fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

الحياة الطويلة والحزينة لمعمل كراش

العيش في دمشق يحتاج إلى هتاف، سواءً من أجل عبوة كراش واحدة أو من أجل كل المعمل
14 أكتوبر 2021

أسدل ستار الحرب عن منطقة القابون في شمالي دمشق. انتهى العرض الذي كان يحبس الأنفاس. أطفئت عدسات الكاميرا التي كانت تصور المقاتلين من كلا الطرفين وهم يدخلون ويقاتلون بين أبنية معمل “كراش” والشركة الخماسية. أصبحت منطقة القابون تمثل الفراغ، الفراغ من كل شيء، منطقة فارغة من الحياة، زارها الموت زيارة خاطفة ثم رحل مخلفاً وراءه الكثير من الدمار.

تحول حي القابون إلى ثكنة عسكرية تعيش فيها 130 عائلة من الذين فضلوا البقاء على التهجير، أو إلى سجن غير معلن يشبه معسكرات الاعتقال التي كنت أقرأ عنها أيام النازية، لا يُسمح بالدخول إليه، ويمنع الخروج منه دون الحصول على موافقة أمنية، من بقي من أهله يعيشون في العزلة والظلام، من دون شبكات صرف صحي ومن دون كهرباء.

هذا المكان الذي صار معتقلاً، زرته طفلاً قبل خمسة وعشرين عاماً عندما كان حيّاً سكنياً تجاوره منطقة صناعية ضخمة تضم مئات الورش والمعامل. وعندما تأتي وسائل الإعلام اليوم على ذكره -وهو نادراً ما يحصل- أتذكر الزيارة المدرسية إلى معمل كراش، وأفكر بصديقي محمود الذي لم أعد أعلم عنه شيئاً.

كازوزة.. كازوزة

في سنة 1997، عند انتهاء الفصل الدراسي، الطلاب ينتظمون في رتل موحد يرددون شعار حزب البعث “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”. يخرج المدير إلى المنصة ببدلته الرسمية الرزينة متأبطاً العصا التي كنا نخشى أن تخرج من تحت إبطه، يمسك المكرفون وهو يقرأ بياناً رسمياً قائلاً: “بمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي، تعتزم مديرية التربية في دمشق تنظيم رحلة”.

ارتسمت على وجوهنا ابتسامة تشبه ابتسامة اللمبي ليطغى صوتنا على صوت البيان الرسمي الذي كان يتلوه مرددين “رحلة .. رحلة .. رحلة”.

قاطعنا المدير من وراء الميكرفون ملوحاً بالعصا زاجراً “انتبه. انتبه. انتبه”.

صمتنا وعدنا إلى تنظيم صفوفنا الطلائعية، وأعاد المدير قراءة البيان من الأول، ونحن مصغيين له لنعرف إلى أين الرحلة، قال “وستكون الرحلة إلى معمل المياه الغازية كراش، يجب على التلاميذ الالتزام باللباس الرسمي.. والخلود لرسالتنا”.

قاطع الطلاب البيان الحزبي للمدير مرددين “كازوزة … كازوزة… كازوزة”.

“كراش” المشروع القومي

كان سوق المياه الغازية في سورية آنذاك يحتوي على ثلاث أنواع شهيرة، كازوز الجلول، وسينالكو، والكراش، لا فرق بينهم لا في الشكل ولا في المضمون، مثلهم مثل الجرائد الرسمية، ويشكلون ثلاثتهم المعادل الاشتراكي للبيبسي والكوكا كولا، أدوات الرأسمالية التي تخطط لتدمير مجتمعاتنا الاشتراكية الهانئة.

أتى يوم السبت وانتظمنا كعسكر النمل في رتل موحد للصعود إلى الباص فرحين ليس بالمكان الذي نريد الذهاب إليه فحسب،  بل بمجرد خروجنا من جدران السجن المدرسي، ومعرفتنا بأننا سنحظى بعبوة “كراش” مجانية من المعمل كان كفيلاً برسم الابتسامة على معظم وجوه الطلاب.

