fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

ثقب أسود تختفي فيه الطيور 

لماذا تشعر الطيور في لبنان بالخوف عندما يشعر اللبنانيون بالأمان؟
ــــــــ الحيوانــــــــ حالة أرض
14 يونيو 2022

كنت طفلاً أرافق أبي حين رأيت للمرة الأولى بحرًا من الناس في سهل من سهول الهرمل. مئات البنادق الموجهة إلى السماء تلمع تحت الشمس، وأصوات مكبرات الصوت تختلط ببعضها. صيادون أتوا إلى البقاع الشمالي من كل منطقة في لبنان ومن كل طائفة، توحدهم الرغبة بقتل طيور المطوّق، نوع من القبرات التي تصل من أوروبا في موسم الهجرة الخريفية، ما بين تشرين الأول والثاني، فتجد الصيادين مستعدين ببنادقهم لاستقبالها.

في المواسم الأخرى، كان الصيادون يأتون ثانيةً لصيد الفري أو السمّن، وينتقلون لملاحقة الطيور في الجنوب والبقاع الغربي، ما دفع البعض للحديث عن دور الصيد في دمج اللبنانيين ببعضهم لا سيما وأن الحرب قد وضعت أوزارها للتو، وزالت الحواجز وصار بإمكانهم أن يختلطوا طائفيًا لقتل الطيور بدلًا من بعضهم البعض. 

يذكر محمد مرعي، أحد الصيادين القدامى في عكّار، أن هذه المجموعات الضخمة من المطوق لم تبدأ بالظهور على هذا النحو إلّا في الثمانينيات، العقد الذي شهد تحولًا كاملًا في سلوك الصيادين. قبل ذلك: “كنا ننظر إلى المطوق أو السمّن كما ننظر إلى عصفور الدوري اليوم. أي أنه نوع غير مخصص للصيد. ومنذ بدأت أعداد الصيادين تتكاثر بشكل كبير خلال الحرب الأهلية، انخفضت أعداد الطيور التي نصطادها وصارت الناس تستهدف أنواعًا جديدةً”. 

كان الصياد أيضًا يمارس الصيد كرياضة وهواية فيها المشي واستكشاف الطبيعة، وكان هناك اتفاق ضمني على اصطياد أنواع محددةٍ فقط، ولكن ذلك كله تغيّر مع الحرب. “أصبحوا يصيدون كل شيء، وأكثر من نصادفهم، يذهبون إلى الصيد للجلوس على كراسي قرب سياراتهم، ويجذبون الطيور بآلات التسجيل الصوتية. البعض يثبّت أشجارًا مضيئةً خلال الليل مع ماكينات صوتية تستدرج السمّن، وهكذا لا يعرفون من طقس الصيد إلا ارتداء ملابسه والخروج من المنزل” بحسب مرعي.

أتذكر الأشجار التي يتحدث عنها مرعي، فخلال موسم صيد السمّن كانت البلدة خلال الليل تصبح غابة من الأشجار المرسومة بالضوء. كان المشهد ساحرًا بالنسبة للطفل الذي كنته رغم العنف الذي ينطوي عليه، خاصة حين تعبر الرفوف الكبيرة من السمّن المهاجر ليلًا، وخلال مروره يسمع مكبرات الصوت ويرى الأضواء فتنطلي عليه الخدعة ويقرر الهبوط من السماء، ظانًا أن رفوفًا سبقته إلى الأرض، ربما عثرت على الماء أو الطعام.

مارستُ الصيد لسنوات قليلة خلال المراهقة، ثم توقفت بعد انتقالي الى بيروت وتغير وعيي البيئي. في السابق كانت الطيور بالنسبة لي كائنات بلا روح ولا تشعر بالألم، كما أن قتلها كان مثل أي لعبة على الكمبيوتر، وساهمت ممارسة أبي للصيد في أنني استبعدته من أي مساءلة أخلاقية ..

لم يستعمل أبي مسجلات الصوت، كان يعتبرها غشًا، لكنه مع ذلك كان يستعمل طرقًا أخرى للتحايل. كنا نربي الحجل في المنزل، والحجل ليس طائرًا مهاجرًا بل إنه ابن الجبال اللبنانية. كما أن صيده من التقاليد التي ترتبط بالرجولة والقوة لأنه يتطلب مشيًا لفترات طويلة للوصول إلى أمكنة وجوده. 

