fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

ثلاثة وجوه لسوريّ يعمل في ليبيا

لم يتغير شيء، ما زال أبناء مدينة السويداء السورية يسافرون للعمل في ليبيا.. كل ما هنالك أن أشكال العمل هناك صارت مختلفة..
ــــــــ العمل
6 يوليو 2021

عندما كنت أزور بيت جدّتي، في قريتي صلخد في محافظة السويداء جنوب شرق سوريا، كان ممنوعٌ عليّ الاقتراب من “فاترينا الدار”، وهي شيء يشبه الخزانة يحتوي على صمديات ومقتنيات رتّبها جدتي بعناية فوق أرفف غير قابلة للمس. 

ترتبط فاترينا جدتي بذكرياتها الممتدة إلى فترة السبعينيات من القرن الماضي، عندما كان شبّان محافظة السويداء وبينهم أفراد من عائلتنا، يسافرون إلى ليبيا ويعملون لسنوات ثم يعودون لتعمير بيوت وشراء أراضٍ في قراهم المعزولة. 

مع عودة أبنائها في كل صيف كانت جدتي تفتح الخزانة وتضيف إليها المزيد من هداياهم البسيطة فوق الأرفف: أطقم من الكؤوس المذهّبة، تماثيل صغيرة من البورسلان، آية من المصحف محفورة على لوح خشبي، أو ألبوم صور.

صارت الفاترينا خلال الخمسين عاماً الماضية مكان عائلتي الأعزّ لتحنيط الذكريات، وبعد وفاة جدتي، ما زال صوت صراخها في أذني يسبق كل محاولة للاقتراب من الخزانة وتفحص مقتنياتها.. “يا كرم.. بعّد إيدك عن الفاترينا”.

ثلاثة وجوه لسوريّ يعمل في ليبيا

صلخد. تصوير كرم منصور

في “بلاد الخير”

أمشي في أزقة قريتي، يوصلني الطريق المتلوي كثعبان إلى بيت “أبو عماد”، واحد من أوائل البيوت الطابقية المعمّرة في القرية. 

يستقبلني الرجل ذو الـ 64 عاماً، أمضى منها 16 يعمل بلّاطاً في العاصمة الليبية طرابلس، تركت أثرها على ظهره المقوس ويديه السميكتين. أدخل منزله المعروف في القرية بإسم  بيت أبو عماد الليبي

في عام 1991 صرف أبو عماد تحويشة عمره على تشييد منزل مؤلف من طابقين كان بالنسبة لسكان القرية أبلغ تعبير عن الحداثة العمرانية والوفرة المادية، عُرف آنذاك بـ منزل الليبي لتفرده عن باقي البيوت المحيطة.

عند حديثه عن ليبيا يصفها أبو عماد أكثر من مرة بـ “بلاد الخير”، ثم يشرح الظروف التي دفعته إلى قصدها، “بعد انتهاء حرب تشرين (اكتوبر) في عام 1973 كان معظم شبان القرية يهربون من العمل في زراعة الحمّص والشعير، إما إلى الجيش أو الهجرة، واخترت أنا الثانية. كان عمري 17 عاماً عندما قررت السفر إلى تلك البلاد البعيدة، لم أكن قد زرت دمشق بعد. زرت طرابلس قبل أن يتسنى لي الذهاب إلى العاصمة دمشق”.

يعود أبو عماد في ذاكرته إلى رحلته الأولى منتصف السبعينيات، “كانت الرحلة تخرج في موعد ثابت، الساعة الخامسة والنصف صباحاً يجتمع أهالي القرية لوداع المسافر، مكررين عبارة واحدة “رح نشتقلك، لا تنسانا من المكاتيب”، ثم تتحرك الحافلة بعد أن يرتب كل مسافر أغراضه فوق سطح الباص.. كان الخوف من المجهول يخيم على جو الباص وهو متجه صوب الحدود الأردنية”.

شاع في ذلك الوقت سفر العمال السوريين الى ليبيا براً لانخفاض أجرة الطريق مقارنة ببطاقة الطائرة، خصوصاً أبناء محافظة السويداء التي تبعد عن الأردن مسافة 35 كم فقط، بينما يفصلها عن العاصمة دمشق 117 كم.

