fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

هوامش عن الظلم وتكلس الروح

هكذا ندخل في نطاق من العذاب لجميع الأطراف فيما عدا.. السجان. 
27 أبريل 2021

“هي دي النهاية يا زرياب؟ عملولك ايه الناس؟ كلهم ماشيين بياكلوا وبيشربوا، ولا كأن حاجة حصلت. اللي بيدور على قميص يشتريه، واللي بتفكر هتتجوز امتي، الدنيا ماشية يا زرياب. لا موتك عمل حاجة، ولا موتي هيعمل حاجة، هي دي النهاية… لا لا لا”

نور (أشرف عبد الباقي) صارخًا في شوارع القاهرة

فيلم “آيس كريم في جليم”

 

عُرض الفيلم عام 1992، كنت في الثامنة من عمري، لا أتذكر هذا العام كثيرًا، فقط علامته الفارقة.. زلزال القاهرة في شهر أكتوبر الذي غير حياتنا مع آلاف من الأسر المصرية الأخرى. 

كثيرًا ما أجد صراخ نور منطقيًا جدًا، ألا يجب أن يتوقف العالم ويشهد لحظة موت زرياب؟ الفنان البوهيمي الحر المحب للحياة، يموت زرياب في الفيلم على مقعد بحديقة عامة بعد حوار عميق عن عدمية الإيديولوجيات وعن أهمية الحب والخير والجمال.

هوامش عن الظلم وتكلس الروح

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

سناء

استيقظ صباح الأربعاء 17 مارس الماضي، أجد معظم أصدقائي على مواقع التواصل الاجتماعي، سواء تويتر أو الفيسبوك، في استعدادات لجلسة محاكمة سناء سيف، اليوم سيصدر الحكم. سناء ولدت بعد “آيس كريم في جليم” بعام. 

أبعث ببعض الرسائل النصية والصوتية لأصدقائي المقربين، أحاول أن أطمئن عليهم، وأشعرهم بقربي حتى لو كنت بعيدة جغرافيًا، وأتمنى ان يُرفع بعض من الظلم اليوم.
تمر عدة ساعات، أتابع خلالها ما يحدث في قاعة المحكمة والتعسف أمام حضور شقيقتها منى سيف والأم ليلى سويف للمحاكمة وعدم وجود سناء داخل القفص.
بعد وقت تأتيني رسالة نصية من صديقتي..  “سنة ونص، فات تسع شهور وفاضل زيهم”.
اتردد وأشك في نفسي.. ماذا يكون الرد، هل هو هتاف مثل نور في شوارع المدينة؟ أم نحمد الله أنهم ليسوا ثلاث سنوات. اترتبك ثم أرد.. “طيب هانت تسع شهور ويعدوا” بعدها أشعر بغبائي، وفقداني لإنسانيتي.

أسرة المحامي الراحل أحمد سيف الإسلام حمد (1951- 2014) واحدة من آلاف الأسر الواقع عليها ظلم مستمر نتيجة لحبس علاء سيف وسناء سيف لسنوات وفي قضايا متلاحقة لا تتوقف. 

7 مايو 2006 كانت أول مرة يتعرض علاء فيها للاعتقال أثناء تظاهرات سلمية لتأييد استقلال القضاء المصري، ظل محتجزًا ساعتها حوالي 45 يومًا. بعد اندلاع أحداث الثورة في 2011 تم حبس علاء يوم 30 أكتوبر 2011، بعد مذبحة ماسبيرو، وتعرض لمحاكمة عسكرية، احتجز على أثرها حوالي شهرين في السجن. 

مرة أخرى في 25 مارس 2012، وأخلي سبيله في اليوم التالي. أما في 28 نوفمبر 2013 فقبضوا عليه بتهم جديدة، وفي فبراير 2015 حُكم عليه بخمس سنوات، انتهوا في مارس 2019. 

بعد حوالي ستة أشهر أمضاها علاء ما بين حياته الشخصية وقسم الشرطة لتنفيذ حكم المراقبة الذي يقضي بوجوده نصف اليوم هناك، تم القبض عليه أثناء تنفيذه لحكم المراقبة بقسم الدقي في الجيزة، وما زال قيد الحبس حتى وقت كتابة هذا النص. 