في رحلات الصيد، كنا نأخذ الحجل معنا، يضعه أبي في موقع مكشوف، ثم نختبئ في انتظار مجيء أبناء جنسه. مؤخرًا عرفت الحقيقة المحزنة؛ وهي أن تلك الرحلات تحدث في وقت التزاوج وتلعب على رغبة الذكر بالأنثى.كنا نضع أنثى الحجل في القفص فتصدر أصواتًا تجذب الذكور. الصيد في هذه الفترة هو الأسهل، إذ يفقد الحجل حذره المعتاد بسبب حماسه لملاقاة الأنثى.

مارستُ الصيد لسنوات قليلة خلال المراهقة، ثم توقفت بعد انتقالي الى بيروت وتغير وعيي البيئي. في السابق كانت الطيور بالنسبة لي كائنات بلا روح ولا تشعر بالألم، كما أن قتلها كان مثل أي لعبة على الكمبيوتر، وساهمت ممارسة أبي للصيد في أنني استبعدته من أي مساءلة أخلاقية.

يكرس الأب اللبناني الصياد الوقت لتربية الصيد لدى أبنائه في عمر مبكّر باعتبارها هواية رجولية تنضج الذكورة لديهم. تمامًا مثلما تربي الأم ابنتها على الأدوار التقليدية للأنثى، هكذا يبدو قتل المراهق للطيور أشبه بمحاولة للتخلص من الطفل/الأنثى داخله. يصبح الانتقال الى مرحلة البلوغ عند الذكور مرادفًا للقطع مع التعاطف، وتطبيعًاً مع العنف والسيطرة.

حين قتلنا البجع بالكلاشنكوف

يأتي لبنان اليوم في الموقع التاسع عالميًا في عدد أسلحة الصيد لكل فرد، بحسب دراسة مسحية سويسرية.

كما أن هناك نحو 400 مؤسسة مرخصة تعمل في قطاع الصيد البري، في طليعتها المحلات التجارية التي تبيع أسلحة وذخائر وأدوات الصيد. وهذا يفسر الرقم المخيف لـ ضحايا الصيد الجائر من الطيور، حيث يُقتل في لبنان سنويًا مليونين وستمئة ألف طير. 

لكن لبنان لم يكن دائمًا ثقبًا أسود للطيور المهاجرة، يروي الصيادون الأكبر سنًا أنه لم يتحول إلى مركز لصيد الطيور إلا في الستينيات والسبعينيات، مع رواج بواريد الدك ثم بدء استيراد أسلحة بأسعار منخفضة من تركيا وبلدان أخرى. قبل ذلك كان الصيد يمتلك شعبية عند طبقات معينة. 

يقول أنطوان ضاهر، وهو ناشط بيئي من  بلدة القبيات: “خلال طفولتي في الستينيات كان الصيد هواية مميزة وذكورية يمارسها السياسيون ونجوم المجتمع كما الموظفون، أساتذة الجامعة أو أي شخص قادر ماديًا. أشهر هؤلاء كان الرئيس كميل شمعون الذي كان يحكي للصحافة عن رحلاته إلى مناطق لبنانية نائية ويستفيض بالشرح عن مجموعته النادرة من الأسلحة.

كان الأب يهدي ابنه بندقيةً حين يحصل على شهادة السرتفيكا (الخامس ابتدائي) والصحافة تكتب عن حفلات الصيد التي يقيمها السياسيون لبعضهم خارج بيروت”.

اليوم، هناك خمسة معامل لصناعة الخرطوش في لبنان موزّعة على المناطق ومقسمة بالتساوي على الطوائف والأحزاب، حيث يتولى كل مستورد/معمل مهمة تزويد منطقته

في الخمسينيات، يخبرني أبي، أن بلدتنا الهرمل، وهي مركز قضاء في البقاع الشمالي، لم يكن فيها أكثر من عشر بواريد صيد. لكن هذا انقلب كليًا مع ظهور أنواع من البارود الرخيص (البارود الاصفر) وأسلحة الصيد الدك التي صار بالإمكان أن يصنعها الصياد بنفسه عند الحدّاد.

طبعًا لعبت زيادة أعداد الموظفين الحكوميين خلال فترة حكم فؤاد شهاب، دورًا في توسع الطبقة الوسطى وبالتالي زيادة الصيادين، كما ساهمت الحرب الأهلية في تأجيج الرغبة في الصيد: “صار مشهد المقاتلين يقتلون اللقلق والبجع بالكلاشنكوف لتمضية الوقت الضائع على الحواجز مشهدًا مألوفًا”. في الوقت نفسه تراجعت رقابة الدولة على تجارة الأسلحة بشكل عام وسلاح الصيد بشكل خاص، فتوسّعت ثم تحولّت مع الوقت إلى جزء من الحصص التي تتقاسمها الميليشيات”.