وصلت بنا الحافلة المدرسية إلى منطقة على التخوم الشمالية للعاصمة دمشق، تسمى منطقة القابون، تملكتنا الدهشة والخوف من هذا المكان الذي  تتربع على أراضيه العديد من المنشآت الصناعية، وعدد من الثكنات العسكرية، إضافة إلى شعبة للتجنيد العسكري فيها يودّع الشبان أهاليهم  بالكثير من الدموع قبل سوقهم للخدمة الإلزامية، إضافة إلى عدد من المنازل العشوائية يتربع على الجزء الشمالي من الحي.

وقف المدير أمام باب معمل كراش رافعاً عصاه كقائد أوركسترا بادئاً بالعد “واحد، اثنان، ثلاثة” ودخلنا المعمل دخول الفاتحين ونحن نغنيللبعث يا طلائع .. للنصر يا طلائع.. أقدامنا حقول … طريقنا مصانع“.

في ذلك الحين لم نكن نعي ما نردد بل كنا نتعامل مع هذه الصيحات الطلائعية على أنها أمر مدرسي بالفرح لا يجب مخالفته، وكانت عينا مدير المدرسة ترانا كمنتصرين فاتحين ونحن نردد صيحات البعث وهو يتأبط عصاه ويلوح بقبضته صارخاً “بصوت أعلى… بصوت أعلى”.

بقي المعمل يمثل لي ذكريات المدرسة الجميلة وعلبة الكراش المجانية، وبقي بالنسبة لأهالي القابون يذكرهم بأراضيهم المسروقة

استقبلنا مندوب من منظمة طلائع البعث بكلمة مكتوبة عن تاريخ تأسيس المعمل، اعتبر فيها أن هذا المعمل صفعة بوجه الامبريالية عدوة الصناعة الوطنية وأننا بفضل هذا المعمل أصبحت مياهنا الغازية تنافس المنتجات الامبريالية من البيبسي والكوكولا.

كلام مدير منظمة البعث بصوته العالي وعروقه التي تتفجر من وجهه لم يكن يعني لنا شيئاً، كنا نقف باستعداد وعيوننا حائرة نفكر متى سنحصل على عبوة “الكراش”. لم يكن يعنينا المكان بكل عماله وآلاته وصوت مندوب فرع البعث، بل كانت إشارات الاستفهام  ترتسم على عيوننا، متى سيوزعون علينا عبوات الكراش؟

وما إن حلت ساعة الصفر حتى بدأ العمال يوزعون علينا عبوات المياه الغازية وبدأنا نحن نتقاطر للحصول على واحدة، وكثير من الطلاب استطاعوا الحصول على عبوة إضافية بعدما أخفوا عبواتهم الأولى داخل حقيبة الظهر.

في حين كان يطلب منا مندوب منظمة طلائع البعث أن نردد ونحن نستلم عبوات الكراش “طلائع.. طلائع.. طلائع” كان يسانده مديرنا بقبضته التي تهتز في الهواء كأننا في ساحات القتال.

عدت إلى البيت وشفاهي ملونة من المياه الغازية وحنجرتي تؤلمني من الهتافات وترديد شعارات البعث، فيما لا تزال طعم عبوة “الكراش” تحت لساني من مذاقها الحلو الجميل.

الحياة الطويلة والحزينة لمعمل كراش

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

أراضٍ مسروقة

مضت الأيام وبقي معمل “كراش” ومنطقة القابون تمثل لي زمن المدرسة الجميل؛ اللباس الموحد، الرحلات المدرسية، صيحات الطلائع، ووجه مدير المدرسة وقبضته التي نتذكرها بسخرية ممزوجة بالحنين. 

عند دخولي الجامعة في عام 2006، كان لي العديد من الأصدقاء من منطقة القابون التي لم أكن أعرف أي شيء عن سكانها. دعاني أحد زملائي إلى منزله الكائن في حي القابون الواقع على بعد 4 كم عن مركز دمشق، وهو الباب الشمالي التي ترتبط به العاصمة مع غوطتها الشرقية، ويقسم الاوتستراد الدولي السريع الحي إلى قسمين، قابون البلد وقابون المنطقة الصناعية التي تضم معمل كراش والشركة الخماسية.  

