fbpx
تصوير: samchills. تحت رخصة المشاع الإبداعي

موت لثماني ساعات يوميًا.. وربما أكثر

25 عاماً قضيتها في تبذير المواهب والقوى وفي الانصياع لأوامر الأغبياء .. وأنا أنتظر أن أكون يوماً ما جثة لا تعني أحداً.
ــــــــ العمل
9 فبراير 2021

يُكتب على الشيك: أعطوا للسيد محمد دريوس مبلغاً وقدره 45 ألف ليرة سورية، نظير موته لدينا كل يوم لمدة ثماني ساعات.

في إحدى المرات، طلبت مني والدتي أن أنفّذ واحدة من تلك المهام السخيفة والتي يصعب على طفل مغرم بالكتب القيام بها، وعندما رفضتُ ذلك، رفضت إطعامي، قائلة تلك الجملة السحرية والتي أحسست أنها نوع من الأحاديث النبوية التي لا يجوز معارضتها: “من لا يعمل، لا يأكل”.

لقد اتفق الجميع على ضرورة العمل: الأديان والقادة السياسيون والبنك الدولي، النقابات وأحزاب البيئة، المذيعون وخطباء يوم الجمعة، وغالباً ما تأتي بعدها جملة: كي تكوّن نفسك، وكأن لا نفس لي إلا بإرهاق روحي وسفحها على مذبح العمل المقدس، وكأن “نفسي” حمار بنّي صغير، نبتة غضّة، يجب أن أتعهّدها بالعمل وبذل الجهد لتنمو وتعطي ثماراً، أقدمها فيما بعد للرب/صاحب المصنع الأكبر/الرأسمالي المتخم/زعيم أباطرة المال، ليقيّم ثمنها ويقرر على أي رفّ سيركنني.

كنا نظن أن عملاً بسيطاً، كقص الحكايات الطريفة، كتابة مقالات ساخرة أو إيصال الرسائل الغرامية، أو الأعمال المجهدة، كحفر المناجم، صبّ القوالب البيتونية وتوصيل السكك الحديدية، يمكن أن يكفي الواحد منا كي يعيش بسلام، يكمل الدورة الإنسانية وينجب أطفالاً يشبهونه، يصرخ بهم أحياناً ويكافئهم على نجاحاتهم في المدرسة، لكن ثورة العمل المعولم وصلت، وأصبحت الثروة تصنع في أماكن بعيدة عن أماكن العمل، تصنع في عالم خيالي لا نكاد نعرف عنه شيئاً.

ويلزمك لأن تنضم لـ “أخوية الأثرياء الكسالى” معجزة ليست أقلّ من السير على الماء أو تحويل العصا الخشبية لأفعى، وأصبح الشخص الذي لا يستطيع بيع جهده أو قوة عمله شخصاً لا حاجة له في العالم الحديث، منبوذاً، محتقراً، وفي أفضل الأحوال، “فاقداً للموهبة”.

صناعة الأحلام

لم أكن كسولاً، حتى على العكس، كنت مفعماً بالطاقة وأنغمس بكليتي فيما أحبه، لكني لم أعتن بالجانب المهني في مهاراتي، لم أمارس مهناً معرّفة بدقة، بحيث أستطيع القول: أنا محمد دريوس، دهّان، على سبيل المثال، أو بلّاط. 

كانت المهنة التي شغفت بها فقط هي “صناعة الأحلام”. كنت أقضي ليالي وأنا أضع نفسي مكان أبطال الروايات، الكوميكس والقصص الروسية، وأخلط “عباساً بدبّاس”، كأن أضع باتمان مكان السندباد، والنبي مكان تان تان، وهذا ما خلق مشكلة في حياتي، عرفتها لاحقاً.

تسألني موظفة مكتب التوظيف في فرنسا “Pôle Emploi”: ماذا تريد أن تكون؟ لم تسعفني اللغة ولا حتى اللياقة بالتأكيد، للقول: أنا “كنتُ” و”كائن” حتى اللحظة، ولا حاجة لي لـ “أكون” مجدداً. لا شيء، أريد أن أصبح “لا أحد” حرفياً، أريد أن أختفي كـ “نشوة صغيرة”، لأقرأ وأكتب، أو لأفعل لا شيء تماماً. 

قلت: لا أعلم بدقة، أنا كاتب وشاعر، أرغب بالكتابة فقط، قالت: نعم، فكرة ظريفة، لكن ما رأيك بصناعة الخبز؟ أو العمل في توصيل الطلبات مثلاً؟ إنه عمل يجني مالاً جيداً، ولاجئ مثلك يحتاج لبعض المصاريف بالتأكيد.

بالنسبة لها، فرانسواز أو كاترين أو لا أعلم كيف ينطق اسمها “المثالي”، يجب أن يكون لدي عمل لأكون “أحداً ما”، أن أسجد لهذا الصنم المثالي الذي خلقته قوانين السوق، أو أن أقدّم أسبابي الوجيهة التي تمنعني، كأن أكون مريضاً أو معاقاً، لكن ليس رافضاً لفكرة العمل برمتها. 

