fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

مساحات بيروت العامة.. في تخطيط النسيان

بين كافة حدائق بيروت الكبيرة، وغيرها من الحدائق الصغيرة المتناثرة والمختبئة من مشاريع التطوير، عامل مشترك؛ فعلى الرغم من كونها موجودة في مناطق مختلفة، إلّا أنّها لا تشكّل جزءاً من التجربة اليومية للأكثرية
ــــــــ المـكـانــــــــ حالة أرض
26 أغسطس 2022

ليس سهلاً أن تقنعي شخصاً في لبنان باللقاء في حديقة عامة. وليس سهلًا أكثر أن تعرف/يعرف موقع هذه الحديقة أو نقطة الدخول إليها.

بين حديقة الصنايع حتى الكورنيش والحرش وحديقة السيوفي وحديقة التلفزيون (المُدمّرة نتيجة مشروع تطوير أزال الأشجار والرمال، ولم يُستَكمَل) وغيرها من الحدائق الصغيرة المتناثرة والمختبئة من مشاريع التطوير، عامل مشترك؛ فعلى الرغم من كونها موجودة في مناطق مختلفة، إلّا أنّها لا تشكّل جزءاً من التجربة اليومية للأكثرية. 

لكن ذلك ليس “ذوقاً” خاصاً لسكّان بيروت، أو انعداماً لذائقتهن/م المدينية، أو خياراً شخصياً حتى. فالمسافة المتزايدة بين سكّان المدينة ومساحاتها العامة أتت نتيجة سياسات ممنهجة وواعية، سياسات تريد أن يكون الناس غير مرتاحات/ين في المساحة العامة وترسيخ الشعور بعدم بضرورتها حتى. والسبب الأساسي لذلك هو في الاقتصاد السياسي للمساحات العامة، في قيمة العقار من جهة، وفي سعي السلطة الحاكمة للسيطرة على المساحات العامة، ما يجري فيها، من يستخدمها وكيف.

لا يخفى على أحد بأن سنوات الحرب الأهلية الطويلة أدّت إلى تدمير المساحات العامة، ليس من الناحية المادية فقط، بل ثقافياً واجتماعياً، فبترت علاقة الناس بها وخلقت أشكالاً مختلفة من الخوف والصدمات وعدم الأمان فيها. لكن ما حصل بعد الحرب الأهلية، بدايةً من السياسة العامة للدولة باتّباع النيوليبرالية، حتى تشجيع شركات التطوير العقاري من جهة، وسياسات الدولة المكانية على مستوى السلطات المحلية (البلديات) أو السلطة المركزية (الوزارات) من جهة، أدّى إلى تخلّي الدولة عن المساحات العامة الموجودة، وتوقّفها عن بناء المزيد منها.

منعت البلدية السكان من ارتياد الحرش، بحجج متنوّعة ومتغيّرة، من حاجة النباتات والشتول الصغيرة للحماية والرعاية لتنمو، وأن فتحه أمام الناس سيهدّد هذه الشتول الحساسة، إلى الكلام الواضح حول رفضها استقبال “الزعران”

ففي إطار بناء سردية بيروت بعد الحرب مثلاً، من خلال عملية إعادة الإعمار، خلقت السلطة النيوليبرالية مدينةً سياحية، لم يكن فيها مكاناً لا للمساحات العامة بشكلها ما قبل الحرب، ولا لحقوق الناس فيها، مقصية بذلك الأغلبية الساحقة من الناس، في وسط مدينة أصبح نخبوياً ومتاحاً فقط لمن يستطيع شراء السلع المعروضة والمساحة العامة.

ولم يقف هذا الإقصاء عند حدود وسط بيروت فحسب، بل امتدّ ليطال كل المساحات العامة. وربما يكون حرش بيروت\حرش الصنوبر، أكبر مساحة خضراء عامة في المدينة، مثالاً أساسياً على كيفية تعاطي السلطة في لبنان مع المساحة العامة، وبالتالي رؤيتها لحقوق الناس، وتعريفها لعلاقتها بهم. 