كانت الطريق تستغرق ثلاثة أيام في الحافلة للوصول، يمر خلالها المسافر بعدد من المحطات أولها الأردن، ثم عبر البحر الأحمر بعبّارات إلى مصر، ومنها إلى الحدود الليبية. وكانت طرابلس الغرب والمناطق الساحلية الليبية أكثر جذباً لليد العاملة بسبب تركز حركة البناء فيها.

استدان أبو عماد تكلفة الطريق من أحد أقاربه، وبلغت حينها 120 ليرة سورية أي ما يقارب 30 دولاراً بسعر صرفها آنذاك. ركب الحافلة التي تخرج أسبوعياً من قرية صلخد وتدور على عدد من القرى قبل أن تواصل طريقها باتجاه الحدود.

يعود أبو عماد إلى تلك الأيام، يريني صورة له وهو كثيف الشعر قبل أن يلتهم الصلع فروة رأسه، “هذه سهرة وداعي قبل سفري بيوم واحد”.

في صباح اليوم التالي خرج الشاب ذو 17 عاماً برفقة زوجته التي تحمل طفلهما الرضيع متجهاً إلى ساحة القرية بانتظار الباص، “كان الصمت ثقيلاً وكنا نتبادل النظرات بينما كانت ألسنتنا عاجرة عن الكلام، كانت زوجتي تؤكد على ما وضعته لي من أغراض ومؤونة في حقيبة العرس التي اصطحبتها معي، بينما أمي تقرأ بعض الأدعية.. الصمت شلّ لسان والدي، وأنا كان يأكلني القلق من المستقبل الذي ينتظرني”.

ينهض أبو عماد أثناء حديثه معي ويقف مقلداً سائق الباص الذي أقلهم حينها، وهو يردد عليهم النصائح: “أخوتي.. تفقدوا جوازات سفركم، نقودكم، إياكم والمشاكل هناك، إنها ليبيا وليست السويداء”.. خاتماً كلامه بتحذير، “كلكم فقراء على باب الله، المشاكل سوف ترجعكم إلى الجوع الذي أنتم فيه هنا”.

ينهض أبو عماد أثناء حديثه معي ويقف مقلداً سائق الباص الذي أقلهم حينها، وهو يردد عليهم النصائح.. “أخوتي.. تفقدوا جوازات سفركم، نقودكم، إياكم والمشاكل هناك، إنها ليبيا وليست السويداء”.. خاتماً كلامه بتحذير، “كلكم فقراء على باب الله، المشاكل سوف ترجعكم إلى الجوع الذي أنتم فيه هنا”

لم يكن أبو عماد البلاط فقط ممن استقطبتهم ليبيا هرباً من ضيق العيش في سوريا، بل تقاطر إليها خريجو الجامعات أملاً بالحصول على فرص عمل، كان معظمهم يعمل في مهنة التدريس هناك.

أيمن (56 عاماً) يفتح لنا صندوق ذكرياته بعد سؤالنا عن عمله في ليبيا. يخرج رسائل وصور تجمعه بزملائه المدرسين، والعديد من شرائط الكاسيت القديمة.

يقول أيمن، “كنت أرسل كل شهر شريط كاسيت إلى أهلي والقليل من النقود.. كان الكاسيت آنذاك شبيه بتسجيلات الواتساب في أيامنا هذه، أخاطب فيه العائلة، هم لا يعرفون القراءة والكتابة، وكنت أتكلم فيها خلال 45 دقيقة جميع ما أريد الإخبار أو الاستفسار عنه”. 

تقاطعه زوجته قائلة: “كنا نترقب موعد الحافلة القادمة من ليبيا إلى سوريا، نصطف أمامها كما نصطف الآن على طوابير الخبز، ينزل السائق ويقوم بتوزيع الرسائل وأشرطة الكاسيت علينا”.

أحمل أنا وأبو عماد هذه الكاسيتات ونذهب إلى بيت في القرية فيه جهاز مسجل قديم، نستمع إلى بعض الأشرطة، تبدو جميعها متشابهة، يسأل فيها عن الأهل والأصدقاء واحداَ واحداً، يطمئنهم عن أحواله ويروي بعض النوادر واليوميات التي تحصل معه هناك ربما بغرض إضحاكهم، ثم يخبرهم أنه أرسل لهم مع السائق المبلغ الفلاني من النقود.