يجب علي أن أحاول دفع ثمن الرغيف الذي آكله والنبيذ الذي أشربه، أن أنخرط في برامج طويلة من المحاولات، “وإذا كنتَ من غير ذوي المهارات فلدينا لأمثالك أعمالاً بسيطة لا تحتاج ذكاء خاصاً: تنظيف الشوارع من أوراق الخريف، مسح النوافذ أو تنظيف إسطبلات الخيل. لا تتوقف، اعمل، اعمل، اعمل، لن تكون رجلاً بدون عمل، العمل يمنحك قضيباً وخصيتين تستطيع أن تنكح بهم مؤسسة الضرائب”.

موت لثماني ساعات يوميًا.. وربما أكثر

تصوير: Stéphane PERES. تحت رخصة المشاع الإبداعي

دورات لتعليم القنص

خلال القرنين المنصرمين، أصبحت جميع النظريات الاجتماعية والأحزاب السياسية مهووسة بالعمل، تصارع اليمينيون واليساريون، الاشتراكيون والمحافظون، الفاشيون والديمقراطيون، بضراوة في البرلمانات وفي الشوارع، وبالرغم من كل هذا فقد اتفقوا على شيء واحد: “العاطل عن العمل سيذهب إلى الجحيم، مع علامة (متمرّد) على جبينه”، وفي نهاية القرن العشرين وبداية الواحد والعشرين، عندما تلاشت الفروقات الكبيرة بين الإيديولوجيات، بقي العمل كعقيدة ثابتة، فاشية، قاسية، ترهق من يفشل في اكتساب مهارات مطلوبة من أرباب العمل الذين تزداد متطلباتهم يوماً بعد يوم.

“الوقت هو مال”، العمل هو نقود إضافية في أرصدة البنوك، لا يهم طبيعة عملك الاجتماعي، ما تقدمه أو لا تقدمه للمجتمع، للتطور اليومي، للراحة البشرية، المهم أن تعمل، أن تنفق جهدك، أن تجرّد عملك من أي مضمون إنساني، وأن تستمرّ في سلسلة التروس تلك إلى الأبد.

لا يهمّ إن كنت تقوم بإنتاج قنابل كيميائية، تصنع ألغاماً مضادة للدروع أو تلوث الماء والهواء والتربة بمزروعاتك المعدّلة وراثياً، المهم أن تعمل وينتج عملك سلعاً تتحول إلى مال مجرّد تدفع عنه ضرائب للحكومات، يصبح عملك “حربياً”، لا أخلاقياً حتى، يتجرّد من “روحه” الاجتماعية ويصبح جثة ميتافيزيقية، لكنها حقيقية أيضاً.

حسناً، أنا أرغب بذلك، لكن الأمر يشبه أن ترغب بأن تكون صيّاداً، تقتني بندقية وتسجّل دورات لتعليم القنص، تحصل على رخصة بحمل السلاح والصيد، ثم ببساطة لا تجد فرائس تقتنصها، هكذا نستطيع أن نشبّه العاطلين عن العمل.

عالم من سائقي الـ Uber

كل سنة تلقي الجامعات بمئات الآلاف من الخريجين الجامعيين إلى الشارع، حملة الماجستير والدكتوراه، بينما ينخفض التوظيف أكثر فأكثر. هل انتهت الجامعات كما كنا نعرفها “منارات التنوير ورفد أسواق العمل بالاختصاصيين”؟ 

في الربيع الماضي نشرت صحيفة نيويورك تايمز افتتاحية كتبها مارك تايلور، رئيس قسم الدين في جامعة كولومبيا، تتحدث عن هذه المشكلة بالذات. يقول إن الجامعات وبرامج الدراسات العليا فيها تفشل في إيجاد وظائف لائقة لخريجيها، في حين يجد حملة البكالوريا والعمال المهرة، الخريجون العاديون الذين اكتفوا بدرجة البكالوريوس أو الليسانس وظيفة مقبولة. يصعب الأمر أكثر على حملة الشهادات العليا، وكأن السوق يرفضهم ببساطة. 

ويقترح تايلور الكف عن تقديم مثل هذه الشهادات، وإغلاق الأقسام التي تقوم بتدريس الفنّ والتاريخ واللاهوت، أي التركيز على ما هو “مفيد” فحسب، فالعالم لا يحتاج لمزيد من الشعراء وحملة الأوهام الكبرى، بل يحتاج لسائقي Uber.

