fbpx
فيتوريو غاراتي، المدرسة الوطنية للفنون الجميلة 2014. مصدر الصورة: Cibercuba

عمارة المتاح.. مدارس الفن وبناء الثورة في كوبا

عن نضالات عمارة تشبهنا في قلّة مواردها، تقلباتها السياسية.. وفي أحلامها غير المكتملة
ــــــــ ماضي مستمر
28 مارس 2023

مدرسة البالية للمعماري فتوريو غاراتي (واحدة من المدارس الوطنية الخمس للفنون في هافانا). المصدر archdaily.com

رحل مطلع العام الحالي المعماري الإيطالي فيتوريو غاراتي، آخر ثلاثة معماريين مغامرين وثوريين إلى جانب رديكاردو بورو وروبيرتو غوتاردي، شكّل عملهم المشترك “مدراس الفن الخمس في كوبا” رمزية فنّية لعمارة الثورة الكوبية بكل ما حملته تلك التجربة من حلم وخيبات ومن عناد وتقلّبات.

حتى آخر أيام حياته كان غاراتي أكثر هؤلاء الثلاثة شوقاً للعودة إلى إكمال مشروع مدرستي الفنّ الذي أجبر على تركه في 1965 بسبب تحولات السياسة والتكنولوجيا في كوبا. وكان يمكن للحظّ ومؤسسات التراث الحداثي أن تسعف المبنيين المخصّصين لتدريس الموسيقى والباليه ولربما ستفعل ذلك يوماً ما، لكن غياب غاراتي سيطوي حتماً فصلاً من أكثر فصول عمارة الثورة في كوبا تفرداً.

بدأت القصة عندما قامت ثورة في كوبا على نظام الدكتاتورية العسكرية للرئيس فولجينسيو باتيستا وانتصرت عام 1959 لتؤسس حكومة الثورة بقيادة فيديل كاسترو. لم يتأخر انتصار الثورة أكثر من سنة لينعكس مباشرة على الفنون والأدب، وطبعاً على العمارة، فقدِم الكثير من المعماريين اليساريين والمؤمنين بأهداف الثورة إلى هافانا وكان من أوائلهم الإيطاليان فيتوريو غاراتي (1927-2023) وزميله روبيرتو غوتاردي (1927-2017).

تشي غيفارا و أنطونيو خيمينيس وفيديل كاسترو (1961). المصدر: مجلة corriere الإيطالية

لم تمضِ شهور على انتصار الثورة حتى كان فيديل كاسترو وأرنستو (تشي) غيفارا يلعبان الغولف في ملعب في كوبانكان شرق العاصمة الكوبية. في تلك اللحظة، وعلى أرض ذلك النادي الذي كان رمزاً للنخبوية قبل الثورة ولدت فكرة مدراس الفن التي قال فيديل عنها بعد أيام من تواجده في هذا الملعب إنها “ستكون أجمل مدارس فن في العالم”.

أفكّر بالثنائي وأنا أمشي في أرض المدرسة اليوم، على العشب المقصوص قرب النهر. لا يمكنني تجاهل عبثية هذا القرار، اثنان يلعبان الغولف -انتصاراً وجكراً وكيداً- ويحلمان بمستقبل الملعب والبلاد. هي عبثية تؤمن بجمال الراديكالية، وفي لحظة كهذه لابد للفنّ أن يكون حاضراً.

لم تمض شهور على لعبة الغولف حتى وصلت المعمارية سلمى دياز المقربة من فيديل إلى منزل أول الحالمين الثلاثة، ريكاردو بورو، المعماري الكوبي الذي درس في السوربون قبل عودته إلى كوبا عام 1952. تخبره سلمى عن رغبة فيديل في بناء مدارس الفن في كوباكان خلال سنتين. 

بورو (1925-2014)، رغم معرفته باستحالة تسليم المشروع بالمدة المقترحة، قرّر بالطبع قبول المهمة. عرض المشروع على صديقيه الإيطاليين وقررا تقاسم المدارس الخمسة بينهما. سيصمّم بورو مدرستي الفن التشكيلي والرقص المعاصر، ويصمم غاراتي مدرستي الموسيقى والباليه، أما غوتاردي فيصمم مدرسة فنون الأداء والمسرح. 

عند التفكير اليوم في إمكانية تنفيذ هكذا مشروع تظهر تلك الأسئلة الضاغطة والمؤرّقة التي ربما شغلت بال هؤلاء الخمسة آنذاك؛ كيف يمكن أن تبني في ظل ضائقة اقتصادية وحصار، وفي خضمّ تقلبات في إدارة مصادر البلاد من تأميم واسترداد ملكية، وخصوصاً في ظل توقف استيراد الأسمنت الذي لا تصنّعه الجزيرة الكوبية، أو الحديد الذي لا تملكه في جيولوجيتها؟ 

في هذه المرحلة، كان لمدارس الفن أن تولد من عمق هذه الشح وما يأتي معه من اجتهاد في الإنشاء في العمارة. فعلى عكس تأطير دراسات العمارة لمدارس الفن على أنها تشكيلات بصرية، أجدُ أن أنظمتها الإنشائية أقدر على إفهامنا ماهية عمارة الثورة في كوبا. 

هذه الماكينات التي تتحايل على الجاذبية بأقواسها وعقودها ما هي إلا جزء بسيط من جهود جماعية لمهندسين ومعماريين ثوريين حاولوا إعادة صياغة علاقة العمارة والتكنولوجيا في أقل من أربع سنوات.  

تجربة خوان كامبوس المانسا في كامغواي- أرشيف مكتب الهافانا للترميم

في الوقت الذي كان فيديل والتشي يلعبان الغولف في كوبنكان، كان المعماري الكوبي المتخرج حديثاً خوان كامبوس ألمانسا (1930-2007) في منطقة كاماغواي المعروفة بإنتاج الطوب المحلي في كوبا يبدأ محاولاته الأولى في التعامل مع المتاح من مواد. هناك، على أرض معمل أزورين المؤمم حديثاً، كان يقوم ببناء أول قبوة في كوبا ما بعد الثورة.

كانت مهمة كامبوس واضحة، البحث عن تطبيقات جديدة للطوب لتقليل استخدام الحديد والأسمنت في الإنشاء. كذلك كان حلّه واضحاً: نبني القبوة على شكل قوس من الطوب بديلاً عن الأسمنت المسلّح للأسقف، فالقوس ليس بحاجة لأي حديد للتسليح لأنه يعمل على نقل الحمولات بسلاسة من أعلى طوبة فيه للجدار أو الأساسات. 

يبدو لي أن ألمانسا لم يجلب فكرة القوس من العدم، فالكثير من المباني التاريخية للمدن الكوبية كانت مبنية بنظم مشابهة، لكن بعد نجاح تجربة كامبوس في كاماغوي، استخدم هذا النموذج لإنشاء أول مشروع مُقبَّب في تلك المرحلة، وهو مشروع شاليهات شاطئ سانتا لوسيا Santa Lucía. 

في قلب العاصمة، في أرشيف مؤسسة هافانا التاريخية أجلس في البهو أبحث بين الأوراق عن أقواس الطوب المستخدمة في المباني القديمة، أرفع رأسي نحو الأعلى فأرى السقف مليئاً بقبوات الطوب محمولةً على هياكل معدنية.. ابتسمُ وأصور المبنى. 

القبوات بمجازات كبيرة في باتيو الوزارة- أرشيف مكتب الهافانا للترميم

بعد نجاحه في كاماغواي، عاد خوان كامبوس ألمانسا إلى العاصمة ليعمل مباشرة مع وزارة الإنشاء، فتم تأسيس مركز مخصص لأبحاث الإنشاء في الوزارة تحت قيادة المعماري كاليرو، وقامت الحكومة الثورية بتوجيه العديد من المِعماريِّين والإنشائيِّين إلى العمل على جرد القدرات والمواد المحلية لينهضوا معاً بالعمارة في كوبا ويدعموها، باعتبارها “مُنتَجاً متاحاً للشعب ومن الشعب”. 

هكذا بُنيت مكاتب مركز الأبحاث الإنشائية خلف وزارة البناء المعروفة بِاسم MICONS، ليصبح الفراغ ما بين هذا المركز ومبنى الوزارة معروفًا باسم باتيو الوزارة أو El Patio de MICONS.