ثلاثة وجوه لسوريّ يعمل في ليبيا

العم أبو عماد. تصوير كرم منصور

التهمة.. ليبيا

تغيرت أوضاع العمال السوريين في ليبيا بعد أن فرض مجلس الأمن القرار رقم 784 في عام 1992 على خلفية اتهام النظام الليبي بإسقاط طائرة لوكربي، وأخذت “بلاد الخير” كما يسميها أبو عماد تضيق على أصحابها بفعل الحصار الاقتصادي. 

عاد أبو عماد ومعه أكثر العمال إلى سوريا، بعضهم غيّر وجهته إلى لبنان والخليج، وبدأ اسم طرابلس يخرج شيئاً فشيئاً من التداول في محافظة السويداء ليبقى في الذاكرة على شكل أوانٍ زجاجية وصناديق ذكريات.

عدد قليل من السوريين حافظ على مصدر رزقه وبقي هناك، استقدم عائلته وأنجب المزيد من الأولاد، تأقلم مع الليبيين وتعلم لهجتهم، حتى قيام الثورة الليبية عام 2011، فعادوا ووجدوا أنفسهم مضطرين  للهرب من الفوضى التي بدأت تضرب البلاد. 

كان من بين المقيمين عائلة رامي (28 عاما) الذي يعيش في لبنان منذ عام 2014. ولد رامي في بنغازي لوالدين تعود أصولهما من السويداء، درس الإعلام في جامعة عين شمس في القاهرة ثم عمل صحافياً في جريدة ليبية، أول وآخر عمل له والسبب المباشر لمغادرته الأراضي الليبية. 

“في نهاية شهر شباط (فبراير) اقتحمت مجموعة من الملثمين مكتبنا، جمعوا بطاقاتنا، وعندما علموا أنني سوري اعتقلوني وحققوا معي، اتهموني بالعمالة لنظام الأسد الداعم للقذافي، قبل أن يتدخل وسطاء ليبيين للإفراج عني”.

في نهاية شهر شباط (فبراير) اقتحمت مجموعة من الملثمين مكتبنا، جمعوا بطاقاتنا، وعندما علموا أنني سوري اعتقلوني وحققوا معي، اتهموني بالعمالة لنظام الأسد الداعم للقذافي، قبل أن يتدخل وسطاء ليبيين للإفراج عني

خلال مقابلتنا التي أجريتها على السكايب مع رامي المقيم في لبنان، روى لي رحلة خروجه من ليبيا، يقول: “بدأت الأوضاع الأمنية تتدهور عام 2011، فخصصت السفارة السورية ثلاث طائرات لإجلاء السوريين أسبوعياً، في حين أن أعداد السوريين الراغبين بالرحيل كانت أكبر من ذلك مما اضطر بعض العائلات إلى الخروج عبر باخرة لتحميل مواد البناء كانت قادمة من الجزائر ومتجهة إلى ميناء مرسين في تركيا”.

يتذكر رامي تلك الحادثة في نيسان (أبريل) من ذلك العام، “كانت السماء تمطر عندما صعدت مع أهلي إلى الباخرة، أخذت معي حقيبة ظهر وكاميرتي فقط، فلم يسمح لنا بأخذ أي أمتعة”.

كان رامي ينظر من خلال كاميرته التي فتح عدستها لتوثيق تلك الرحلة والظروف السيئة في باخرة مخصصة لنقل البضائع أساساً وليس الركاب. “أكثر من ألف شخص تم تكديسهم في هنجارات البضائع على سطح الباخرة، وما أن وصلوا حتى كان أمامنا خياران، إما البقاء في تركيا أو العودة إلى سوريا.. قرر والدي أن نعود إلى سوريا عبر المعابر الشمالية التي كان النظام السوري لا يزال مسيطراً عليها”.

يتابع رامي، “عند وصولنا الى معبر باب الهوى في الساعة الثالثة فجراً فصل الرجال عن النساء والأولاد ليبدأ التحقيق معنا. بعد ذلك صودرت الكاميرا التي وثقت فيها الرحلة وأعطوني ورقة لمراجعة  فرع فلسطين أحد أسوأ الأفرع الأمنية في سوريا”.