بالرغم من السخرية اللاذعة التي تلقاها كاتب المقال من باحثين ونقاد وفنانين، إلا أن نظرة الاحتقار هذه تسود “العالم” الذي أصبح سوقاً للاستهلاك فحسب، والأمر لا يتعلق فقط بنظرتنا إلى العالم من حيث درجة إفادتنا منه، إنه مثال لتحويل القيم البشرية، الجمالية والفكرية، إلى قيم ذات “سعر سوقي”، نافعة أو غير نافعة، تصلح لوضعها في الصالون والتباهي بها أمام الزوّار أم لا، ماذا يعني دراسة التاريخ، الفن، أو تاريخ الفن، إذا كنت تتحصّل على دخل لا يوازي دخل أي عامل متوسط المهارة؟ 

موت لثماني ساعات يوميًا.. وربما أكثر

تصميم: maherbyron

جثة.. لا تعني أحداً

لقد استغرقت وقتاً طويلاً في “مولينيكس” العمل تلك، 25 عاماً من الطحن وتبذير المواهب والقوى، الانصياع لأوامر الأغبياء وحفظ جمل مثل: “متل ما بتشوف أستاذ”، “مزبوط أستاذ، بس هيك غلط”… ارتكبتُ أخطاء، ابتعدتُ عن أسرتي وعن نفسي، خالفتُ القانون مراراً، قلتُ أشياء لا أعنيها، وعنيتُ أشياء لم أقلها، تحطّمتُ وعُجنت وتفرّقتُ على موائد الأثرياء، التُهمتُ وبُصقتُ كعلكة كلب، وأنا أنتظر أن أكون يوماً ما، أن أصبح يوماً ما، جثة ميتة لا تعني أحداً، أن أفقد مهارتي في صنع الأشياء أو اتباع الأوامر لأكتسب حريتي، أن أخسر قوّة عملي لأتحرر من هيمنة العمل علي، وهيمنة أرباب العمل.

“أن تأكل خبزك بعرق جبينك” لعنة أكثر قسوة، ذلك أن ثلاثة أرباع البشرية لم يعد لأرباب العمل حاجة بعرقها ولا بقوّة عملها، فبم سنعرق من جديد؟ بأي مبدأ اجتماعي آخر غير عقلاني يأخذ شكلاً طبيعياً ومقدساً سيستعبدنا أولئك القطط السمان، آكلو لحم البشر ومخترعو النقابات السمينة التي تتغذى على جهد العمال؟

أقول مع بودلير: “نعم، إن الزمن يحكم. لقد استعاد طغيانه الفظ. إنه يدفعني كما لو كنت ثوراً، بمهمازه المزدوج، فارفع خوارك إذن أيها العنيد، واعرق إذن أيها العبد، وعش إذن ملعوناً”.

لن أعمل..

إن تاريخ الحداثة هو تاريخ إنشاء العمل، إنشاء الطلب المفرط على البضائع المعروضة، وهذا لم يتم إلا بقرون من العنف والدم، أجبرت البشر على الخضوع لـ “قدسية” العمل. لم يكن هناك حاجة للمزيد من المال والعمل طالما لم يكن هناك حاجة لتمويل الحروب وتعويم الاستبداد. 

أدخلتنا الحروب والاحتلالات والرغبات الذكورية الفجّة، عند ملوك العالم وأصحاب الرسائل المؤممة بالاتفاق مع الأديان، في أنفاق مظلمة لكسب المزيد من العبيد لهم، تكديس أموال الضرائب وبناء القصور والكنائس والجوامع الفاخرة.

لن أعمل فيما لا أحب. لن أشارك في الخضوع الطوعي لسادة العالم وأساقفته. دفعت ضرائبي كاملة لهذه الكرة المجنونة، دفعها أسلافي في المزارع البعيدة ومناجم الفحم ومعسكرات الاعتقال. سأكون هذا “البربري الكسول وغير المتحضر الغارق في ذهوله بدون عمل”، كما يصفه هيجل. 

لقد أُرهقنا في العمل وتقديس هذه القيمة الفارغة، بحيث ننخرط في “الإنتاج” بمجرد أن نستيقظ، بمجرد أن نزيح مؤخراتنا عن الأرائك أمام التلفاز، ننتج، نعمل، حتى رفاهيتنا وأيام إجازاتنا نصرفها في عمل مفيد، أو فكرة مفيدة، نضاجع زوجاتنا عملاً، نحضن أطفالنا عملاً، نقبّل والدينا، ندفنهم، نركع أمام العلم الوطني ونفتدي بعرقنا “مزرعة السادة” المسوّرة.

المفارقة الآن أني أكتب مقالاً سأتقاضى ثمنه، يتحدث عن كراهيتي للعمل، أي أني أعمل على “ضد العمل” وأكسب نقوداً أيضاً، يا للنفاق، يا للخَتَل المدفوع ثمنه مسبقاً، كبطاقات الهاتف.

 

موت لثماني ساعات يوميًا.. وربما أكثر

تصوير: LD – BARCELONA – STREET ART. العمل الأصلي لـ Swoon. تحت رخصة المشاع الإبداعي