fbpx

كيف يرى جيلُ إكس جيلَ زد؟

سيكون جيل زد العمود الفقري لعالم الأعمال والثقافة بدءًا بالعام 2030 ويقود العالم بدءًا بعام 2040. إنه الجيل الذي علّم نفسه بنفسه، وسوف يعمل بنفسه لنفسه ويداوي نفسه بنفسه. لعلها حالة غير مسبوقة في التاريخ الإنساني؛ الآباء والأجداد يتعلّمون من الأبناء والأحفاد
ــــــــ البيتــــــــ تقدمـ العمـر
16 مايو 2023

يسموننا جيل إكس (مواليد ستينيات القرن العشرين). يمثل انهيار جدار برلين (1989) لحظة وعيٍ أو صدمةٍ بالنسبة لنا. نهاية عالم عرفناه جيدًا؛ تشكّلت فيه قيمنا وأفكارنا. وتشكّل عالمٌ جديد نحاول أن نفهمه ونستوعبه في سن متقدّمة (نسبيًا). ويسمّى الجيل الذي عرف نهاية عالمنا لكن معظم وعيه وتشكلاته كانت في العالم الجديد الذي بدأ يتبلور ويسود في التسعينات جيل واي، يليه جيل زد الذي نشأ محاطًا بشبكة الإنترنت كجزء بديهي من حياته مثل شبكة الكهرباء والماء. هم مواليد الألفية الثالثة. 

بدأ جيل زد يتخرج من الجامعات ويدخل سوق العمل والتأثير، سوف يكون العمود الفقري لعالم الأعمال والثقافة بدءًا بالعام 2030 ويقود العالم بدءًا بعام 2040. هكذا يمكن تقدير القيم والاتجاهات التي سوف تشكّل العالم أو تعيد تشكيله، لأنه جيل أنشأ مهاراته ومعارفه وقيمه مستقلًا عن الأجيال السابقة، إنه الجيل الذي علّم نفسه بنفسه، وسوف يعمل بنفسه لنفسه ويداوي نفسه بنفسه. لعلها حالة غير مسبوقة في التاريخ الإنساني؛ الآباء والأجداد يتعلّمون من الأبناء والأحفاد!

تحوّلت الأسر والمدارس والجامعات والمجتمعات والسلطات إلى شريك غير حاسم في تهيئة الأجيال والفاعلين الاجتماعيين. صارت “الشبكة” هي المجال الحاسم أو الراجح في تشكيل الأفراد والناشئة وبناء وعيهم ومهاراتهم وقيمهم على نحو يبدو لنا فوضويًا، أو مختلفًا إلى حد كبير عما ألفناه وتعودنا عليه باعتباره أصلًا بديهيًا، نحن ندين للمجتمعات والمؤسسات التعليمية والإرشادية والتنظيمية في وعينا ووجودنا، نعرف أنفسنا بانتمائنا إلى الجماعات والنقابات والتيارات والأفكار، نرى الفردانية ضريبة لا مفر منها للثورة الصناعية.

لكن جيل زد يدين لنفسه، كل فرد يرى نفسه عالمًا مستقلًا يشارك في صياغة العقد الاجتماعي وضمانه باعتباره فردًا أو ذاتًا فاعلة لا علاقة له بالأحزاب والنقابات والجماعات والتيارات سوى إطار يجمع كيانات وعوالم مستقلة غير منصهرة ببعضها، لكنها اتحادات أفراد مستقلين يرون أنفسهم على قدم المساواة في هذا الكون مع كل مكوناته الكبرى والصغرى على السواء. هو عندما ينشئ صفحته على فيسبوك أو تويتر أو إنستغرام يتساوى مع سي آي إيه وبي بي سي والحكومات والوزارات، جميعها لها صفحات ندّة لبعضها. عندما تخبرك الشبكة بالإشعارات والرسائل الجديدة التي وصلتك، تقول لك إن حفيدتك سارا وناشيونال غرافيك والبنتاغون وآدم (حارس عمارتك) أدرجوا صورًا أو مقالات جديدة على صفحاتهم! 