تذكرت بكثير من الحنين زيارتنا إلى معمل “كراش” وصيحات البعث، وقبضة المدير وهتاف رئيس فرع الطلائع، ضاحكاً متحسراً على تلك الأيام، لكن محمود لم يكن يبادلني تلك النوستالجيا أثناء كلامي عن زيارتي لتلك الأماكن. 

هذه الأراضي التي كنت أنظر إليها بالحنين إلى فرح الطفولة، كان محمود ينظر إليها من خلال كلام عائلته على أنها أراضٍ ومعامل كانت لأشخاص، سرقتها الدولة بفعل قوة القانون الجائر.

تحول معمل “كراش” إلى منطقة فراغ بين هنا وهناك، فهو ليس مع المعارضة وليس مع النظام، ويعتبر سقوطه مسألة سياسية، فمن يستولي على معمل “كراش” تصبح دمشق أمامه جاهزة للسيطرة عليها

المنطقة التي كانت تضم 750 معملاً، أنشئ فيها أول معمل للصابون في عام 1940 وهو مصنع أيتوني وشربجي، كذلك ضمت عدداً من معامل صناعة البروكار فخر صناعة المنسوجات الدمشقية، التي ارتدت منه ملكة بريطانيا “إليزبيث” فستان زفافها في أربعينيات القرن الماضي، كل هذه المعامل والأراضي الزراعية بدأ الاستيلاء عليها في عام 1961 زمن الوحدة بين سوريا ومصر. 

كان أهم انجازات تلك الفترة تأميم الشركة الخماسية المتحدة للنسيج التي تأسست من قبل خمسة تجار دمشقيين أيام الحرب العالمية الثانية في عام 1945 بحسب المؤرخ سامي المبيض، بعدما فرضت الحكومة السورية قيوداً على الاستيراد من خلال تحديد حصة محددة لكل تاجر عُرفت بنظام “الكوتا”. فاجتمع خمسة تجار وأسسوا الشركة الخماسية بأكبر رأس مال صناعي بتاريخ سوريا آنذاك بحسب المبيض، وكان مالكو الشركة وراء دخول سورية إلى الأمم المتحدة، بعدما أوفوا بالشرط الذي وضعته بريطانيا وهو شراء 10 طائرات، واستطاعت بذلك سورية الدخول. دافع هؤلاء التجار كان وطني بامتياز وهو إيصال صوت بلادهم إلى المجتمع الدولي.

بقي المعمل يمثل لي ذكريات المدرسة الجميلة وعلبة الكراش المجانية، في حين بقي المعمل بالنسبة لصديقي ولعدد من أهالي القابون يذكرهم بأراضيهم المسروقة التي سلبت منهم ونقلتهم من البيوت الزراعية إلى مجمعات عشوائية كثير منها غير صالح للحياة.

مثلث الموت

حدث الزلزال السياسي في عام 2011. كان أهالي حي القابون من أوائل أحياء دمشق التي خرجت ضد النظام، تحول معمل “كراش” إلى مركز للشبيحة الذين يقومون بمهاجمة المظاهرات.

انقسم القابون إلى كتلتين، كتلة قابون البلد والتي خرجت أحياؤها دعماً للثورة، فيما بقي حي القابون الصناعي الذي يضم الشركة الخماسية ومعمل كراش وأجزاء من المنطقة الصناعية، حصناً تتمترس به قوات النظام وشبيحته ليهاجموا المتظاهرين، وكان ذكر اسم معمل “كراش” يثير الرعب في قلوب أهالي حي القابون والمتظاهرين القادمين للتظاهر في الحي.

وفي نهاية عام 2012 عندما بدأت الثورة السلمية تتحول إلى مسلحة، تمترس مقاتلو المعارضة في القسم الأعلى من الحي (قابون البلد) فيما تحصن النظام في معمل “كراش” والكتل المجاورة له.

