fbpx
تصوير أحمد الساعاتي

طحينة «السرجة».. ذلك الشيء الدقيق في صنعته

الأسطى عامر معلّم. يتحدث بوضوح مع رقة في عينيه. يكرّر العبارات التي يراها مهمة ببطء. يعرف الإجابة لكنه يسأل المستمع أسئلة بدلاً من ذلك، مثل كل المعلمين الكبار الذين عرفتهم في حياتي. الفرق أن فصله الدراسي فارغ
ــــــــ الطعام
29 مارس 2022

مثل كل المدمنين، كانت جرعتي الأولى مجانًا. الـ “ديلر” الذي أتعامل معه من «حارة السقايين». أزوره مرة كل أسبوعين للحصول على حاجتي، وأحيانًا كل أسبوع إذا كنت أتوق بشدّة للمزيد. 

***

بدأ الأمر عندما كنت أنا وصديقتي روث نركب الدراجة معًا وسألتني عرضًا إن كنت أرغب في المرور بمحل الطحينة الذي تعرفه، «مصنع النصر لورثة شفيق مخايل». كانت روث مسافرة إلى بلدها بلجيكا، وأرادت حمل بعض الهدايا من مصر، فوافقت على مرافقتها بلا تردد.
لم أكن شغوفًا بأكل الطحينة من قبل. لطالما وجدتها مُرّة ومتكتلة. أتذكر في إحدى مجموعات المطبخ المشرقي التي أتابعها على فيسبوك، استفسرت امرأة أميركية ما إذا كانت صلاحية الطحينة التي لديها انتهت، فقد تصلبّت بعد فترة وجيزة من شرائها. سرعان ما علّق أحد أعضاء المجموعة بأن الطحينة لم تفسد، وأن الطريقة الصحيحة لتخزينها أن توضع مقلوبة رأسًا على عقب! كنت أعلم أن صلاحية طحينتها لم تنتهِ، لكن شعوري البديهي الأول ما زال يؤكد أنها كانت على حق، وأن هناك شيئًا خاطئًا، فأي نوع من التوابل هذا الذي لا يحتمل أن يوضع على الرف بشكل صحيح دون أن يتغير قوامه؟

طحينة «السرجة».. ذلك الشيء الدقيق في صنعته

تصوير أحمد الساعاتي

خطوات صناعة الطحينة

يدير المعلم رمزي (76 عامًا) والأسطى عامر (60 عامًا) «السرجة» التي أخذتني روث إليها. كلاهما يعمل فيها منذ أن كان طفلًا. أما الفتى كيرلس (18 عامًا) فقد أتى مؤخرًا من المنيا، ويعمل في واجهة المحل مع الزبائن. يمكن ببساطة أن تضيّع المكان، فعلى الرغم من كل هذه السنوات، لم يعلّقوا لافتة على السرجة تدل من يبحثون عنها أو حتى تنبه المارّة إلى وجودها. 

لصناعة الطحينة، يتبّع رمزي وعامر في «مصنع النصر» الخطوات ذاتها المستخدمة منذ مئات السنين وربما أكثر. لقد استبدلا فقط الحطب بالفرن الصدئ الذي يعمل بوقود الديزل، وحلّت الكهرباء مكان البغل الذي يدير طاحون السمسم. 

ترك الرجلان تقاعدهما ليُبقيا على المكان حيًّا بعد أن مات مالكه وهاجر أبناؤه إلى أستراليا. يصنع الأسطى عامر الطحينة بيده. يعمل بحب وحرفنة لصنعته التي اختفت من العالم منذ وقت طويل. على الرغم من أنه لم يلتق بي من قبل، فقد أخذ من وقت عمله بسخاء ليطلعني على عملية صناعة الطحينة كلّها، من نقع السمسم إلى تقشيره ثم غسله وصولًا إلى تحميصه وطحنه. كان يحثني على أن ألمس بذور السمسم وأشمها وأن أتذوقها في كل مرحلة إلى أن تصبح طحينة. أثناء ذلك يعطي الأسطى ملاحظات وأمثلة، يقول «مثلًا يحتاج السمسم إلى تحميص أكثر، فلو كان نيئًا ووضعته في حجر الطحن، ستكون الطحينة كالعجين».

طحينة «السرجة».. ذلك الشيء الدقيق في صنعته

تصوير أحمد الساعاتي

عودة إلى زمن البطء 

للأسطى عامر طريقة مميزة في الحديث، معتدّة ولكنها لطيفة تكشف سعادته بالمهنة الوحيدة التي عرفها في حياته. يتكلم بنفس الاجتهاد الذي يصنع به طحينته. في عصر تم فيه دمج الاغتراب والسرعة والربح في كل شيء، فإن السرجة ومَن أمضوا حياتهم بأكملها في العمل فيها يعيدون الاتصال بزمن من البطء والإنسانية والتقاليد. شيء ما حيال ذلك يبدو لي أكثر تقدمًا. 

«أهم حاجة الضمير»، يقول وهو يحدثني عن فهمه للربح والخسارة ومعنى العمل «هناك من يقيس الربح بكم يكسب في اليوم، لا يدرك أن الربح يقاس فعليًا بكم زبون جديد زار المحل في اليوم. أنا أعد أرباحي بعدد الزبائن وليس النقود. فرضًا لو أنني بعت ألفي كيلو اليوم، ثم لم يعد أي واحد ممن دخل واشترى إلى المحل مرة أخرى، فهذا ليس ربحًا. لذلك لا يكفي أن تكون البضاعة جيدة فقط، ينبغي أن تكون معاملة الزبون بنفس جودة البضاعة». 

تنتج كل حرفة ألفاظها، أيّا كانت طبيعة هذه المهنة، ثمة لغة يفهمها عمّالها فقط وتختصر تفاصيل كثيرة بكلمة واحدة. تنبهت لذلك بينما الأسطى يقول «كل يوم نعمل الششن على الطحينة»، بمعنى التحقق من طعمها وتفقد أنه لم يتبدل: «لازم أدوقها كل يوم، أعرف طعمها إيه، متغير ولا لأ، خفيفة أو ثقيلة، حادقة، مالحة». كل هذه المذاقات التي يعدّها هي المواصفات والمقاييس التي يفهمها الصنايعي أكثر من الزبون، ويعرف ما يقف خلف هذا الطعم أو ذاك.

هل هذه حقًا مجرد طحينة؟

فتحت أخيرًا علبة الطحينة الأولى لي من السرجة، وكانت هذه أول مرة في حياتي أشم فيها رائحتها الأصلية. بل إنها كانت المرة الأولى التي أدرك فيها أن للطحينة رائحة مميزة إلى هذا الحد. مع الملعقة الثالثة، أصبح لدي نظرة مجنونة في عيني شخص بحاجة ماسة إلى جرعة أخرى. ثم واحدة أخرى. كانت طحينة السرجة عكس كل ما هو موجود في السوق؛ مركبة، دسمة، جوزية، حريرية، مصنوعة بدقة، ببساطة كانت مثالية.

تذكرت حكاية الإمبراطور الصيني الذي أحب الديوك كثيرًا، فطلب من رسامة القصر أن ترسم له الصورة المثالية للطيور التي يحب. مرّ عام وأكثر وهو ينتظر ولم تلبِ الفنانة طلب الإمبراطور. في حالة من الغضب، ذهب الإمبراطور إلى محترف الفنانة التي ما أن رأته حتى أخرجت الورق والطلاء والفرشاة. وفي خمس دقائق، ظهرت صورة مثالية للديك من فرشاتها الماهرة. تحول الملك إلى اللون الأرجواني من شدة الغضب: «إذا كان بإمكانك رسم صورة مثالية للديك في خمس دقائق، فلماذا جعلتني أنتظر أكثر من عام؟».
توسلت الفنانة إليه «تعال معي»، وأخذت الملك إلى المخزن، حيث كانت الأوراق مكدسة من الأرض إلى السقف. على كل واحدة رسمة لديك: «جلالتك، لقد استغرقت أكثر من عام لأتعلم كيفية رسم الديك المثالي في خمس دقائق».

طحينة «السرجة».. ذلك الشيء الدقيق في صنعته

تصوير أحمد الساعاتي

يعمل الأسطى عامر في السرجة منذ 48 عامًا. في شبابه، كانت لديه رغبة سرية في أن يكون ميكانيكيًا. فهو لا يقترب فقط من بناء نكهة ولون الطحينة بعقلية ميكانيكي، بل علّم نفسه كيف يصلح كل آلة في السرجة يدويًا. «من الإبرة للصاروخ» كما يقول ضاحكًا. ديك الأسطى هو ببساطة بذور السمسم والطحينة هي لوحته.

يقال عن السرجة «الشغل البلدي»، حيث ما زالت تعمل بالعدّة والطريقة القديمة باستخدام الفرن والحجر، أما الشغل «غير البلدي»، العصري، فيتجاوز الخطوات التقليدية، وتُمرر فيه حبات السمسم على بخار الماء الساخن، وهذه طريقة بحسب الأسطى “بتخلي السمسم مافيهوش طعم الطحينة، حاجة بهتانة ما لهاش طعم ولونها أبيض بلون الدقيق لكن الطحينة بتاعنا هي الي بتدي لكلمة اللون الطحيني معنى، إلي هو الأصفر الغامق. وطعم الطحينة الأصلي بيطلعو الفرن”.

