fbpx
تصوير:iwishmynamewasmarsha. تحت رخصة المشاع الإبداعي.

عندما يصبح الطعام.. مرعبًا

تطلب الأمر من تغريد 18 عاماً، لتحصل على إجابة سؤال يدور بداخلها ويطرحه كل من يراها.
ــــــــ الطعام
7 ديسمبر 2020

2005، عامٌ لا تنساه تغريد.كانت تبلغ من العمر وقتها 12 سنة، ضربتها أمها ضرباً مبرحاً ثم حبستها بمفردها في غرفة مغلقة، لأن الفتاة الصغيرة امتنعت عن تناول اللحوم والألبان مجدداً.

تخلفت تغريد عن السنة الدراسية، وأُجبرت على إعادتها بسبب حالتها الصحية المترديّة، والأسوأ أنها كادت تفقد حياتها بسبب جسدها الهزيل وامتناعها عن تجربة أي طعام جديد.

الوضع قبل هذه الواقعة لم يكن بهذا التعقيد، فالأم مُتفهمة ومعتادة على اختيارات ابنتها المحدودة في الطعام وابتعادها عن اللحوم ومنتجات الألبان منذ طفولتها، وتحاول تعويضها بأطعمة أخرى، لكن سقوط الابنة مغشياً عليها في المدرسة جعل الأم تصطحب تغريد لطبيب الأطفال ليفحصها. 

في هذا التوقيت، كانت تغريد في الصف الأول الإعدادي ولكن وزنها 25 كيلو جراماً فقط، أقل من الوزن الطبيعي بعشرين كيلو جراماً، لأنها معتادة على تناول ما يقل عن 8 أصناف من الأطعمة، مما جعل الطبيب يشخص حالتها “سوءاً في التغذية” ويعطي أدوية لها معظمها فيتامينات، ويشدد على أهمية تناولها للحوم والألبان حتى ولو غصباً. 

زاد الأمر تعقيداً عند زيارة الجدة لتغريد والأم، ووصفها رفضَ الصغيرة للطعام بـ”الدلع” وعلاجه الإجبار، وإن رفضت يكون “الضرب” هو الحلّ لتقبل تغريد الأطعمة.

لم تكذب الأم خبراً، وبالفعل في اليوم التالي أجبرت تغريد على تناول الأطعمة، لكن الأمر كان “جحيماً” كما تصفه لـ” خط 30″: “أنا لا أعرف طعم اللحوم، ولا أستطيع رؤيتها أو تحمل رائحتها، إجبار أمي لي كان يجعلني أنهار ويغشى عليّ مجدداً” تروي.

غريبة الأطوار

طبيب وراء طبيب، والتشخيص “سوء التغذية”، ووزن تغريد يتناقص يومياً حتى ظنّ الجميع أنها ستموت بسبب الحالة الصحية السيئة.

تحسنت حالتها، بعدما تقبلت الأم رفضها للأطعمة، وتوقفت عن إجبارها على تناول اللحوم، كما توقفت عن عرضها على أطباء جدد وتحولت الأم لمدافع عن اختيارات ابنتها. تقول تغريد:” كلما اجتمعنا في عزومة عائلية، كان الأقارب يتهموني بالدلع لأن أمي تعد وجبات خاصة بي” وكان يأتي رد الأم “هي حرة!”. 

لكن في العام الأول من الجامعة اضطرت تغريد لترك منزل والديها بمحافظة المنوفية(شمال القاهرة)، والعيش بالمدينة الجامعية بالقاهرة، الوضع كان “كارثياً” كما تصفه تغريد. الغرفة بها أربع فتيات جميعهن معتادات على تناول اللحوم والأجبان، حتى اشتروا ثلاجة وقاموا بملئها بهذا المواد، ويقابلون رفضها لهذه الأطعمة بالسخرية. 

“بالنسبة لهم، كنت غريبة الأطوار، جسدي هزيل جداً، أتجنبهنّ بسبب الأطعمة التي يأكلونها. بمجرد أن يبدأن  تناول الطعام في الغرفة أخرج منها. شعرت أني منبوذة وغريبة عنهن، حتى أنني سافرت إلى أهلي بعد قضاء أسبوعين، أقول لهم أني لا أريد الذهاب للجامعة مرة أخرى”، تروي تغريد.