الفرق بين فردانية الثورة الصناعية وفردانية الثورة الشبكية مثل الفرق بين الآلة الكاتبة أو الدراجة الهوائية وبين الموبايل أو التابلت. في الحالة الأولى فردانية منبوذة ضئيلة، وفي الحالة الثانية فردانية مستقلة متكاملة مكتفية بذاتها، وفي تعبير قيمي؛ في الحالة الأولى؛ فردانية هي استثناء أو مشكلة لا مفر منها، وفي الثانية فردانية هي أصل أو فضيلة كبرى.

أحد الزملاء؛ نعمل ونجلس معًا نشرب القهوة وندخن، وفي نهاية الشهر عندما نقبض مكافآتنا نسهر معًا في مطعم أو مقهى. سألني  باعتباري كبيرًا في السن عرف حياةً لم يعرفها عن عادات ومظاهر في اللباس والطعام وأسلوب الحياة يراها في الأعمال الدرامية القديمة. كان يعتقد على سبيل المثال أن الرجال كانوا يجلسون في صالونات بيوتهم أو غرفهم يرتدون الروب مع البذلات وربطات العنق كما كان يشاهد في المسلسلات الدرامية. فوجئ عندما أخبرته أن ذلك لم يكن موجودًا في أسلوب الحياة، وأن ما شاهده في المسلسلات ليس سوى إشارة رمزية من المخرج لنفهم الانتقال في المشاهد بين العمل والبيت، في حين أنه جرى تصوير ذلك في ستوديو حضر إليه الممثل، ولم يشأ المخرج (ربما لأغراض السرعة والتوفير، أو هي مشيئة الممثل الذي يتصرف في الدراما كما أنها مسرح وليست عالمًا يجري إنشاؤه) أن يعيد بناء المشاهد آخذًا بالاعتبار الملابس الملائمة أو المفترضة. فوجئت أن زميلي ينظر إلى مرحلة الثمانينيات وما قبلها (ما قبل الفضائيات والإنترنت) أنها عالم موغل في القدم والغرابة؛ عرفت حينها أنه مواليد عام 2000.

ولد ابني علي عام 2003 وكان عمري 41 عامًا. أتاحت لي العلاقة بيننا ملاحظة الفروق والصراعات بين عالمين متجاورين يعيشان معًا، لكن تفصل بينهما مكونات اجتماعية واقتصادية مختلفة اختلافًا كبيرًا. لم نكن ندرك ونحن نعيش معًا أننا مختلفان في القيم والفلسفة والمبادئ والأفكار. حضرنا معًا فيلم أفاتار في السينما، وكان بالنسبة لنا (أنا وهدى) تجربة مثيرة لا تنسى، إذ كانت المرة الأولى التي نشاهد فيها فيلمًا بنظام ثري دي، أما هو وكان عمره خمس سنوات؛ فقد كان هادئًا يتلقى المشهد كأنه أمر عادي، وكأن السينما هي واقع، أو تحاكي الواقع لدرجة الانطباق. ظلت تلك اللحظة محطة دائمة أستند إليها في فهم هذا الجيل ومقارنته بجيلي. التحوّلات المدهشة لجيلنا هي بالنسبة لهذا الجيل عادية بديهية!

يمكن تلخيص الفروق بين الأجيال في استيعاب التحولات في هذه القصة الرمزية الواقعية. كان قلم الحبر “باركر” يمثل أيقونة جميلة، أهم وأجمل ما كنت أتمنى امتلاكه، لأني كنت أشاهده مع أخي محمود (مواليد عام 1939) الذي كان يعمل في التعليم (معلم ثم مدير مدرسة ثم مشرف تربوي) وتقاعد في عام 1989؛ العام الذي تفجر فيه وعي جيلنا في العالم، وفي الأردن أيضًا عندما استؤنفت الديمقراطية ودخلنا في مرحلة من التعددية والتنافسية السياسية والإعلامية على أنها عمل علني مشروع ولم تعد سرًا نُعتقل لأجله. 

كنت أحاول أن أكتب بقلم أخي في السرّ، لأنه لم يكن يسمح لأحد بلمسه أو الاقتراب منه، في حين كنت أستخدم أقلامًا بلا اسم أو بأسماء أراها تافهة، كان أول ما فعلته عندما بدأت أحصل على مواردي الخاصة من البعثة الدراسية المجزية (نسبيًا) أن اشتريت قلم حبر باركر بمائة دولار (نصف قيمة المنحة) وكاميرا “ياشيكا” بمائتي دولار، دخلت في أزمة مالية خانقة وطويلة، لكني كنت سعيدًا بالقلم والكاميرا، وبقيا معي سنوات طويلة.