أما سناء فتم حبسها منذ يونيو 2014 حتى سبتمبر 2015، في قضية عرفت بقضية الاتحادية.  

وفي 22 يونيو لعام 2020 تعرضت هي وأمها الدكتورة ليلى سويف واختها منى سيف إلى الانتهاك الجسدي أمام سجن طرة أثناء مطالبتهما إدارة السجون بالحصول على خطاب من علاء للاطمئنان على صحته بعد منع الزيارات نتيجة لوباء كوفيد- 19. 

قامت مجموعة من السيدات “المدنيات” بالتعرض لهما، وسحلن سناء أمام السجن، ولم يتدخل رجال الأمن رغم وقوع الحدث أمامهم، في طريقة يستعملها الأمن المصري منذ عام 2005، إذ يستخدم مدنيين لكي يقوموا بأفعال عنف بدلًا عن مؤسسات الدولة. 

في اليوم التالي وأثناء تواجد سناء وأسرتها أمام مكتب النائب العام لتسجيل شكوى فيما تعرضن له، خطفت قوات الأمن سناء سيف واعتقلتها، ثم صدر الحكم عليها بالسجن لمدة سنة ونصف. 

هوامش عن الظلم وتكلس الروح

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

محو

يمكن رؤية أسرة سيف كنموذج لرغبة سادية ما في الانتقام مما حدث منذ 2011، ومن ناحية آخرى كدليل جديد على فقدان هيئة القضاء لأهم سماتها والمتمثلة في العمل على تحقيق العدل. هناك بجوار علاء وسناء آلاف في السجون المصرية، بعضهم أشقاء مثل آل سيف، بعضهم أقارب، أو تجمعهم علاقات وصداقات. يفقدون عمرهم يومًا بعد يوم داخل مباني السجون بلا هدف وبلا تهمة. 

تم بناء أكثر من 19 سجن جديد منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي لحكم مصر. هل يوجد 40 ألفشخص، 100 ألف شخص، أو 120 ألف شخص.. لا نعلم العدد بشكل مؤكد بسبب انعدام الشفافية من قبل القائمين على الأمر، لكن حتى بدون تحديد دقيق.. آلاف الحيوات تنقضي وراء الأسوار.. نعرف ذلك جميعًا.

على سبيل المثال، أيمن موسى شاب كان عمره 19 عام ، مسجون منذ عام 2013 في أحداث جامع الفتح في ميدان رمسيس. وما زال داخل السجن. كان أيمن طالب هندسة في الجامعة البريطانية في القاهرة، ورياضي، والآن أتم عامه السابع والعشرين داخل السجن. ولا نعلم متى سوف إطلاق سراحه.. هل يفيد الاسترسال في طرح الأمثلة؟ هل يتسع المقام وتتحمل الروح استعراض آلاف الحالات؟ 

يمكننا تخيل كيف يتم القضاء على الصحة النفسية لهؤلاء المساجين من خلال الإهانة والعنف النفسي والجسدي الذي يتعرضون له عن عمد وبشكل لحظي، كيف يتم محو إنسانية وكرامة هؤلاء الأشخاص، وهو ما يظهر طوال الوقت في شهادات المُفرج عنهم من السجن ومحاولاتهم المستمرة للتعافي، وما يقوله عدد منهم أن تعافي أرواحهم.. مستحيل. 

حبسخانة

أبي، كمال، أتم عامه السبعين داخل أسوار السجن، في حبس انفرادي لمدة خمس شهور، تم اعتقاله في سبتمبر 2019 حتى يناير 2020، وهو محظوظ إذ أطلق سراحه سريعًا -كم هو بائس هذا الحظ الحسن!.

خلال زيارتي له في سجن طرة، اشتكى فقط من يوم التجديد، والذي يعني حبس المنقولين من المساجين إلى سرايات النيابة لإعادة النظر في تجديد فترة حبسهم من عدمه. وعليه يتم حبسهم في عربات نقل السجناء الحديدية لساعات طويلة، ثم نقلهم لما يسمى بـ “الحبسخانة” لعدد آخر من الساعات. 