منذ ذلك الوقت أصبحت ليبيا تهمة تلاحق رامي، يتذكرها كل شهر أثناء مراجعته مع والده فرع المخابرات، “نخرج من السويداء عند الساعة السادسة صباحاً باتجاه دمشق، نصل إلى أبواب الفرع عند الثامنة صباحاً، يسألنا العسكري عبر النافذة: ما سبب المراجعة؟ نقول ونحن مطرقي الرأس: ليبيا. تبدأ حفلة الشتائم والإهانات بتهمة أننا على تواصل مع الثوار الليبيين.. نصل إلى المحقق الذي يكون جلّ تحقيقه معنا عن موقفنا من الصراع هناك، يعطينا ورقة مراجعة جديدة موعدها بعد شهر ونعود إلى المنزل”.

يختم رامي حديثه، “ليبيا باتت تهمة بالنسبة لي. كنا أنا ووالدي نخضع كل شهر لاستجواب في فرع فلسطين، خوفاً من أن نكون مؤيدين للثورة الليبية”.

بقي رامي وغيره من العائدين من ليبيا يخضعون لجلسات تحقيق في فرع فلسطين خلال العام الأول من قدومهم، بواقع جلسة كل شهر، ثم بدأ الفرع يرسل مندوباً إلى بيوتهم كل شهرين، وهو ما دفع رامي في عام 2014 للسفر إلى لبنان والاستقرار هناك هرباً من تهمة ليبيا التي ولد وعاش فيها.

اليوم يتعامل رامي مع ليبيا كأنها من الماضي، “أتابع نشرات الأخبار المحلية، أتواصل مع أصحابي الليبيين.. نتذكر أيام زمان ونتحسر على ما آلت إليه الأمور في بلدينا”.

ميدان للقتال والارتزاق

في شهر شباط (فبراير) من عام 2020 عاد اسم ليبيا للتداول بين أهالي السويداء، بعيداً عن الذكريات، وإنما كبوابة للارتزاق والعمل لدى الشركات الأمنية، بعدما فتحت روسيا باب التجنيد للقتال هناك وقدمت الإغراءات المادية لذلك.

تسهيل انتقال المرتزقة كان عن طريق وكلاء لشركة “الصياد” الأمنية الخاصة التي يترأسها رجل الأعمال السوري فواز جرجس وشركة “فاغنر” الروسية التي ينتشر مندوبوها في السويداء، والتي اتهمتها تقارير من الأمم المتحدة بالضلوع في تجنيد مرتزقة سوريين.

نورس، 32 عاماً، أحد هؤلاء الذين خاضوا التجربة، يفتح صالون الحلاقة الخاص به في مدينة السويداء متأملاً الاسم أعلى المحل، “نورس للحلاقة الرجالية“، ومردداً بسخرية “شكراً روسيا.. شكراً ليبيا”.

نورس متزوج ولديه طفلان، عمل موظفاً حكومياً في السويداء إلى أن استدعي في العام 2014 للالتحاق بالخدمة الاحتياطية في جيش النظام. رفض الالتحاق وقرر البقاء في منزله، وفي الوقت نفسه صدر قرار بفصله من الوظيفة. “كنت أخاف من الانخراط بحمّام الدم دون جدوى.. أو أن أموت على إحدى الجبهات ولا يسمع بي أحد”.

في شهر شباط (فبراير) من عام 2020 عاد اسم ليبيا للتداول بين أهالي السويداء، بعيداً عن الذكريات، وإنما كبوابة للارتزاق والعمل لدى الشركات الأمنية، بعدما فتحت روسيا باب التجنيد للقتال هناك وقدمت الإغراءات المادية لذلك.

خلال فترة اختفائه تعلم نورس من صديق له مهنة الحلاقة الرجالية وعمل مساعداً له في محله لمدة 12 ساعة يومياً مقابل ما يعادل حوالي 30 دولار بالشهر. كان سعر صرف الليرة السورية في طريقه إلى المزيد من التدهور، وانقطع المرتب الحكومي والمميزات المصاحبة للوظيفة، فتقلصت الخيارات أمامه للاستمرار في العيش، “أصبحت عاجزاً عن سداد نفقات تعليم أولادي، ومغادرة سوريا لم تكن متاحة لأن اسمي تم تعميمه على جميع الحواجز”.