قرأت في العدد 9 من مجلة «الدنيا المصورة»، نوفمبر 1930، مقالًا عن صناعة المجوهرات في القاهرة، ثمة صورة لافتة لشيخ الصاغة السيد أمين بك السرجاني. وسيم ومهيب بلحيته البيضاء وثيابه الأنيقة وحزام شيخ الصنعة. يحمل في يده قطعة مجوهرات يفحصها بعدسة مكبرة. بدت لي طريقة تركيزه ونظرته الحادة غير عادية. عيناه مشغولتان بالقطعة بين يديه، حتى الكاميرا لم تقاطع استغراقهما، كأنهما مغلقتان وتنظران إلى الداخل، أو كما لو أنه في مكان آخر.
نعلم أن الشيخ ممسك بسوار، لكن كيف يمكن أن يملك شيء ما مثل هذه القوة، مثل هذه السيطرة على شخص ما؟ هل هذا حقًا مجرد سوار؟ هل هذه حقًا مجرد طحينة؟ نظرة الشيخ المستغرقة تماثل الشغف الذي لمسته في صوت الأسطى عامر، تكشف العلاقة الوطيدة بين الصانع وما يصنعه، والتي لا يحددها الكسب فقط.

طحينة «السرجة».. ذلك الشيء الدقيق في صنعته

الشيخ السرجاني، مجلة الدنيا المصورة

ترقية وظيفية.. من صنايعي إلى أسطى

في كتابه المكون من عشرين مجلداً، «الخطط التوفيقية الجديدة» (1886)، يصف المؤرخ والتربوي علي باشا مبارك جغرافية مصر وتضاريسها وتاريخها. يجمع «الخطط» معلومات عن الأدب والتاريخ والعلوم في شكل موسوعي. كما يسرد جميع النقابات التجارية في مصر ويصف بعض أعمالها الداخلية مثل كيفية ترقية المرء من صنايعي إلى أسطى: 

«في الأيام السابقة، كان من أراد أن يصير معلمًا في صنعته، لا يتمكن من ذلك إلا بعد مهارته فيها، وعمل شيء دقيق في صنعته يشهد له بأنه يستحق أن يكون معلمًا أو أسطى. فحينئد يشهد له معلمه وباقي المعلمين من صنعته ويخبرون شيخ الطائفة بذلك فيحضره ويختبره وإن وجده أهلًا لأن يكون معلمًا قلده إياها وذلك بعد دعوة حافلة يهيئها لهم بحسب اقتداره ويدعو فيها شيخ الطائفة والرؤساء والنقباء والمخاترة».

يمضي مبارك في وصف حفل التخرج الذي يعقب ذلك، والذي يسمى بـ «الشد والحزام»، حيث يعقد النقيب الحزام «عدة عقد أقلها ثلاث وغايتها ست بحسب عدد المعلمين الكبار الموجودين في المجلس». 

حتى المطربين يضطرون إلى الخضوع لمثل هذا الفحص من خلال تأليف أغنية، كما يكافئون بحفل الحزام إن كانت الأغنية تستحق ذلك. يذكر مطرب مطلع القرن صالح عبد الحي: «زمان كانوا يحزمو المغنيين، لما يتم العلام يعملوله حفلة كبيرة في النقابة، إن ما نفعش يقولوا لسه لازمك علام».

من المدهش، أنه وبينما كان نظام التقدّم المهني بأكمله صارمًا إلى أبعد حد ويبدو كما لو كان مسارًا مقررًا ومنصوص على خطواته، إلا أن تلك اللحظة الحاسمة التي ينبغي فيها على الأسطى المستقبلي أن يبتكر تلك القطعة الانتقالية في صنعته، لحظة مرواغة وغامضة بل إن فيها شيء صوفي أيضًا: «هي بتجي بالصدفة. سرّ إلهي. لازم يبقى في نور، في عمار بينك وبين ربنا .ربنا أراد وكل حاجة تتكشف لوحدها. هل أنا هسدّ في الموضوع و إلا ما أسدش؟ لو قلت لا ورجعت خطوة لورى الموضوع خلص، لو طلعت خطوة لقدام بقيت أسطى». 

عندما حانت «لحظته الإلهية»، لم يكن عامر مرشحًا للترقية. في الواقع، إنه لم يكن يخطر حتى على بال معلميه ليحصل عليها. كان في الخامسة والعشرين من عمره، الأصغر بين 15 عاملاً في السرجة. بدأ هناك كصبي توصيل وهو في سن الحادية عشرة، بعد أن جاء إلى القاهرة من قريته البعيدة، وعاش في منزل رب العمل، يعلّم نفسه بنفسه وبهدوء على الآلات وصناعة الطحينة دون أن يلحظه أحد. لكن تجربته وصلت دون سابق إنذار (كما كان من المفترض) عندما أصيب أحد الأسطوات الكبار بالمرض فجأة. 

