، على الأقل إذا كان حلها هو المبتغى الرئيسي، والذي يدين لنا به جميعًا جمال وفكره ورسالته.

هذه المفارقة وحدها كافية للكشف عن حالة الذهان التي نعيشها جميعًا، شعبًا وسلطة. تَبرُز من خلال انفصالنا عن الواقع وإشكاليتنا في تحديد ما هو حقيقي وأخلاقي وما هو غير ذلك.

ذهانٌ يُبعدنا عن رؤية واقع حرائق الغابات -والأشخاص- بأعين علمية وتفكير منطقي، بل بالأوهام والمؤامرات بدل ذلك، ويجعل منا نسخة من صائدي الساحرات. علينا أن نعترف أن ما يعمينا هو الرجعية والانغلاق والعنصرية التي تغذيها المؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية التي خضعنا لها، الفاشية التي تسكننا وتجعلنا ندين الاعتداء بالمطالبة باعتداء مثله، وتدفعنا للإشارة بإصبعنا لحلول كل شيء ما عدا أنفسنا وخطاب الكراهية والروح الانتقامية التي تتجذر فينا.

إلى أن نتعلم نبذ العنف بجميع أشكاله، أجد صعوبة في رؤية أي ميزات يمكننا التكفير بها عن عار الجريمة الذي سيلاحقنا جميعًا. لا ينبغي أن ننظر إلى عالم خالٍ من العنف وكراهية النساء والعنصرية والقسوة وجميع أشكال الجنون والميول الاجتماعية الأخرى التي نعاني منها على أنه مثاليّ وطوباويّ ولكن على أنها قضية أساسية يجب السعي وراءها.

جمال.. يسير مع الجميع وخطوته وحده

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft