fbpx

السَيّاح.. أربعون سنة في سوق “جميلة”

السَيّاح أو خبز “التمّن” من الأكلات التي يجهلها كثيرٌ من العراقيين أنفسهم، إذ يعدّ جنوب العراق موطنه الأصلي، الأهوار بالتحديد. وتعتبر مقاديره سهلةً للغاية.
ــــــــ الطعامــــــــ المـكـان
29 أغسطس 2022

الثالثة فجرًا في بغداد، ثمة عجوز تسير في الظلام، سواد عباءتها يجعلها قطعة من الفجر الذي حولها. ها هي تتجه إلى ركنٍ صغيرٍ اعتادته في “سوق جميلة”. ثمّة طاولات حديدية، ومعدات طبخٍ قديمةٍ مرصوفةٍ على الأرض بترتيبٍ وعناية. تقف بينها وتنهمك في العمل. هذا مطبخها في وسط السوق.  

رزق الفقراء من الفقراء 

قرابة أربعين عامًا، وأم علي (67 عامًا) تعد خبز السَيّاح في السوق، بدأت في الحرب العراقية الإيرانية لتعيل أطفالها بعد أن التحق زوجها بالجبهة. أصبحت أرملة ثم جاءت حروبٌ أخرى كثيرة وحصارٌ واجتياحٌ وانفجارات، وظلّت أم علي تقف في الزاوية نفسها من سوق جميلة الشعبي في مدينة الصدر شمال شرق بغداد تبيع خبز الفقراء هذا. 

تقول “خلال حرب إيران أصبحت أحوالنا أصعب. لم أكن أدري ماذا أفعل، وفي طريقي نحو السوق لاحظت أن عمالًا يقفون دائمًا في طوابير كبيرة ينتظرون أرزاقهم، فكرت بصغاري وبهم”. 

يمكن القول إن أم علي ابتكرت هذه المهنة، إذ تكاد هذه الأكلة اليوم أن تكون منسيّة في مناطق العراق كافة، باستثناء الجنوبية منها، إذ يقتصر صنع خبز السيّاح على البيوت، وليس هناك مخابز أو محال تبيعه مثل باقي أنواع الخبز في العراق من العادي إلى التفتوني والعباس والرقاق والصمون…إلخ. لكن أم علي كان لها وجهة نظرٍ أخرى، إذ حولته لمصدر رزقٍ لها ولعائلتها، وخرقت عادة احتكار خَبْزه على ربّات البيوت في الجنوب. 

وقوف العمّال بهذه الصورة مشهدٌ مألوفٌ، حيث يتجمعون في زاويةٍ محددةٍ يوميًا منذ ساعات الفجر الأولى، قادمين من محافظات ثانية نحو العاصمة، بحثًا عن العمل. عشرات ينتظرون أي مقاول يختار مجموعة منهم لأعمالٍ تتطلب قوةً وجهدًا كبيرين مثل البناء.

“لا غنى لهم عن خبز السَيّاح” تقول أم علي. “كيف يقدرون على العمل لأكثر من 15 ساعة متواصلة في البناء، أو حتى الانتظار الصعب لأحدٍ يطلبهم للعمل. أحسستُ أن الخيار الجيد لي ولهم أيضًا هو السيّاح، يسد جوعهم وكلفته قليلةٌ عليّ”.

يعتبر السَيّاح أو خبز “التمّن” من الأكلات التي يجهلها كثيرٌ من العراقيين أنفسهم، إذ يعدّ جنوب العراق موطنه الأصلي، الأهوار بالتحديد. وتعتبر مقاديره سهلةً للغاية، إذ يتكوّن من دقيق الأرز، ولا يحتاج لغير الماء لصناعته ثم خبزه وتناوله ساخناً، مع البيض بالبصل حصرًا، أو القيمر البلدي المصنوع من حليب الجاموس.