خلال الثمانينيات بدأت أنواع جديدة من الأسلحة الرخيصة الثمن تغزو الأسواق (من تركيا بشكل خاص) وأنواع الخرطوش الجاهز التي يتم استيراد مادتها الخام من الخارج ويتم تعبئتها في معامل لبنانية.

اليوم، هناك خمسة معامل لصناعة هذا الخرطوش موزّعة على المناطق ومقسمة بالتساوي على الطوائف والأحزاب، حيث يتولى كل مستورد/معمل مهمة تزويد منطقته وفق ما يؤكد أنطوان ضاهر.

توابع الصيد: ما معنى أن يختفى طائر؟ 

كانت ضريبة هذا التحولات، تراجع أعداد الطيور  في لبنان بجميع أنواعها بشكل كبير. يذكر الصيادون القدامى أنواعًا أصبحت محدودة اليوم مثل الشقراق، بعض أنواع البط البري، الدلم (حمام الغاب)، الكدري وهو قطا أسود البطن، الصفري، الزرزور، الكيخن والترغل المهدّد بالانقراض.

ومع اختفاء طيور أو ندرتها اختفت أشجار أيضًا كانت تساهم تلك الطيور في تلقيحها وقتل الحشرات والديدان المضرة بها. أحد الأمثلة الأبرز هو شجر التوت الذي كان رمزًا وطنيًا اعتمد لبنان عليه لأكثر من نصف قرن في صناعة الحرير، لكن اختفى اليوم بسبب اختفاء “نقار الخشب السوري” الذي يأكل الحشرات التي تهاجمه. 

هناك أشجار أخرى تصارع من أجل وجودها اليوم بسبب تراجع الطيور، يعاني الصنوبر والأرز مثلًا من الديدان الضارة التي تتكاثر فيه. أما اللزاب المعمّر، فمن الصعب أن تنبت أعدادٌ جديدةٌ منه في الجبل بعد اختفاء طيور الكيخن التي كانت تأكل بذوره ثم تتبرزها وهي الطريقة الوحيدة كي ينبت في الطبيعة.

لم يسلم الإنسان نفسه من الصيد، فكمية قليلة من البارود الأصفر وهي مادة سريعة الاشتعال، يمكن أن تؤدي إلى قتل أو تشويه الصياد عند أي خطأ. يقول أبي أنه خلال سنوات قليلة وصل عدد الذين يعيشون إما بعين واحدة أو بدون أصابع إلى عدد كبير في بلدتنا خلال السبعينات.

في عائلتي تعرض أبي وعمومتي لحوادث بسبب بواريد الدك، حيث دخلت رصاصة في يد أبي خلال رحلة صيد، وفقد عمي الأصغر إحدى عينيه، أما عمي الأكبر، فكان يمتلك متجرًا لبيع الخرطوش وبترت قدماه بعد انفجار المتجر بسبب سيجارة.

عودة طائر القطرس

منذ بداية أزمة كوفيد-19 في 2020، تراجع الصيد، لكن عزوف الصيادين ارتبط بشكل أساسي بالأزمة الاقتصادية أيضًا، وفق جمعيات حماية الطيور وأندية الصيد البري وكذلك أصحاب محال السلاح والخرطوش الذين يتحدثون عن تراجع البيع بنسبة 90%، حتى أن بعض متاجر الصيد الصغيرة أغلقت أبوابها بشكل نهائي، ووصلت  أخرى إلى شفير الإفلاس. مع ذلك، تبقى المتاجر والمعامل الكبيرة التي تحتكر السوق والاستيراد على قيد الحياة.

يقول أدونيس الخطيب، المسؤول عن ملف الصيد في “جمعية حماية الطبيعة في لبنان” ومدير “مركز الشرق الأوسط للصيد المستدام” إن الصيد تراجع بشكل غير مسبوق في لبنان منذ بداية الأزمة.

“توقف مَن لا يمارسون الصيد كهواية أساسية تمامًا، أي الشباب الذين يصطادون في البساتين قرب المنزل أو يمارسون الهواية تقليدًا لأصدقائهم. المدمنون على الصيد لن يتوقفوا بسهولة. لكن ما حصل أن مشاويرهم في الموسم قلّت إلى أكثر من النصف بسبب غلاء البنزين وذخائر الصيد”.

قابلتُ صيادين من مناطق مختلفة أجمعوا على زيادة ملحوظة في أعداد الطيور المقيمة والمهاجرة التي قلّ صيدها. وأكدت على كلامهم “جمعية حماية الطيور في لبنان” التي تملك مرصدًا لإحصاء الطيور سجّل في 2021 زيادة في الطيور المهاجرة مقارنة بالأعوام الماضية.