تقاعد القلم إياه عام 2000 بعد عشرين عامًا من العمل المتواصل، صار تحفة مصمودة على أحد رفوف المكتبة، يقول عليّ لأصدقائه هذا من الأصنام التي يعبدها بابا! أما الكاميرا فقد ظلت محفوظة كتحفة مخبأة. بعد ثلاثين سنة طلبت أستاذة فن التصوير من ابني جهاد وابنتي سارا اللذين كانا يدرسان مادة التصوير في كلية الفنون والتصميم أن يحضرا كاميرا تقليدية لتعلم فنون التصوير. فأعطيتهما الكاميرا العزيزة. ضحكت الأستاذة كثيرًا، وتساءلت أين وجدتما هذه الكاميرا؟ صحيح أني أريد كاميرا تصوير لكن ليس مثل هذه التي لم تعد موجودة إلا في المتاحف! 

قلم الباركر الذي كان رمز المثقف والكاتب والمهني لجيل مازال الكثير منه على قيد الحياة، تقاعد من الحياة العملية وهو يعتقد أنه الفكرة المحورية للعالم المعاصر؛ هو بالنسبة لجيلي تجربة عشناها أول أربعين سنة من أعمارنا، ثم تخلينا عنها مع الاحترام والتقدير، وهو أيضا أيقونة قديمة أو “انتيكا” بالنسبة لجيل الألفية الثالثة (زد) هذه الأجيال التي تحمل تصورات وقيمًا مختلفة اختلافًا كبيرًا تعيش معًا في بيت واحد وتعمل معًا في مؤسسة واحدة! يا له من عالم لم نمنحه ما يستحق من الدهشة والصفير!

حصل عليّ على جائزة مالية مكافأة لقصة كتبها وكان عمره سبع سنوات، ذهبنا معًا إلى البنك لنصرف الشيك. قال لي لم أكن أعرف أن البنك مكان يعمل فيه بعض الناس، كنت أحسبه جهازًا أو برنامج كمبيوتر مثل أتاري أو إنبوكس، حتى مفاهيم مثل المال والنقود  والغنى والفقر تبدو مختلفة بيننا في دلالاتها وقياسها ومعناها، لم نتفق حتى اليوم وقد صار عمره عشرون سنة على معنى المال ونفاده وزيادته. الحال أن ذلك يبدو لي صعبًا مع بطاقة الائتمان!

في المقابل كان علي يشاركني متعة قراءة الصحيفة الورقية في الصباح الباكر، ويستمتع بتصفحها ومطالعة صورها وخاصة الرياضية منها، في أحيان يكتفي باحتضاني وأنا أقرأ الصحيفة، يطلب مني أن أبعد الموبايل وألا أردّ عليه، فقد كنت ومازلت مرتبطًا بالموبايل وأراه “المخلّص” من العزلة والفوبيا الاجتماعية، أما هو  فقد كان بالنسبة إليه عالمًا للعب والحوار والحديث مع أصدقائه في المدينة وحول العالم. ذات يوم وكان عمره عشر سنوات لاحظت أنه قلق ومهموم، ولما سألته قال لي إن أحد الأصدقاء الذي شاركهم اللعب يعيش في دمشق وحدثه عن القصف والحرب والآلام التي يعيشها السوريون. في الصباح الباكر كان أول ما فعله معاودة الاتصال بصديقه (الذي لم يلتقه بالطبع) والاطمئنان عليه. 

فاجأني يومًا وكان عمره ثماني سنوات أن علاقته بالصحيفة اليومية تتجاوز الصور، لكنه يقرأها ويتابع الأخبار والقضايا باهتمام ومعرفة جيدة، وأنه يتابع البحث في “غوغل” لمزيد من المعرفة أو للحصول بنفسه على إجابات للأسئلة. قلت له في تلك الفترة إن صديقًا لي اسمه منار، قلت له إنه رجل وليس فتاة (لأن بنت عمه اسمها منار) سيحضر إلى البيت فتعطيه هذا الكتاب. قال لي أعرفه، إنه الأصلع الذي يكتب في الصحيفة، لم يكن يعرفنا (أنا ومنار) زملاؤنا في طابق الإدارة في الصحيفة، عندما كنا نراجع مكاتب الإدارة في شؤوننا لم يحدث أن أحدًا من العاملين في الشؤون المالية أو الموارد البشرية أو التوزيع أو التأمين يعرفنا فضلًا عن أن يقرأ لنا. 