في تلك المساحة (باتيو الوزارة) قام مهندسون وحِرفيون ومِعماريُّون بالعمل على تطوير مفردات الإنشاء في كوبا، حيث أصبحت أرض الدّيار هذه مسرحاً للتجارب التي تجمع القرميد بالأسمنت والحديد. تضمّنت المساحة أيضاً مدرسة لتعليم حرفة بناء الأقواس والعقود عُرفت بمدرسة بنّائي الطابوق الخفيف Escuela de Rasilleros، وذلك لتأهيل حِرفيِّين للعمل على صناعة القُبَب والأقواس. 

في ذلك الباتيو، انتشرت نماذج القبوات المنحنية لتصبح أشبه بمعرض إنشائي نحتيّ منها إلى ورشة بناء. في خلية النحل هذه، يظهر مهندسون ومشرفون في الصور بين الحرفيِّين وهم يعملون جنباً إلى جنب لتوثيق العمل وإدارته. 

بعد ستين عاماً، أحاول دخول باتيو الوزارة فيمنعني الحارس.. يبدو لي الباتيو فارغاً من كل شيء سوى من الأشجار الكثيفة. 

مدرسة البالية للمعماري فيتوريو غاراتي. تصوير: وسام العسلي

كان للقبوات التجريبية في باتيو الوزارة دورٌ ملهمٌ لمعماريي المدارس الثلاث. ففي زياراتهم المتكررة  للوزارة كانوا يشاهدون الحرفيين يعملون على نماذج مختلفة من هذه الهياكل. قرر المعماريون بناء كل المدارس الخمس باستخدام نفس التقنية، فبدأت المنحنيات بالظهور في رسومهم وخرائطهم. 

تداخلت تصميمات المدارس مع الطبيعية، فقام غاراتي بمداخلة تصاميمه بالطبيعة، وبنى غوتاردي تجمعاً من قاعات المسرح يشبه عمرانياً مدينته البندقية. أما بورو نفسه فوجد في هذه النظام الإنشائي العضوي ضالته بالتعبير عن “أفرَقة” التصميم في كوبا، وهو ما دعا إليه لسنوات قبل الثورة. 

عاش المعماريون مع طلابٍ للعمارة ومهندسين في ملعب الغولف نفسه، يبنون نهاراً ويرسمون ليلاً. في حديث بورو عن تلك المرحلة، يتذكر كيف كانت فرق الموسيقى تعزف قرب مشاريع الإنشاء كأنها تستعجل البناء، وكيف يقوم طلاب العمارة ببناء مجسمات لأجزاء المبنى لفهمها وفهم كيف يمكن رسمها. 

تماماً كما كان باتيو وزارة الإنشاء، كان موقع مشروع المدارس كرنفالاً أو مظاهرة، أو انتفاضة شعبية على شكل طوبٍ يطير بين الجدران. 

مدرسة الموسيقي للمعماري فيتوريو غاراتي. تصوير: وسام العسلي

أمشي في شارع المدخل الرئيسي للمدارس، ينادي عليّ حارس آخر يشبه حارس الوزارة، يسأل عن تصريح دخول المدرسة.. للحظة أردت أن أذكّره بوصية فيديل: أنا في مدرسة “كل الاشتراكيين في العالم”.. أتلعثم وأخرج من جيبي بطاقة الطالب ورسالة التوصية. 

مدرسة المسرح للمعماري روبيرتو غوتاردي. تصوير: وسام العسلي

ثلاثة أعوام مضت على بدء مشروع مدارس الثورة والمدراس لم تنته بعد. في عام 1963 ضرب إعصار كاترينا الجزيرة الكوبية مخلفاً الكثير من الدمار في جزئها الشرقي. بعد عدة أشهر، استضافت هافانا مؤتمر الاتحاد الدولي للمهندسين المِعماريِّين. 

تأثراً بالاعصار وبتجارب دول اشتراكية أخرى في أوروبا، اعتبر كُثر ممن كانوا على مستوى القيادات في وزارة الإنشاء (مثل المعماري هوغو داكوستا كاليروس Hugo D’Acosta Calheiros) أن الفترة السابقة لعام 1963 هي فترة تجريب مبدعة، لكنها وصلت إلى النهاية. 

كان التوجه الجديد واضحاً إلى مركزية البناء والأَتْمَتة أو التشغيل الآلي التام له. صاغ هؤلاء القياديّون النهاية على شكل عمارة أسمنتية ذات خط إنتاج مركزي، تُنتَج في المَعامل ويجري تركيبها في الموقع دون أي حساسية تجاه متطلبات الموقع أو خبرات البنّائين. 

أدى ذلك إلى غياب توجه خوان كامبوس ألمانسا للبناء باستخدام المعارف والمواد المحلية واستُخدمت عوضاً عن ذلك ألواح الأسمنت المسلح التي أنتجت -وإلى اليوم- مبانٍ عدة في كوبا، جميعها يتّسم بالفجاجة والتطبيق السيء والخروج عن سياق ومناخ الجزيرة الكاريبية.

مدرسة الفن التشكيلي للمعماري ريكاردو بورو. تصوير: وسام العسلي

من سوء حظ “مدارس الفن” أنها لم تكتمل قبل اجتياح هذا التوجه للتفكير المعماري في كوبا، وبالتالي لم يقدّر لها أن تكون عائقاً أمام مركزية الحكم في كوبا ومركزية الإنشاء. تم إيقاف المشروع باعتباره هوساً فردياً من ثلاثة معماريين مغامرين وصرفاً للموارد، وتخلى فيديل عن المشروع دون أن يصرّح عن ذلك بوضوح. وفي خضم محاولات المعماريين الثلاثة إكمال المشروع في حينها، جرى اتهامهم بمعاداة مبادئ الثورة، فهاجر بورو إلى فرنسا وعاد غاراتي إلى إيطاليا بينما قرر غوتاردي البقاء في كوبا.

استكملت مدرستا بورو فقط ليتم استخدامهما، بينما تُركت المدارس الثلاث المتبقية للخراب والطوفانات والتهالك، فبدت أطلالاً لأحلامٍ غير مكتملة.

مبنى التعليم قبل الجامعي للمعمارية خوسيفينا ريبيّون في مدينة الحرية في هافانا. تصوير: وسام العسلي

ليس بعيداً عن كوباناكان، هنالك مبنى تعليمي بقبوات تشبه مدراس الفن. أمشي في باحته الدائرية مشاهداً الطلاب يدخلون قاعاته بشغف. 

أنظر إلى الأسقف المحنيّة المبنية بنفس الطريقة، فتخبرني المشرفة أن هذا المبنى كان أحد أشرس المخيمات العسكرية للنظام السابق مدعوماً بالجيش الأمريكي، وأن حكومة الثورة غيرته ليصير مدينة تعليمية تحتوي على جامعات ومساكن ومقاهٍ للطلاب، سمّتها “مدينة الحرية”.  

أسألها كيف سقط المبنى بباحاته الدائرية من الكثير من الكتب الدارسة لعمارة مدارس الفن، وهل كان سقوطه مجرّد سهوٍ؟ تبتسم هي هذه المرة.

مبنى التعليم قبل الجامعي للمعمارية خوسيفينا ريبيّون في مدينة الحرية في هافانا. تصوير: وسام العسلي

في بيت حداثي في العاصمة، جلست معمارية المبنى خوسيفينا ريبيّون Josefina Rebellón على مقعد قرب النافذة. أسألها عن المبنى الذي صممته في سيوداد ليبرتاد. كانت طالبة في السنة الثالثة من دراستها المعمارية عندما أوكلت إليها مهمة تصميمه. تقول لي إن “الكثير من المعماريين التابعين لنظام الحكم السابق آنذاك غادروا البلاد” وتتابع بخفة ومرح: “كان علينا ملء هذا الفراغ، لا أدري من أين كانت لنا هذه الثقة”.

لكن هذا المبنى سقط سهواً أو أُسقط من دراسات عمارة ما بعد الثورة، وهو مشروع يشبه في تصميمه مدارس الفن إذ صممت ريبيّون بناءً متداخلاً مع الطبيعة مكوَّناًَ من دائرتَين ومبنى خطياً بينهما، تتربع على الدائرتين عدد من القبوات المخروطية. 