تعرضت منطقة القابون بشقيها الصناعي والسكني لحملات قصف سيستمر لسنوات أدانته منظمة هيومن رايتس واتش في تقريرها الصادر في شهر كانون الثاني/يناير من عام 2014 بعنوان “التسوية بالأرض”، التي اعتبرت أن هنالك تدمير منهجي وغير مبرر للحي من خلال العمليات العسكرية التي يقوم بها النظام.

صار معمل “كراش” نقطة عسكرية وأمنية للنظام، وسميت منطقة معمل “كراش” مثلث الموت، حيث كانت هذه المنطقة تتعرض للقنص والقذائف التي تتبادل الأطراف المتصارعة مسؤوليتها عنها، وكان ذكر اسم معمل “كراش” كفيل بمسمرة العيون في الرأس وتجميد اللسان في الفم بعدما أصبح خطاً فاصلاً بين جبهات القتال.

حي القابون الذي كان خبراً عاجلاً لسنوات صار تفصيلاً منسياً على الخريطة السياسية للأحداث، سوى من العديد من الانفجارات التي كانت تؤرقنا نحن سكان محيط العاصمة

خلال سنتين فقط أصبح ذكر المعمل بالقرب من منطقة القابون معادلاً موضوعياً لذكر كلمة الموت، كما تحول معمل “كراش” إلى مثلث برمودا لجنود النظام الذين يخدمون فيه، فهم تحت رحمة العمليات العسكرية لكتائب المعارضة المتواجدة في حي قابون البلد والغوطة الشرقية.

في نهاية آذار من عام 2017، استطاعت قوات معظمها كتائب إسلامية معارضة السيطرة لوقت قصير على معمل كراش، وبثت تسجيلات مصورة من هناك.

تجول المقاتلون في  المعمل ذكرني بزيارتي الطلائعية إلى هناك، مع وجود عدد من الفوارق. لقد استبدلت الصيحات الطلائعية بشعارات إسلامية ضد النظام وضد الحزب الحاكم. صور الرئيس التي كانت في أيدينا هي الآن تحت أقدام المهاجمين، طمست الشعارات واستبدلت بشعارات أخرى مناوئة لها.

لم يكن المعمل الذي في مخيلتي هو نفسه معمل “كراش” الذي رأيه في الفيديوهات، رغم أنه في نفس المكان وبين نفس الجدران، كان هنالك إعادة تشكيل جديدة للمكان. تحول معمل “كراش” إلى منطقة رمادية فارغة من كل شيء سوى الموت الذي يخرج من فوهات القناصات من كل الأطراف، وتحول معمل المياه الغازية إلى منطقة جغرافية تفصل المقاتلين المتواجدين خارج دمشق والساعين للدخول إليها، عن العاصمة التي يتمترس بها النظام وفق روايتهم.

الحياة الطويلة والحزينة لمعمل كراش

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

تأرجح المعمل في نشرات الأخبار بين “العدو” و”الصديق”، على اختلاف السياسات التحريرية لتلك الوسائل ووجهة نظرها للصراع في سوريا. في حين كان معمل كراش المتراس الأخير الذي يدافع النظام خلفه ضد الخطر الإسلامي والمتشددين الذين يريدون ابتلاع  العاصمة والقضاء على كل جوانب الحياة فيها بحسب ما يروج النظام.

كان الموقف من معمل كراش هو البوصلة التحريرية للعديد من وسائل الإعلام وما تعكسه من توجهات سياسية، وتتقاطر الأخبار العاجلة على النحو التالي: “معمل كراش في القابون صديق”، تمضي ساعتان أو ثلاث ساعات.. “انسحبت قوات المعارضة من معمل كراش تحت القصف المكثف”، وعلى الناحية الأخرى من الأخبار.. “استطاعت قواتنا الباسلة تحرير معمل كراش من خطر العصابات الإرهابية المسلحة التي تروع المدنيين هناك”.

تحول معمل “كراش” إلى منطقة فراغ بين هنا وهناك فهو ليس مع المعارضة وليس مع النظام والسيطرة عليه هدف، ويعتبر سقوطه مسألة سياسية، فمن يستولي على معمل “كراش” تصبح دمشق أمامه جاهزة للسيطرة عليها، ومن يتقدم إلى معمل “كراش” يستطيع الدخول إلى الغوطة الشرقية التي تتحصن بها المعارضة.