قبل ذلك كنت أشعر بالقلق والخوف تجاه الأفكار والمعارف والمهارات التي ينشئها عليّ من خلال الإنترنت، فقد كان يتحدث عن عالم الشبكة وألعابها كأنها أمر واقع، يحدثني عن الأشخاص  والمدن والأعمال التي يقوم بها كأنها مشارك فعلي فيها، يراها عالمًا واقعيًا. كان مثله الأعلى في عالم ما ليس إنترنت عامل النظافة، كان معجبًا بقدراته وقوته، كيف يركض وراء شاحنة البلدية أو يقفز منها، أما شخصيته المفضلة في الشبكة فهو القاتل المحترف الذي يدمر الأهداف والأعداء ولا يقدر عليه أحد. لكنه تخلى عن ذلك كله واندمج في أحداث الربيع العربي والحروب والصراعات، وحوّل كل مكان في البيت إلى ساحات تضاهي المظاهرات والحروب والمواجهات وملأ البيت بنماذج الجنود والمتظاهرين والسيارات والمدرعات، ثم أرهقه ذلك وأصابه بإحباط. قال يومًا: أمنيتي في الحياة أن أتخلص من التأتأة وأن تنتهي الحروب من العالم. 

كنت أظن أننا صديقان نفهم بعضنا حتى سألني ذات يوم ما “الجلوة”؟ قلت له عندما يقتل شخص شخصا آخر يجري إجلاء أقاربه من مكان إقامتهم إلى مكان آخر. نظر إلي مصدومًا وقال أنت عجلوني غريب الأطوار! هو لا يعرف إلا عددًا قليلًا من أقاربه، وعالمه الذي يدور فيه هو الأصدقاء وليس الأقارب. كيف يشاركهم مسؤولية فعل لا يعرف عنه شيئًا، هو لا يعرفهم ابتداء. لسان حالي: هذا الجيل يحسب عالم الأصدقاء و “الشبكة” واقعًا، ولا يفهم ثقل المجتمع ومؤسساته وتقاليده وعمقها وحضورها في الحياة. لسان حاله: ما زال بابا وهو يعيش في المدينة يحسب نفسه يعيش في عالم يمكن تغييره والانتقال منه بحمله على جَمَل والرحيل به إلى حيث يمكن الابتعاد أو الاقتراب. هو يراني منفصلًا عن الواقع، وأنا أراه أيضًا منفصلًا عن الواقع!

كبر عليّ ومضى مع أصدقائه مستقلين بأنفسهم عن آبائهم؛ ينشئون عالمهم وأفكارهم. علّم نفسه بنفسه، وتفوق في اللغة الإنجليزية والمعارف العالمية ما منحه فرصة الحصول على منحة أوروبية للدراسة الجامعية في هنغاريا. مثل عليّ أيضًا ابن عمته صفوان الذي نشأ ودرس في بلدة كفرنجة/ عجلون (مدينة صغيرة بعيدة عن عمان العاصمة التي تتركز فيها المؤسسات والمدارس الخاصة الكبرى والصحف والثقافة والأعمال والفرص) لكنه علّم نفسه وطور مهاراته ذاتيا من خلال الشبكة. تفوق في اللغة الإنجليزية والمعارف العامة، وحصل على منحة للدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت، أما أخته نقاء التي ولدت عام 2008 فقد علمت نفسها بالإضافة إلى اللغة الإنجليزية والمعارف العامة العزف على البيانو، وتفوقت في ذلك وحصلت على منحة للدراسة في “كنغز أكاديمي” المدرسة التي تقدم في عمان تعليمًا متقدمًا ومكلفًا ويبلغ قسطها السنوي ستين ألف دولار. 

الفرق بين الجيلين برأيي؛ هو الجيل الذي يتفوق وينمو بانتمائه إلى الأطر والسياقات المحيطة ويستمد منها سعادته، والجيل الذي يستمد عالمه ومعارفه ومهاراته وسعادته من ذاته، وليس من شيء آخر.