بعد هذه الواقعة عقدت تغريد العزم على معرفة ما بها، فليس طبيعياً أن تخاف شابة من قطعة لحم أو جبن أمامها ولا تحتمل رؤيتها أو شم رائحتها.

قررت البحث عن أسباب عزوفها عن تناول اللحوم والألبان. بدأت بمحركات البحث وكتبت “لماذا أخاف من اللحوم والألبان؟، لم تجد اجابة محددة سوى بضع كلمات متفرقة مثل “رهاب- مرض نفسي- خوف”. 

بعد ذلك أدخلت جملة “الخوف من اللحوم والألبان مرض نفسي”، أيضا لم تجد اجابة. بحثت بالانجليزية فوجدت أن الامتناع عن تناول بعض الأطعمة مرتبط بـ”اضطرابات الطعام” ولها أشكال مختلفة. قررت الذهاب لطبيب نفسي لمعرفة ما بها، وبالفعل بعد أول جلستين أخبرها باصابتها باضطراب الطعام الانتقائي أو الاجتنابي وأنه المرض قابل للعلاج، وهو ما حدث بالفعل. 

اضطراب خفي

وفقا للرابطة الوطنية لاضطرابات الأكل NEDA، فإن اضطراب الطعام الانتقائي أو الاجتنابي AFRID، هو مرض نفسي يتجنب فيه المصاب الأطعمة استنادا إلى مظهرها أو رائحتها أو مذاقها أو ملمسها، غالبا ما تكون فصيلة واحدة من الطعام أشهرها اللحوم ومنتجات الألبان والخضروات.

كثيراً ما يُشبّه هذا الاضطراب بفقدان الشهية العصبي، على أن كلا الاضطرابين يلجأ فيهما المصاب إلى الحد من كمية الطعام التي يتناولها، ولكن اضطراب الطعام الاجتنابي لا يكون فيه المصاب خائفاً من هوس شكل الجسم والخوف من زيادة الوزن كما يحدث مع فقدان الشهية العصبي.

يُعد اضطراب الطعام الاجتنابي/ الانتقائي الأكثر شيوعًا عند الرضع والأطفال، مع استمرار بعض الحالات حتى مرحلة البلوغ حيث أظهرت دراسة أولية أنه قد يصيب ما يصل إلى 5٪ من الأطفال، كما أن الذكور الأكثر اصابة، ويعاني ما يقدر بـ 3.2٪ من عامة السكان من اضطراب الطعام الاجتنابي.

تتمثل أعراض الـ ARFID في الانتقائية الشديدة في اختيار الأطعمة فيقبل الشخص أقل من 15 نوعاً، ويرفض بشكل حازم أي نوع غيرها، وأن حدث فيعاني من الهلع والخوف الشديد، أو القيء عند التعرض للأطعمة غير مقبولة، كما كان يحصل مع تغريد. وقد يفقد المريض الكثير من وزنه ويصاب بتأخر في النمو. والأشخاص المصابون بهذا الاضطراب غالباً ما يواجهون الأنيميا وضعف المناعة ومضاعفات صحية خطرة.

المعالج النفسي محمود زكي يقول إن أسباب المرض غير معروفة ولكنها غالباً ما تنتج من تفاعل معقد بين العوامل الجينية/العضوية والنفسية والاجتماعية. وترتبط الأسباب الاجتماعية بمنع أو إجبار الطفل على تناول أطعمة معينة، فيما ترجع الأسباب النفسية في معظم الحالات إلى انفصال الوالدين أو وفاة أو خلاف حاد دار في العائلة مما يسبب للطفل تراوما (صدمة) تجعله يرفض تناول الأطعمة.

يضيف محمود لـ “خط30“، “عندما يشكوا الأطفال من هذا المرض في صغرهم يصطحبهم الآباء لأطباء الأطفال أو الباطنة وغالبيتهم ليسوا على دراية بهذا المرض من الأساس، فالمرض في الغالب يكون نفسياً وليس عضوياً”. 

يخلط أطباء وآباء كثر بين الانتقائية الطبيعية للطعام وبين “اضطراب الطعام” مما يؤخر التشخيص حتى يكتشف المريض المرض صدفةً، ويؤكد المعالج النفسي: “المشكلة في هذا المرض أنه خفيّ وغالبا ما يكتشفه المرضى بالصدفة أو يصاحبه مرض آخر كالاكتئاب مثلا أو الوسواس القهري”.