لم يدم هذا الحال طويلاً، ففي  14 أيار/مايو من عام 2017 استطاعت كتلة معمل كراش التي يسيطر عليها النظام، بمخالبها العسكرية السيطرة على كامل حي القابون السكني، واقتلعت 400 عائلة من بيوتهم وهجرتهم إلى إدلب شمالي البلاد.

الركام المنسي

انتهت المعركة. تحول حي القابون الذي بقي خبراً عاجلاً لسنوات إلى تفصيل منسي على الخريطة السياسية للأحداث، سوى من العديد من الانفجارات التي كانت تؤرقنا نحن سكان محيط العاصمة، تترافق هذه الانفجارات مع أخبار عاجلة قادمة من وزارة الدفاع ينشرها الإعلام الرسمي: “نهيب بالأخوة المواطنين الحفاظ على أبنائهم.. إن هذه التفجيرات التي يقوم بها جيشنا الباسل هي للقضاء على مخلفات الإرهابين في حي القابون”.

التفجيرات التي كانت تخرج من الحي المنسي بذريعة أن المعارضة فخخت المباني قبل خروجها، كانت تترافق مع خروج سيارات محملة بالحديد من مخلفات الأبنية المهدمة إلى خارج القابون باتجاه مجمعات الحديد التابعة لمحمد حمشو أحد أكبر تجار الحرب التابعين للنظام.

كان يراقبها علي من شرفة منزله في حي القابون، وهي تخرج شمالاً إلى معمل الحديد والصلب في منطقة عدرا العمالية.

علي، 42 عاماً، وهو أحد سكان حي القابون الذين رفضوا التهجير منذ سيطرة النظام على الحي بقي هو وعائلته المكونة من خمسة أطفال وزوجة، يقول: “منذ إحكام الجيش سيطرته على حي القابون، تحول القابون إلى سجن.. منعنا الجيش من الخروج من الحي إلا في أوقات محددة، وكذلك كنا نصطف لساعات على التفتيش وفحص الأوراق الثبوتية قبل دخولنا الحي”.

 انتشر في المكاتب العقارية في دمشق أشخاص يسعون إلى شراء أراضي القابون يطلق عليهم تسمية “المندوبين”، وجميعهم يعودون لمحمد حمشو رجل الأعمال السوري المتحالف مع النظام

بحسب علي، كانت الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد شقيق الرئيس، والانشاءات العسكرية والتي يقودها رياض شاليش ابن عمة الرئيس الأسد، هي المخولة بنشر عناصرها في القابون، يرافقهم مهندسين مدنيين تابعين لمعمل الصلب والحديد المملوك لمحمد حمشو أحد كبار رؤوس الأموال المتحالفة مع النظام، حيث يتم تفخيخ الأبنية بعدما تم اخلاؤها ثم تفجيرها، ومن ثم يتم نقل الحديد الناتج والأتربة إلى معامل الحديد في مدينة عدرا العمالية.

تحولت منطقة القابون بشقيها الصناعي والبلد إلى كتل من الركام المنسي، غير المسموح بالدخول إليها أو الخروج منها إلا بموافقات أمنية، ولا يصلنا شيء عن أخبارها سوى الانفجارات التي تدك أبنيتها المهجورة. 

ومع انطفاء نيران المدافع والطائرات التي تدك القابون تحول الحي إلى “أبارهتايد” منسي خارج الزمن، فمُنعت عودة الأهالي إلى الحي إلا من خلال تحقيق عدة شروط أولها، إثبات ملكيتهم لمنازلهم التي تم تهديم وتجريف جزء منها بعد أن تعرضت أوراقهم الثبوتية للتلف بفعل الحرب والنزوح، ثانياً: الحصول على موافقة من فرع المخابرات الجوية، ثالثاً: الحصول على تقرير لجنة من محافظة دمشق تفيد بأن العقار صالح للسكن.