فمن غابة تمتدّ من حدود مدينة بيروت (الحالية) الجنوبية إلى الجبل، احتلّ الحرش حوالي 5% من مساحة بلدية بيروت عام 1967، كما يذكر طه الولي في كتابه “بيروت في التاريخ والحضارة والعمران” (1993). واستمرّ قضمه حتى ما بعد الحرب الأهلية، إلى أن أصبح اليوم حديقة مسيّجة ممنوعة على الناس، بشكل غير مٌعلَن لكن معروف من الجميع. 

تحمل المساحات العامة في زواياها موازين القوة المسيطرة على المجتمع، وهو ما يعيه سكّان الأحياء المجاورة للحرش، من قصقص ومخيّمي صبرا وشاتيلا، والغبيري وعين الرمانة، إلى باقي بيروت. فهن\م، ومنذ بداية أعمال إنشاء الحرش بشكله الحالي بعد الحرب الأهلية وحتى اليوم، لم يشعروا/ن يوماً لا بامتلاكهن\م لهذا الحرش، ولا بحقوقهن\م في استخدامه. 

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

فبعد نهاية الحرب الأهلية، تمّ تنفيذ مشروع تصميم الحرش وتشجيره، لكنه بقي مُقفلاً أمام الناس لأكثر من 20 سنة. منعت البلدية السكان من ارتياد الحرش، بحجج متنوّعة ومتغيّرة، من حاجة النباتات والشتول الصغيرة للحماية والرعاية لتنمو، وأن فتحه أمام الناس سيهدّد هذه الشتول الحساسة، إلى الكلام الواضح حول رفضها استقبال “الزعران” (الأشخاص والشبان من ذوي السلوك السيء) من المناطق الشعبية المحيطة بالحرش. 

بعد سنين من الضغط وحركات الاعتراض، تمّ فتح الحرش أمام الناس سنة 2015. ولكن حتى اليوم، يُقفَل ويُفتح عشوائياً، وأمام أشخاص دون غيرهم. حتى أن مجموعة من الناشطين نظّموا احتجاجاً سنة 2015 أمام الحرش، مرتديات ومرتدين شعراً مستعاراً أشقراً، استهزاءً بالبلدية التي لا تسمح إلّا للأجانب وبعض المتنفّذين والأغنياء بارتياده. وما زالت حجة البلدية والمسؤولين هي الخوف من “تعدّي” الناس على الحرش واقتلاع أشجاره ونباتاته وتدميره، في نظرة تقول بأن السلطة ترى سكان بيروت كمجموعات همجية متخلّفة.

في تسجيل لحديث بين سائحة إيرلندية أرادت دخول الحرش مع أصدقائها اللبنانيين، يقول لها أحد حرّاس الحرش بأنّها تستطيع دخول الحرش، لكن اللبنانيين يحتاجون إلى إذن من البلدية. وعندما سألته لماذا لا يستطيع أهل البلد دخول الحرش، يجيب الحارس: “اللبنانيون أغبياء. الأجانب يدخلون ليمارسوا الرياضة، لكن اللبنانيين يدخلون فقط ليمارسوا الجنس.”

في نظرة دونية مستمرّة للسكان عامة، ولسكّان الأحياء المحيطة خاصة، تمنع البلدية دخول غير الأجانب، لأنّها تنظر إلى أهل البلد كمجموعات غير منضبطة وغير مسؤولة، تسيء استخدام الأماكن العامة، وتدمّرها. 

من جهة أخرى، تقوم السلطة بمحاولات مستمرة لإعادة تعريف ماهية المساحة العامة وما الممارسات الاجتماعية الاقتصادية المكانية المسموحة فيها، بهدف التضييق على الطبقة العاملة والفئات الاجتماعية الأكثر فقراً. فقد قام النائب فؤاد المخزومي مثلاً، بمطالبة “وزارة الداخلية وكافة المعنيين باستكمال تطبيق حملة إزالة التعديات والمخالفات كالمقاهي العشوائية التي تشوّه صورة الحرش.”