ويضيف زكي: “حتى ولو عرف الأهالي أن أطفالهم مصابون بمرض اضطراب الطعام الاجتنابي وهو مرض نفسي فلن يقبلوا بإرسال أطفالهم لأطباء نفسيين”، ويؤكد أن معظم الأهالي يصعب عليهم ذلك لأسباب اجتماعية أو مادية أو حتى النظرة للمرض والطبيب النفسي.

بحسب زكي فإن اضطرابات الطعام غير معترف بها كمرض في معظم المجتمعات العربية، فهي تنظر إلى رفض الطعام أو تجنبه على أنه “دلع”، وعلاجه الضرب الشديد، مما يجعل المرض يصاحب الطفل حتى مرحلة البلوغ، وفي هذه الحالة يتحول إلى فوبيا (رُهاب) وقلق شديد وغالباً ما يتطور إلى اكتئاب ووسواس قهري وعزلة حيث يخاف الشخص الخروج من المنزل، ويحتاج إلى تدخل سريع.

“يا صفرا”

يومٌ لا تنساه إسراء حينما كانت في الصف الخامس الابتدائي ووزنها 20 كيلو. طلب منها المعلم الوقوف في وسط الفصل ليتنمر عليها قائلاً: “يا صفرا”، “إنتي رفيعة كدا ليه؟”. 

تعود إسراء إلى المنزل وتبدأ في تناول اللحوم رغما عنها، علها تكتسب كيلوجرامات وتوقف التنمر الذي تتعرض له يومياً، ولكن الصغيرة بمجرد أن شمت رائحة اللحم تقيأت وارتفعت درجة حرارتها وبقيت في السرير لمدة أسبوعين تشكو من وجع غريب في بطنها.

إسراء خالد (33 عاماً) منذ طفولتها لا تأكل سوى خمس وجبات، لا تعرف طعم اللحم ولا اللبن إطلاقاً، ولا تحتمل مشاهدتهما. عائلتها الصغيرة تفهمت هذا مبكراً، لكن جسدها الهزيل جعلها مادة دسمة للسخرية، الأمر الذي دفع أمها لاصطحابها لطبيب تغذية، تخبره عن مشكلتها، فرد عليها قائلاً:” ممكن أعطيها علاج، ولكن ستعودي بعد عام وتطلبين مني أن تفقد الكيلوجرامات مرة آخرى”.

“لم أستطع الاستمتاع بحياتي، حرمت من الخروج مع أصدقائي، أو الأكل خارج المنزل، الجميع يأكل ما لذ وطاب ولكن أنا أكلاتي محددة ولا أعرف السبب” تروي إسراء.

عكس تغريد، طفولة إسراء كانت سهلة نسبياً ولكن بعد التخرج من الجامعة والزواج بدأت المشاكل. إسراء غير معتادة على الأكل خارج المنزل وترفض العزومات العائلية و”حماتها” غير متقبلة للوضع. حصل السيناريو الأسوأ أثناء عزومة لعائلة الزوج اضطرت إسراء لحضورها، وبمجرد أن رأت اللحم، تقيأت وبدأت في الارتجاف، ما سبب قطيعة بينها وبين والدة زوجها.

تقول إسراء لـ “خط30”: “من رحمة الله، أن زوجي متفهم وضعي وحالتي الصحية، لو أحد غيره، كنت سأنفصل، فهو يتحمل نظام غذائي الصارم”. 

ظلت الأمور مقبولة نسبياً، حتى حملت اسراء، كان وزنها 45 كيلو جراماً فقط، وكانت فترة الحمل مليئة بالمشاكل الصحية، حتى ظن الجميع أنها ستموت. 

لم يحدث شيئاً سوى ولادتها لطفلة ضعيفة، تعاني الطفلة أيضاً من انتقائية أطعمتها. كانت إسراء الأم تظن أنها وراثة، حتى وقع أمامها بالصدفة مقال يتحدث عن اضطراب الطعام الانتقائي/ الاجتنابي، وعندما قرأت عنه أكثر اكتشفت أن كل الأعراض هي ما تمر به منذ صغرها، ووجدت أنه يمكنها العلاج فذهبت لطبيب نفسي، وتتابع معه حالياً لحل هذه المشكلة عندها وعند بنتها.