الحياة الطويلة والحزينة لمعمل كراش

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

هذه العوائق منعت العديد من سكان الحي العودة إلى بيوتهم أو معاملهم الصغيرة التي تركوها هرباً من المعارك هناك، وكانت عرقلة دخول السكان إلى الحي تترافق مع سرعة الآلة العسكرية في تهديم أجزاء واسعة من الحي وتحويلها إلى أنقاض وترحيلها، حيث تمت إزالة جميع البيوت الممتدة بمحاذاة طريق دمشق حمص الدولي، بحجة عدم سلامتها الإنشائية.

اجتثاث القابون

تحولت أراضي القابون إلى خردة يتكالب أمراء الحرب على شرائها، حيث انتشر في المكاتب العقارية في دمشق، أشخاص يسعون إلى شراء أراضي القابون يطلق عليهم أصحاب المحلات العقارية “المندوبين”، وجميعهم يعودون لمحمد حمشو رجل الأعمال المتحالف مع النظام.

في حزيران/يونيو من عام 2020 أصدرت محافظة دمشق مخططاً تنيظيمياً لحي القابون وعرضته في بهو مبنى محافظة دمشق. المخطط الذي يعتمد على القانون رقم 10 الذي أثار جدلاً كبيراً بين السوريين، يمسح الصفة الصناعية عن منطقة القابون ويعدل الطبيعة العمرانية للمكان بحيث ينقلها وفق المخطط من منطقة صناعية وزراعية إلى منطقة سكنية وتجارية.

تلا ذلك إصدار المحافظة تعميماً بإغلاق المنطقة الصناعية في الحي ونقل 750 معملاً من منطقة القابون إلى مدينة عدرا الصناعية، وسيختم بالشمع الأحمر كل معمل يتم إعادة تأهيله والعمل فيه، الأمر الذي رفضه صناعيو كثر في القابون.

أبو خالد، أحد الصناعيين الذين يرفضون قرار المحافظة ويعتبرونه محاولة لسرقة أملاكهم بقوة القانون أغلق ورشته في القابون وافتتح ورشة صغيرة لصنع المدافئ في منطقة الدخانية القريبة من العاصمة دمشق في عام 2014 بعد عامين من نزوحه إثر اشتداد الهجوم العسكري للنظام آنذاك.

لا يمكن أن أرى قرار هدم هذه المنشأت سوى هدم لذاكرة دمشق، بشكل غير قانوني، هذه المنطقة منظمة منذ عام 1948 كمنطقة صناعية، والقانون يمنع تنظيم المنظّم، لكن حيتان المال يريدون تهجيرنا من منشآتنا التي عمرها ما يناهز المئة عام ليحولوها إلى أبراج سكنية ومولات لا تستهدف إلا الميسورين، في حين سوف يطرد الفقراء إلى خارج دمشق

كان يتحدث بينما يثني ألواح الحديد الرقيقة تمهيداً لبداية تصنيع المدافئ أن ورشة القابون يعود عمرها إلى 120عاماً، ورثها والده عن جده. وبحسب أبو خالد فإن “الورشة لم تتوقف عن العمل يوماً واحداً، إلا في عام 1936 أثناء الإضراب الستيني ضد الفرنسين، وفي حرب 1967 ضد الإسرائيلين، حين التحق والدي وأخوتي الكبار لمحاربة الاسرائيليين، وبقيت الورشة تعمل حتى عام 2012 وبدء العمليات العسكرية ضد القابون”.

كلام أبو خالد يحمل الكثير من خيبة الأمل بعد صدور قرار بهدم المنطقة وإعادة تنظيمها. يجلس على كرسي خشب قديم، ممشطاً بعينيه المكان، قائلاً “إلى الآن أجد صعوبة بالعمل خارج ورشتي في القابون”، ويصفها بشكل دقيق كأنها منزل عائلته القديم، قاصاً الكثير من الذكريات التي كانت تجمعه مع أفراد أسرته والعمال هناك، متذكراً ابنه الذي قضى بقذيفة هاون استهدفت الورشة، وعلى إثرها قرر الخروج.