وليس هذا التصريح استثناءاً للنائب المذكور، بل يأتي ضمن خطاب عامٍ يتميّز بالطبقية ويتغنّى بها، ويرى النشاطات الاقتصادية الاجتماعية للطبقة العاملة عملاً غير شرعي وتشويهاً لوجه العاصمة. المساحات العامة مجالٌ عام مفتوح للجميع، وهي جامعة للنشاطات التي تنمو عضوياً فيها، لا يجوز التمييز فيما بينها ولا منعها، إلّا إن كانت تؤدّي إلى الأذى المعنوي أو الجسدي أو البيئي. لكن الخطوات المستمرة التي تتّخذها السلطة في تجريم استخدام المساحات العامة والخضراء، تُظهِر تمييزاً يميل إلى من يملكون امتيازات وانحيازاً لهن/م، ونظرةً فاشية إلى المكان كمجال تريد السيطرة عليه وبسط سلطتها ومنع من تريد منعهن/م من ممارسة حقوقهن/ن في استعمال المكان. وهو فضحٌ، بكل الأحوال، لعلاقة السلطة بالطبقة العاملةوالمفقّرات\ين، أي الأغلبية الكبرى من الناس.

قمت بمقابلة مع أحد ممثّلي السلطة المحلية، فما كان منه إلّا أن استغرب اهتمامي بأحياء غير رسمية وأجابني: “اسمعي مني…هاي المنطقة ما في حل إلها. شو بدّك بهالشغلة. روحي لاقيلك شي تلة فاضية، خطّطيها وجيبي ناس من “السويد” حطيهن يعيشوا فيها”

يرى المنظّر الاجتماعي دايفيد هارفي بأن سؤال “أية مدينة نريد” لا يتعلّق بالشكل المديني فحسب، بل “بأي ناس\شعب نريد أن نكون، بالعلاقات الاجتماعية التي نطمح إليها، وبطريقة الحياة التي نريدها، وبالقيم الجمالية التي نحمل”. وتشكّل سياسة السلطة في التعاطي مع مستخدمي الحرش رسماً إيضاحياً لما يقوله هارفي في هذا السياق، بحيث تعترف بأنّها لا تريد السكّان واللاجئات واللاجئين، جزءاً من اللوحة العامة لماهية المساحة العامة، للمنظر الخارجي للمدينة. 

من خلال منع استخدام المساحات العامة عبر التضييق على مستخدميها وقضمها وإلغاء بعضها، ومن خلال التسويق للمساحات الاستهلاكية كالمطاعم والمقاهي والمولات، وتشجيع ثقافة طبقية تقوم على مبدأ التقليل من قيمة المساحة العامة ومستخدميها ووصمهم بالفقر والدونية، ويتمّ إذ ذاك  تكريس قيمة الملكية الخاصة وأهميتها بشكل مستمر ومتجدّد.

المساحات العامة، كممارسة وكحاجة فردية وجماعية، اجتماعية، سياسية ومكانية، حق عام، ليس للمواطنات/ين فقط، بل لكل السكان. 

يحاجُج عالم الإجتماع هنري لوفيفر بأن التحوّل الذي طرأ مع الرأسمالية يتعلّق بفكرة أن الإنتاج لم يعد يحصل “في” المكان، بل أصبح المكان نفسه هو ما يُنتَج، من خلال عملية التطوير الرأسمالي. وهو ما نراه من خلال محاولات قتل المساحات العامة والخضراء في بيروت، تمهيداً لإقناع الناس بخطورتها أو ثانويتها لتُمحى تماماً من ذاكرتهم واستخدامهم اليومي، فتفقد قيمتها كحاجة أساسية. وتمتدّ هذه المحاولات لتطال كل الحقوق المكانية للسكان.

 أذكر خلال كتابتي لبحث عن أحياء غير رسمية، بأنّني قمت بمقابلة مع أحد ممثّلي السلطة المحلية، فما كان منه إلّا أن استغرب اهتمامي بأحياء غير رسمية وأجابني: “اسمعي مني…هاي المنطقة ما في حل إلها. شو بدّك بهالشغلة. روحي لاقيلك شي تلة فاضية، خطّطيها وجيبي ناس من “السويد” حطيهن يعيشوا فيها”.

لا تختلف نظرة موظّف الدولة هذا عن مقاربة الدولة للناس ولحقوقهم المكانية. ففي صلب النظرة التي تحطُّ من قدر السكان وحاجاتهن/م وحقوقهن/م، مقاربة تقول بأن أفراد السلطة ومكوّناتها أحق بالاستفادة من هذه الأملاك العامة. بذا، تُستَبدَل حقوق الأكثرية الساحقة، بمصالح لإنتاج الربح والاستفادة أو السيطرة للأقلية.