تصوير: آية منصور

قوت المتظاهرين

عاد خبز السَيّاح إلى الظهور بقوّة في ساحات المظاهرات في 2019. تطوّعت بعض النساء المسنّات لإطعام الشباب مجانًا في “ثورة تشرين”. كنّ يحضرن في وقت مبكّر إلى مواقع التظاهر المعروفة ويبدأن في إعداد الوجبة البسيطة والقادرة على أن تملأ البطون لساعات، وتمدّ الجسم بالطاقة، وأرفقنها أحيانًا بوجبة أخرى وهي “المخملة” المكونة من الطماطم  والبطاطا والبصل والبيض. 

قبل مظاهرات 2019 بسنة كانت نسبة الجوع في العراق قد وصلت إلى 23.7% من العراقيين؛ تمثّل هذه النسبة تعداد السكان الذين لا يكفيهم غذائهم لتلبية حاجتهم للطاقة اللازمة لممارسة أعمالهم ومتطلبات العيش. وبعد هذا التاريخ بسنة وصل معدل الفقر في العراق إلى 31.7% وفقًا للإحصاءات الحكومية نهاية 2020، في بلد يعدّ من أغنى دول العالم بالنفط.

لكن ذاكرة العراقيين مع الجوع أعرق وأقدم وأقوى، وقد يكون أقساها عند كثير منهم سنوات الحصار التي كان فيها طعامهم الأساسي الباذنجان المقلي الذي أطلقوا عليه في تلك السنوات “وحش الطاوة”، ومرقة الشجر، وخبز النخالة، ولم يكن يرد اسم العراق في الأخبار من دون لازمةٍ حفظناها “برنامج النفط مقابل الغذاء”.

أكلة من المطبخ سومري 

في كتابه “نصوص الطهي في بلاد ما بين النهرين” يشير المؤرخ الفرنسي جان بوتيرو  إلى السَيّاح، ويخبرنا أن السومريين استعملوه أحيانًا كبديل عن خبز القمح، لسهولة زراعة الأرز في بلاد وادي الرافدين، وبساطة صنعه. كما أنه لا يتطلب سوى دقائق للنضج بعكس دقيق القمح الذي يتطلب وقتًا أطول وتخميرًا ونارًا أقوى، كما يذكر الباحث المختص بالتراث القديم أحمد السلام، ويضيف أن السومريين كانوا يستخدمون لخبز السَيّاح نار القصب يشعلونه ويضعون الخبز فوقه إلى أن ينضج.

ويذكر بوتيرو، بحسب السلام، ضرورة طحن الأرز إلى درجة كبيرة بحيث تكون الحبيبات صغيرة جدًا ومتناسقة، لأن الحبيبات الكبيرة تظهر على شكل نتوءات في الرغيف أو تسبب ثقوبًا صغيرة فيه. 

ويلفت السلام إلى وجود مصادر تذكر أن السومريين اعتمدوا على صناعة دقيق الأرز بالاعتماد على نوعٍ واحد وهو “رز العنبر” أو “الشلب” والذي انتشرت زراعته في عدة مناطق يمرّ منها الفرات من بينها المشخاب التي تعرف اليوم بـ “أرض العنبر”. والعنبر هو أرزٌ شديد البياض وبذرته كبيرة وله رائحةٌ مميزة، يُزرع في أيار (مايو) ويحصد في تشرين الأول (أكتوبر).

تصوير: آية منصور

خطوات إعداد السيّاح 

في الفجر، تبدأ أم علي وابنها الأصغر صباح وحفيدها، بتحضير المعدّات؛ طبّاخٌ صغيرٌ مثبتٌ على الأرض، قطعةٌ كبيرةٌ من الصاج، سجادةٌ تجلس عليها، مجموعةٌ من كؤوس الشاي المحضرة للزبائن.

تشعل النار، تمسح الصاج بقطعة قماشٍ مبللةٍ لئلّا يلتصق السيّاح فوقه، ثم يبدأ صباح بعجن دقيق الأرز بهدوء وخفة. يضع الماء البارد بكمياتٍ قليلةٍ جدًا، ويعجن، يضيف الماء بالتدريج، لأنه لو أضافه دفعةً واحدةً “ستفشل الوصفة”.

 يقول “كوبٌ من الماء، عجنٌ لخمس دقائق، ثم كوبٌ ثانٍ”، وهكذا إلى أن يصبح القوام سائلًا بدرجة معقولة، فيأتي دور الملح، الكثير من الملح، ثم انتظار “استراحة السيّاح” لعدة دقائق، قبل أن تأخذ أم علي القدر المملوء بسائل السيّاح الأبيض. 