لعبت المصممة المعمارية على تكرار القبوات لتنتج “تايبولوجيا” مبدعة، لكن دون أن تقع في فخ الاستخدام المفرط للمواد والوقت كما فعل معماريّو مدارس الفن، فاستَخدمت العناصر المسبقة الصنع كالجسور لبناء الوحدات، وقامت باستخدام قبوات متماثلة لسقف الفراغ بين الجسور. “فاوضت الوزارة من أجل استقدام حرفيين لبناء القبوات، لكنهم لم يعطوني سوى اثنين”، تتمتم ببطء ثم تستطرد “كان عليّ أن أغير تصاميم بعض أجزاء المبنى لكنني أصررت على البناء بالقبوات“. 

على عكس مدارس الفن، استطاعت ريبيّون إنهاء مشروعها وفق جدولِه الزمني، وافتُتح في عام 1962. 

فراغات أطلال مدرسة البالية اليوم كموقع سينمائي ومزارات للسيلفي. تصوير: وسام العسلي

يؤرَّخ اليوم لمدراس الفن بطرق مختلفة، بكتب وأفلام ومؤتمرات ومقالات بحثية أقرؤها بنهم مطلق، ففي قصة هذه الهياكل المبدعة الكثير مما أهتم به من مغامرات إنشائية، ومن أسئلة عن علاقة العمارة بالتكنولوجيا، وبالثورة. 

أفكر أيضاً في منطقتنا، حيث مازال إنشاء القبوات والقبب والأقواس مرتبطاً بفكر مشبع بالتراثية ينظر لهذه الهياكل كإرث عمارات سابقة متشابكة مع أيديولوجيات دينية. صحيح أن هناك محاولات رائدة في منطقتنا قدّمت تطبيقات معاصرة لتلك المنشآت، نجدها في عمارات المصريين حسن فتحي و رمسيس ويصا واصف أو الإيراني نادر خليلي مثلاً، لكنها رغم ذلك بقيت حبيسة مفاهيم التراث، خصوصاً عند انتقالها لمريديهم من الأجيال اللاحقة الذين اكتفوا بالتقليد. 

تعلمنا تجارب مدراس الفن في كوبا أهمية خلع عباءة التقليد كما تخبرنا أيضاً عن نضالات عمارة تشبهنا في قلّة مواردها، وتقلباتها السياسية، وأحلامها غير المكتملة. فالمدارس الكوبية ما هي إلا وجه من أوجه عمارة فريدة وقصيرة العمر، ظهرت مع أول ثلاث سنوات من عمر انتصار الثورة وانتهت بإعصار كاترينا ومؤتمر العمارة في عام 1963. 

في هذه العمارة، عمل الجميع على مشروع واحد: إعادة صياغة المهنة من خدمة القلّة إلى خدمة المجتمع. كانت عمارة البحث عن أفضل شيء بما هو متاح. لجان تبحث عن أفضل نموذج مدرسي، وأخرى عن السكن العام، وأخرى عن بناء المعامل، وأخرى عن مواد البناء. كأنها عمارة باحثة عن تحقيق لوعد يوتوبي “على قد حاله” كما قال لي أحد معماريي النقابة في هافانا. 

توثق تجربة عمارة الثورة الكوبية المبكرّة أساس الإبداع المعماري المبني على المغامرة بضرب كل ما هو سابق بعرض الحائط من جهة، والاجتهاد المتسارع والجمعي بإنتاج منظومة بديلة من جهة أخرى. 

يغيب هذان العنصران في عمارة اليوم. فعمارة اليوم مفرطة بالأكواد وقوانين الإنشاء المقيّدة لأي عمل تطويري أو إبداعي من جهة، ومتخمة بذوي الرؤى الفردية الأشبه بالأنبياء الذين يعدوننا بالخلاص من الانهيار البيئي من جهة أخرى. وعلى عكس ذلك تماماً، كانت عمارة الثورة في كوبا مشروعاً لعمارة اشتراكية غير مسبوقة، مغامرة وحالمة، استخدمت انشاءات بالغة القدم كالأقواس والقباب والقبوات لخلق تكوينات بالغة التجريب والجدّة. 

تم عزل هذه التجرية في كوبا مع تشييد أول محطة للبناء الأسمنتي مسبق الصنع في عام 1965. اليوم تصبح أرشيفات هذه العمارة حالها حال مدارس الفن، متروكة للزمن وللفضوليين الحالمين.