كيف يتم العلاج؟

تتفق الشيماء اسماعيل، أخصائية نفسية متخصصة في اضطرابات الطعام، مع محمود زكي على ندرة تخصص اضطرابات الطعام في الدول العربية، لذا يعاني المرضى حتى يصلوا للتشخيص السليم وغالباً ما تكون رحلة العلاج طويلة. 

تقول الأخصائية النفسية: “في البداية يتم تحديد شكل الاضطراب بالضبط نظراً لأنه يمتلك عدة أشكال، ثم تحديد المشكلات الأخرى التي يعاني منها المريض، وغالباً ما يكون العلاج عن طريق مجموعة من الأطباء منهم طبيب تغذية ومعالج نفسي وطبيب نفسي، وأحياناً طبيب أطفال -إن كانت الحالة تتعلق بطفل/ة- وطبيب جهاز هضمي وبالطبع يتم مشاركة الأسرة”. وغالبا ما تستمر فترة العلاج لأربعة أشهر، يتم فيها توفير الاستقرار الطبي ، والاستقرار النفسي، وإعادة التأهيل الغذائي واستعادة الوزن (عند الاقتضاء).

أما زكي فيقول: غالباً ما يتم استخدام العلاج السلوكي النفسي CBT، لعلاج اضطراب الطعام الانتقائي والذي يعتمد على تعليم العائلة والطفل أساليب تكتيكية معينة تجعل الطفل يضيف أطعمة جديدة لقائمته الصغيرة.

كورونا “فرصة” 

في المكتب صباحاً، يجتمع زملاء مروان (27 عاماً) ويتناولون الافطار، لكن الشاب العشريني غالباً ما يتأخر عن العمل حتى ينتهوا متجنباً الجلوس معهم. 

شُخصت حالة مروان العام الماضي بالوسواس القهري واضطراب الطعام الانتقائي بعد رحلة طويلة عند الأطباء النفسيين، لكنه يخفي تشخيصه عن زملائه بالعمل خوفاً على صورته الاجتماعية.

في العمل السابق، كان امتناعه عن الطعام وسيلة للتنمر عليه والسخرية منه من قبل زملائه، بعضهم قلل من “رجولته” بسبب شكل جسده وامتناعه عن تناول اللحوم. 

“في صغري، كنت أعتقد أن مجرد تناولي للحوم يعني الموت، واجبار أبي لي على أكلها جعلني أصيب بالوسواس القهري، غسيل اليد المستمر هو نجاتي من لمس ما يشبه اللحوم”.

يعالج مروان حالياً من الوسواس القهري واضطراب الطعام، ويرى في فترة وباء كورونا فرصةً كي يبقى في المنزل مرتاحاً من تعليقات زملائه.

تبيّن  مقالة مستندة إلى إحصاءات عن العلاقة بين اضطرابات الأكل والوسواس القهري على موقع International OCD foundation أن الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات الطعام هم أكثر عرضة للتشخيص المشترك مثل اضطرابات القلق واضطراب الوسواس القهري OCD، كما أكدت دراسة  قديمة بعض الشيء أجريت عام 2004 أن 41% من المصابين باضطراب الأكل مصابون أيضاً بالوسواس القهري وأكثرهم هو اضطراب الطعام الاجتنابي ARFID ولهم سمات معينة حيث أنهم يميلون إلى المشاركة بشكل أقل في الأنشطة الاجتماعية ولهم عدد أقل من الهوايات.

قريباً سأنجح

بعدما تلقت العلاج استطاعت تغريد إضافة أصناف جديدة لقائمة طعامها واكتسبت بضعة كيلوغرامات تعتبرها مؤشراً على خروجها من الأزمة. 

أما مروان فما زال خائفاً من العودة للعمل من المكتب، يحارب يومياً للتخلص من الانتقائية في الطعام والوسواس القهري، يعلم أن طريق العلاج قد يكون طويلاً لكن نبرة صوته تتغير وهو يردد “قريباً سأنجح”.

وتطمح إسراء إلى تأسيس رابطة لتعريف الناس بالمرض، يدفعها إلى ذلك بحسب قولها “الجهل الكبير به وصعوبة تشخيصه، فالمصابون يستغرقون أعوام عديدة ليعرفوا سبب عزوفهم عن تناول الأطعمة”.