يقول أبو خالد إن “الحرب العسكرية انتهت في القابون في عام 2017، وبدأت حرب علينا نحن السكان، حرب من نوع ثانٍ، حرب لسلبنا أملاكنا، بقينا عاماَ كاملاً ممنوع علينا الدخول إلى بيوتنا ومعاملنا بحجة أنها لازالت منطقة غير آمنة عسكرياَ، بينما كان هنالك عمليات تخريب ممنهج للأبنية والبنية التحتية تقوم بها الفرقة الرابعة بالتعاون مع مهندسين تابعين لرجل الأعمال محمد حمشو”.

ويكمل أنه بعد ذلك بعام “سمح لنا بالعودة إلى القابون شريطة إبراز ملكية والحصول على موافقة أمنية، الكثير من السكان لم يستطيعوا العودة لعدم اكتمال الشروط”. ويتابع: “بعد استكمال الأوراق سُمح لنا بالعودة، لكن كان لدينا مطلب واحد.. نريد فقط  إصلاح شبكة الكهرباء للعمل.. رغم  الزيارات الرسمية لم تستجب الحكومة لمطلبنا، بل على عكس ذلك أبلغتنا بقرارات هدم المصانع تمهيداً لنقلها إلى منطقة عدرا العمالية”.

يقول أبو خالد، “في صيف عام 2018، وتحديداً في 21 حزيران (يونيو)، قامَ وفدٌ وزاريٌّ برئاسة رئيس مجلس الوزراء بزيارة المنطقة، ووعد بتوفير الكهرباء والماء والبنية التحتية بالكامل ليعود إليها الصناعيون، ولكن بعد قرابة الشهر فقط وبتاريخ ٢٦من شهر تموز (يوليو) من نفس العام تفاجئ الصناعيون بإصدار التوجيه بالتنظيم وإخلاء المنطقة بالكامل، علماً أن جميع الصناعيين بدؤوا بالترميم بناءً على وعود الحكومة، وصرفوا وأنفقوا عشرات الملايين،وبناءً على التوجيه تمَّ سحب ستة محولات طاقة كهربائية فوراً من المنطقة كي تكون خالية من الكهرباء، ولمنع أي صناعيٍّ من العمل، كما تمَّ توجيه البلدية بالكشف اليومي على المنطقة لمنع أيّ صناعيٍّ من القيام أعمال الترميم مهددةً بالإغلاق بالشمع الأحمر”.

يختم أبو خالد كلامه، “لا يمكن أن أرى قرار هدم هذه المنشأت سوى هدم لذاكرة دمشق، بشكل غير قانوني، هذه المنطقة منظمة منذ عام 1948 كمنطقة صناعية، والقانون يمنع تنظيم المنظّم، لكن حيتان المال يريدون تهجيرنا من منشآتنا التي عمرها ما يناهز المئة عام ليحولوها إلى أبراج سكنية ومولات لا تستهدف إلا الميسورين، في حين سوف يطرد الفقراء إلى خارج دمشق”. 

في شهر أيار/مايو الماضي، أقيم احتفال في حي القابون شبه المدمر بعدما اقتلع أكثر من 70 بالمئة من سكانه، والآن يتم اقتلاع صناعييه.

سألت أبو خالد حول مشاركته في هذا الاحتفال، أجابني ضاحكاً: “نعم، لقد ذهبت وهتفت بحياة الرئيس، وقمت بانتخابه، أملاً بعودة ورشاتنا الصناعية إلى الحي”.

وصف أبو خالد لاحتفال التأييد ذكرني برحلتي المدرسية إلى القابون وهتافنا للأسد الأب آنذاك، للحصول على علبة كراش. تذكرت عصا مدير المدرسة والوجه القومي العابس لمدير فرع طلائع البعث الذي كان يرى في المعمل انتصاراً وصفعة بوجه الرأسمالية، أتذكر محمود صديقي الذي لم أعد أعلم عنه شيئاً، أشعر بأرواح الذين ماتوا على مثلث معمل “كراش” أو مثلث الموت أو كيف كانوا يصفوه. 

كنت أهتف كي لا أخسر علبة الكراش، والآن يهتف أبو خالد كي لا يخسر معمله، فيما لايزال الهتاف نفسه.