خلال تصفح نورس إحدى مجموعات السويداء على الفيسبوك، صادف إعلاناً عن فرصة عمل لدى شركة أمنية، كحارس منشآت نفطية في ليبيا بمرتب قدره ألف دولار شهرياً. “نظرت إلى الاعلان على أنه الفرصة الأخيرة لانقاذنا من الجوع الذي يهددنا.. الحساب كان بإسم امرأة.. قمت فوراً بمراسلتها وأعطتني رقم هاتفها للتواصل”.

قرر نورس الاتصال وشعور التردد يسيطر عليه، “ترى هل هذا الإعلان صحيح؟ أم أنه فخ من عصابات الخطف التي تنتشر في السويداء؟ هل سأتمكن من السفر؟”. 

في صباح اليوم التالي دخل إلى صالون الحلاقة واتصل بصاحبة الرقم باكراً قبل قدوم الزبائن ففوجئ بصوت رجل على الهاتف يقول له، “نعم صحيح.. الإعلان بخصوص ليبيا”، وطلب منه القدوم إليه مصطحباً صورة عن الهوية وصورة عن دفتر الخدمة وإخراج قيد مدني وصور شخصية.

يقول نورس، “ذهبت إلى المكان المتفق عليه وهو منزل لشخص مدني يعمل مع المخابرات العسكرية التابعة للنظام، ويعرف نفسه بمهنة “مندوب سفر إلى ليبيا”. كان في المنزل مجموعة من الشبان يصطحبون أوراق مشابهة”.

ويتابع أن “المندوب” باشر الحديث عن نفسه بإنه جزء من الجهاز الأمني، وأن الطلبات سترسل إلى فرع الأمن العسكري في دمشق لتأخذ الموافقات الأمنية اللازمة، ثم طمأن الحاضرين أن الباب مفتوح لجميع الملتحقين، حتى الملاحقين بتهم جنائية أو مطلوبين للخدمة العسكرية، وأن المخابرات العسكرية سوف تؤمن نقلهم دون الخضوع لأي مساءلة قانونية.

في القاعدة الجوية

أثار تجنيد شباب السويداء ودفعهم للقتال كمرتزقة في ليبيا حفيظة العديد من وجهاء السويداء وفصائلها، أبرزهم فصيل “قوات الفهد” أحد أكبر الفصائل المسلحة في المحافظة، الذي أصدر بياناً جاء فيه أن “تجنيد المرتزقة مخالف لعادات وتقاليد أهل السويداء”، وأن ما يجري في ليبيا نزاع داخلي تغذيه أطراف دولية كما يحصل في سوريا، ولا يجوز الاصطفاف فيه إلى جانب أي طرف. وجاء في البيان أن “ليبيا وشعبها لهما الفضل على الكثير من السوريين وخصوصاً أبناء السويداء منذ عشرات السنين، وهي مقصد للمغتربين منذ عقود”.

جمع نورس زوجته وعائلته وفاتحهم بالأمر وطلب ممن يعترض أن يعطيه حلاً بديلاً، “والدي كان غاضباً من قراري من مبدأ ديني وأخلاقي وقال إن هذا ارتزاق وتشويه لسمعة العائلة، في حين خافت زوجتي من أن أقتل هناك”.

بعد أربعين يوماً وصلت الموافقة الأمنية، وتوجه نورس إلى قاعدة حميميم، لإجراء اختبارات جسدية قبل سفره، وهي قاعدة عسكرية جوية روسية تقع شمال غربي سوريا.

“وصلنا حوالي الساعة الحادية عشرة صباحاً، قاموا بتفتيشنا على الباب، صادروا جميع أجهزتنا الخلوية وطلبوا منا عدم التواصل مع أي شخص تحت أي ظرف.. نحن مجموعة السويداء كما أسموننا ونبلغ حوالي 150 شاباً توزعنا على 3 حافلات كبيرة، كانت أعمارنا تتراوح بين 20 عاماً وأواخر الثلاثينيات، بعضهم مطلوب للخدمة الإلزامية، وبعضهم مطلوب بقضايا جرمية والباقي مدنيين دفعهم الجوع إلى الالتحاق بهذه المعسكرات”.

اجتمع نورس في القاعدة الروسية مع ثلاث مجموعات كانت هناك، إحداها من دير الزور وأخرى من حمص وأخيرة من اللاذقية، تم تجنيد هذه المجموعات من قبل وسطاء تابعين للأمن العسكري ثم نقلوهم إلى معسكر الطلائع في اللاذقية الذي تسيطر عليه أيضاً القوات الروسية.