في المرصد، يقوم العاملون بإحصاء بعض الأنواع حين تمر خلال الخريف ثم يقومون في الربيع بالأمر نفسه ليتمكنوا من حساب حجم انخفاض أو ازدياد الأسراب.

وجد المرصد هذا العام وفق روجيه سعد، رئيس الجمعية، أن خسائر طيور العقاب واللقلق كانت أقل بخمسين بالمئة من الأعوام السابقة، كما زادت أعداد أنواع مستوطنة من الطيور بوضوح مثل الغراب والشحرور.

أما بعض الطيور البحرية التي تضع أعشاشها على الشاطئ، مثل الحجال التي عانت من تراجع مخيف سابقًا، فقد لوحظ اليوم ازدياد أعدادها. أما صقر الجراد (العوسق) الذي لم يره أحد منذ وقت طويل فقد عاد إلى التحليق والظهور في مناطق مختلفة.

وينطبق ذلك على طيور مائية مثل القطرس الذي تم تسجيل عدة مشاهدات له وهو طائر كان مستوطنًا في لبنان لكن اختفى لفترة طويلة، والبلشون الذي لوحظ تزاوج أعداد منه في البقاع الغربي.

ويظهر أن اللقلق والرهو (الكركي) الذي كان يتعرض لإطلاق النار خلال الحرب، يشعر بالأمان أكثر من السابق، فضلّا عن أنواع بنت أعشاشها على الكورنيش خلال فترة الحظر لكنها توقفت عن ذلك بعد عودة الناس إليه.

في لبنان هناك حرب ضد الطبيعة زادت في السنوات الأخيرة مع زيادة الحرائق والكسارات ومناطق البناء وجرائم تلويث البحيرات والأنهار إلى تفاقم قطع الأشجار والعجز عن حل لأزمة النفايات

لم توجد هذه الجمعيات وهذا الاهتمام بالطيور والمحافظة عليها إلا بعد أن انتهت الحرب الأهلية، وحتى مع وجودها فلبنان اليوم أرض لخمسمئة ألف صياد، المرخصون منهم فقط عشرين ألفًا، رقم تؤكده جمعية الحفاظ على الطيور ومنظمة Birdlife International، والذي جرى تقديره من أعداد الصيادين المرخصين ومن بيانات متاجر الصيد وحجم المبيعات لديها، ولكن هذا الرقم لم يجر تحديثه بعد الأزمة.

لكن هذا الاهتمام المدني بالبيئة ساهم في إصدار قرار بمنع الصيد عام 1993، وفي عام 2004 صدر قانون الصيد البري (لم يطبق حتى 2016)، والذي يتيح تحديد موعد فتح موسم الصيد والأنواع التي يسمح صيدها والفترة الزمنية التي يمنع الصيد فيها نهائيًا، كما منع استخدام أساليب الصيد بالشبك، ومكبرات الصوت، والشجر المضاء، واستخدام الطيور في الأقفاص، ويتوجب على الصياد امتلاك رخصة صيد رخصة حمل سلاح لمزاولة الهواية.

رغم ذلك ظلّت متاجر الخرطوش وأدوات الصيد تعمل كالمعتاد، تملأ إعلاناتها التجارية الطرقات وتقدم العروضات المخفضة على الأسلحة والذخائر، وبعضها يبيع علنًا الأدوات الممنوعة بنص القانون.

في العام الماضي، أخذت وزارة البيئة للمرة الأولى قرارًا منذ إعمال القانون، بعدم فتح موسم الصيد، وهناك توصية لم يبت في أمرها من قبل نشطاء البيئة بعدم فتح الموسم هذا العام أيضًا، وهؤلاء يرون أن هناك حاجة ماسة لإغلاق موسم الصيد ما بين خمس إلى سبع سنوات على الأقل ليتاح للطبيعة أن تستعيد بعضًا من عافيتها.

“لكل طائر وظيفة في النظام البيئي، لذلك يقود قتله الجائر إلى خلل في السلسلة الغذائية، وهذا يؤثر على الحيوان الأعلى مرتبة والأقل مرتبة” يوضح هشام يونس من جمعية “الجنوبيون الخضر”. في لبنان هناك حرب ضد الطبيعة زادت في السنوات الأخيرة مع زيادة الحرائق والكسارات ومناطق البناء وجرائم تلويث البحيرات والأنهار إلى تفاقم قطع الأشجار والعجز عن حل لأزمة النفايات. علينا أن نمنح الطبيعة فرصة للتنفس واستعادة توازنها، حينها نفكر إن كان علينا أن نفتح موسم الصيد وضمن أي شروط”.