لا يصنع السيّاح إلا باليدين، هكذا تعلّمته أم علي من نساء مدينة ميسان جنوب العراق قبل أن يقرّر والدها الانتقال إلى العيش في بغداد بحثًا عن عمل. تحمل من العجين مغرفة كبيرة، وتسكبها فوق الصاج، ثم تفردها باليد على شكل دائرة وبسرعة لئلا يجف العجين السائل ويتكتل. 

“الصاج حار أعلم، وأي مقلاةٍ أو شوايةٍ أيضًا يجب أن تكون حارةً للغاية لاستواء “السيّاحة” (مفرد سيّاح)، وهذا الأمر يتطلب ممارسة طويلة وخبرة، لم أحصّلها إلا بعدكثيرٍ من الحروق”.  

فيما تبدأ ام علي بصنع السيّاح، يتوافد الزبائن من العمّال نحوها، في الوقت ذاته، يخلط حفيدها حسين الكثير من الطماطة والبصل والبيض، يحاول أن يكون سريعًا مثل جدته لأن السيّاح لا يؤكل إلا ساخنًا، إذ يفقد طعمه وكل لذّته حين يبرد.

حالما تنضج السيّاحة، تحررها أم علي من الصاج بسكين -تبلله بين الحين والآخر- وتحمل القطعة ناضجة وساخنةً جدًا، تقدمها مباشرة للزبون الذي يجلس قبالتها.

أرخص وجبة في العراق غالية على البعض

وجدت أم علي في “السيّاح” مصدرَ دخلٍ جيدٍ لها، وطعامًا جيدًا ورخيصًا للعمّال؛ فلا يتعدى سعر القطعة ألف دينار عراقي (نصف دولار تقريبًا). قطعةٌ كبيرةٌ من السياح، عجّة البيض أو “المخلمة”، وإستكان شاي، بأقل من دولارٍ واحد. سعرٌ مناسبٌ لميزانية العمّال الاقتصادية، والتي لا تتعدى 15 دولارًا في اليوم. 

تذكر أم علي، أن قطعة واحدة قد لا تشبع العامل: “كثيرًا ما يأتي إلي ثلاثة عمّال يريدون أن يشتركوا في سيّاحة واحدة، فأقوم بإعداد قطعٍ إضافيةٍ مجانًا لهم”. 

يوضح صباح، أصغر ابناءها الذي يعمل معها منذ سنوات، أن كثير من العراقيين لا يعرفون شيئا عن السيّاح، لكن بعض العمّال القادمين من غرب أو شمال العراق يشعرون وكأنهم وجدوا كنزًا حينما يجربون تناول السيّاح لأول مرة. يقول: “لوهلةٍ قد تشعر أنها أكلةٌ على وشك الانقراض، لكن أبناء الجنوب يطبخونها باستمرار وطقس صُنعها فيه الكثير من البهجة للعائلة، وأحيانًا يعدونها عند مجيء ضيف قريب منهم”.

تصوير: آية منصور

عشر ساعات من تحريك اليدين

من الرابعة فجرًا حتى الواحدة بعد الظهر، تواصل أم علي فرد سائل السيّاح على الصاج وخبزه وتقديمه الى الجائعين المنتظرين بنهم. تؤلمها يديها كثيرًا، كما تخبرني، من الحركة المتواصلة والنار ولكنها تقاوم من أجل عائلتها. 

“أعود الى منزلي منهكة ولا أستطيع رفع يدي، آخذ الكثير من المسكنات”. أسألها لماذا سُمي السيّاح تقوله “لأنه يسيح على القطعة الحديدية الحارّة، وكلما كان رقيقًا كلما كان ألذ، وفي حال كانت قطعة السَيّاح سميكة وغير متجانسة تسمّى “رصّاع”، ولو كانت أكثر سمكًا تسمّى “طابگ”. هي أنواعٌ خبزٍ مختلفةٍ من دقيق الأرز، الفرق بينها في كمية الماء المخلوط، لكنّ السيّاح هو الأصل.