عاد نورس بعد حوالي ثلاثة أشهر إلى بيته في السويداء، متفاجئاً بما حصل معه. لم يعمل حارساً لمنشآت نفطية، ولم يخض قتالاً كذلك، كان يعمل بأعمال سخرة في حفر الخنادق ورصف الطرق ضمن معسكرات تابعة لقوات حفتر وتخضع للإدارة الروسية.

كان القلق يسيطر على نورس ورفاقه وهم ذاهبين إلى المجهول، إلى بلاد لم يسمعوا عنها إلا من خلال نشرات الأخبار، أو من أحد الأقارب والمعارف التي زاروا ليبيا في “زمن الخير”، يقول نورس. “الخوف كان بادياً على جميع الوجوه، حتى من وراء الابتسامات التي كنا نتبادلها، كان السؤال بالنسبة لنا: من سيكون عدونا؟ ماذا اذا وقعنا في الأسر؟ ماذا لو متنا مقابل ألف دولار؟”.

القلق الذي صاحب نورس كان يبدده تذكر كلام المندوب الذي قام بتجنيده، “أنتم الذاهبون إلى منطقة الجفرة سوف تتمتعون بالكثير من الأكل هناك مقابل عملكم في نوبات الحراسة فقط”.

عند وصول الحافلات إلى معسكر الطلائع في اللاذقية وانتهاء إجراءات الفحص الطبي انتقل نورس ورفاقه إلى مطار اللاذقية لتقلّهم طائرات مدنية تابعة لـ “خطوط أجنحة الشام” إلى ليبيا.

عاد نورس بعد حوالي ثلاثة أشهر إلى بيته في السويداء، متفاجئاً بما حصل معه. لم يعمل حارساً لمنشآت نفطية، ولم يخض قتالاً كذلك، كان يعمل بأعمال سخرة في حفر الخنادق ورصف الطرق ضمن معسكرات تابعة لقوات حفتر وتخضع للإدارة الروسية.

في نهاية حديثي مع نورس سألته: هل ستكرر هذه الرحلة مرة ثانية؟ يجيب مبتسماً: “لن أكررها، صعبة هي حياة العبيد، نشعر بصعوبتها ونحن نراها على شاشة التلفاز فما بالك وقد عشتها؟.. لكني سعيد بأني تمكنت من افتتاح محل حلاقة خاص بي وبأني لم أعد ملاحقاً من أجهزة المخابرات”.

ثلاثة وجوه لسوريّ يعمل في ليبيا

تصوير كرم منصور

نعم.. أنا في ليبيا 

خلال إعداد هذه الريبورتاج كنت قد حصلت على رقم شاب اسمه يزن، يعمل دهّاناً في السويداء وينوي السفر إلى ليبيا عن طريق أحد مندوبي الشركات الأمنية. قمت بمحادثته لأعرف أين وصلت رحلة بحثه بعد أن أرسل أوراقه إلى المندوب أملاً في الحصول على موافقة أمنية للقتال هناك.

-أين أنت، هل سافرت إلى ليبيا؟
-نعم.. أنا في ليبيا الآن، في بنغازي..

فاجأني رد يزن، فإذا كان في ليبيا يجب أن يكون في مصراتة أو الجفرة أكثر المناطق التي ترسل روسيا مرتزقتها السوريين إليها. أخبرني يزن عندها قائلاً: “لم أخرج للقتال في ليبيا، قامت والدتي ببيع صيغتها وسافرت كمدني لأعمل هناك”.

بنغازي تشبه السويداء، الناس هنا طيبون، يعاملوننا بكامل الاحترام، عند المساء قد تقع في كمين لأحد ما يريد أن يسلبك نقودك، مثل حال السويداء، إنهم يشبهوننا تماماً

سألت يزن عن وضعه المعيشي، أجابني بأن “بنغازي تشبه السويداء، الناس هنا طيبون، يعاملوننا بكامل الاحترام، عند المساء قد تقع في كمين لأحد ما يريد أن يسلبك نقودك، مثل حال السويداء، إنهم يشبهوننا تماماً”.

يزن لا يفكر بالعودة إلى سوريا تحت أي ظرف، يعمل الآن كي يحسن معيشة عائلته في سوريا، وربما يخرج إلى أوروبا إذا سنحت له الفرصة بذلك.