روى لي كيف هرع صاحب المحل إلى المكان، كان خائفًا من الخسارة، هناك الكثير من السمسم المنقوع في الماء ولو بقي هكذا سيتلف بالطبع. بادر الشاب عامر بالعمل مهمهمًا «لن يتلف شيء» وبدأ في تصفية السمسم أو «حلّه» بلغة العمل، وتقشيره ثم تحميصه بينما صاحب السرجة يراقبه دون أن يخفي قلقه. هكذا إلى أن خرجت الطحينة باللون والقوام والطعم المعهود. «أمال ساكت على نفسك ليه؟» قال له رب العمل، وأجاب الشاب «ما أقدرش أعرض نفسي، في ناس أقدم مني». 

لقد صنع الأسطة عامر ذلك «الشيء الدقيق في صنعته».

طحينة «السرجة».. ذلك الشيء الدقيق في صنعته

تصوير أحمد الساعاتي

أن يفرغ البرطمان في يوم أحد

بعد أربعة أشهر من زيارتي الأولى للسرجة، أسأل نفسي: ماذا لو تركت القاهرة؟ ما هي كمية الطحينة التي يمكن لحقيبتي أن تحملها فعلًا؟ عندما أكون في المطبخ، أنظر إلى  مستوى الطحينة في البرطمان (ليس صحيحًا أن البرطمان يجب أن يكون مقلوبًا)، أحاول أن أضمن ألا تنفد الكمية نهار الأحد، يوم العطلة في السرجة. هناك خيبة أمل من نوع خاص حين يحصل هذا وأجد العلبة فارغة. عندما حدث ذلك أول مرة، عادت إليّ الكلمات التي سمعتها من الأسطى عامر عندما زرت محله مع روث: «لما البني آدم بيدوق أي حاجة في البداية ما بيبقاش متعرّف عليها. ثاني مرة بتبقى بالنسبة له إتجربت وعايز يتعرف عليها؛ طعمها كذا أو كذا. ثالث مرة بقى ما بيقدرش يستغني عنها. المصريين بيحبوا حاجة اسمها طحينة. عندي زباين بياخدوا الطحينة بتاعة الشهر وعندي زباين يجو كل يوم».

المدمنون كثر. تأتي سلمى إلى السرجة منذ عشرين عامًا. خاصة وأنها في طريقها إلى العمل. تقول «تعاملهم مع الزبائن جميل جدًا، يمكن لأي شخص أن يذهب إلى المصنع في الخلف وأن يرى بنفسه كيف يصنعون الطحينة. أحضرت جميع زملائي في العمل إلى هنا وأصبحوا الآن زبائن أيضًا».

عائلة فاطمة أساسًا من عابدين، وانتقلت منذ زمن إلى دار السلام، «على الرغم من انتقالنا، ما زلنا نأتي إلى هنا ثلاث مرات على الأقل في الشهر. يتردد والدي على السرجة منذ عام 1964، وهو الذي عرّفنا على المكان وحبّبنا فيه عندما كنا أطفالًا».
«الناس دي عشرة عمر، إحنا مربيين الناس دي!» ينضمّ المعلم رمزي للحديث بينما يحزم الطحينة لأحد الزبائن مع العسل الأسود ويناوله الباقي. في هذه الأثناء، يضع كيرلس بعض الطحينة على الميزان. حين سألت الشاب عن مستقبله، قال إنه يريد تعلّم صناعة الطحينة، وأردف نصف جاد ونصف مازح، أنه يريد الهجرة إلى أستراليا حيث يعيش الآن أبناء مؤسس السرجة. يقف في تناقض صارخ مع حياة الأسطى عامر الروحية. أسأل الأخير إن كان قلقًا من اختفاء صنعته؟ فيرد «الحكاية دي مش بتقلقني، بقلق على الشباب، مش عايز يتعلّم صنعة تفضل معاه لحد ما يقابل ربنا، عايز تكاتك بتعمل 120  ولا 200 جنية في اليوم».

فجأة أثناء حديثه، وضعت إصبعي على شيء ما في صوته كنت أحاول تحديده منذ شهور. كيف لم أدركه من قبل! الأسطى عامر معلّم. يتحدث وضوح مع رقة في عينيه. يكرّر العبارات التي يراها مهمة ببطء. يعرف الإجابة لكنه يسأل المستمع أسئلة بدلاً من ذلك، مثل كل المعلمين الكبار الذين عرفتهم في حياتي. الفرق أن فصله الدراسي فارغ.

طحينة «السرجة».. ذلك الشيء الدقيق في صنعته

تصوير أحمد الساعاتي