يشتكي جميع المساجين من كم الإنهاك الجسدي والنفسي في هذا اليوم، وتتواتر شهادات كثيرة على أنهم يمتنعون عن الطعام والشراب هذا اليوم حتى لا يضطروا للحاجة لاستخدام الحمامات لأنه شيء غير موجود طوال اليوم حتى عودتهم للسجن مرة أخرى، وهو ما كررته إسراء عبد الفتاح، في اخر رسالة منها لأمها. 

أيقونات

ماذا يعني أن يتحول الشخص إلى رمز؟ إلى أيقونة؟ كيف يحدث ذلك؟ هل يمكن أن يعوض ذلك عن حياة مخطوفة خلف الأسوار؟ أحيانا نتعامل مع أسماء مثل أحمد دومة، إسراء عبد الفتاح، ماهينور المصري، زياد العليمي، علاء عبد الفتاح، سناء سيف، هيثم محمدين، وهشام فؤاد، وحتى المفرج عنهم مثل أحمد ماهر، محمود شوكان.. وغيرهم الكثيرين. على أنهم أشخاص ذووي بعد واحد؟

فبينما حياتهم متجمدة وراء الجدران، لا نعلم كيف يقضون أوقاتهم وبعضهم ممنوع من القراءة ومن الزيارات، عذابات يومية في كيفية قتل الوقت وتمضيته حتى يتغير شيء في قرارات القائمين على حبسهم.

هؤلاء الأشخاص ليسوا أيقونات أو فكرة في الصراع بين العدل والظلم وفقط، ولكنهم أشخاص لهم عائلات وأحباب ولديهم حياة وأحلام وطموحات مهما كبرت أو صغرت هي التي تشكل حياتهم وتفاصيلهم وشخوصهم وذواتهم. 

هوامش عن الظلم وتكلس الروح

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

مقدمات لرعب أكبر

يمكن القول بشكل واضح إن اعتياد حبس الأشخاص وتعرضهم لهذا الظلم، هو شيء مرعب لإنسانيتنا بشكل جماعي، ضمير الجمع هنا يخص كل من يعيش في تلك البقعة، حتى لو لم يتأثر بشكل مباشر. 

ففي كتابها “الحياة والكلمات: اعتياد العنف وأصوله” الصادر عام 2006 تتناول فيينا داس الأكاديمية الهندية والباحثة في مجال الأنثروبولوجيا فكرة اعتياد العنف في المجتمعات المُعرضة لعنف قاسٍ تتبعه عدد من الصدمات النفسية تصيب الأشخاص بالتبلّد واعتياد العنف في حياتهم اليومية، وذلك عبر عملها على بعض مناطق الهند التي حدث بها مذابح هائلة.

أفكر في الأمثلة البسيطة لاعتياد العنف.. مثل السير يوميًا في شوارع القاهرة، نعتاد على السير في الزحام، وخلاله قد نصطدم بكتف أحدهم، أو جسم أحدهم، ونُكمل سيرنا، ويكمل الآخر سيره، دون أن تتلاقى الأعين، وبدون الاعتذار ولو بحركة بسيطة باليد. 

نكتشف هذا الاعتياد عند السفر إلي مدينة أصغر، حيث يصبح الاصطدام بالأشخاص شيء غير عادي، وتجد الآخرين يعتذرون، وهنا تشعر بالفارق، وبالعنف “العادي” الذي جلبته لحياتك تلك المدينة الكبيرة وزحامها. 

اعتياد العنف هو مفهوم غاية في القسوة في ادراكه. قبل 2011، اعتدنا أن يتم حبس الأشخاص والرموز السياسية -من التيار المدني على الأقل – لعدة أشهر على الأكثر وساعتها كان التعليق .. “الحبسة دي طولت“. 

منذ بدء الحراك الثوري في يناير 2011، أخذت الأمور منحى مختلفاً، تطور ما بين الاحتجاز في معسكرات الشرطة العسكرية والمحاكمات العسكرية بتفاصيلها التي لم يعتدها أحد. علاوة على الاحتجاز في السجون المدنية. 

منذ 2013 بدأ نمط جديد من احتجاز وسجن الأشخاص على ذمة قضايا واتهامات غير منطقية ومن دون أدلة، وأصبح الانتقام من حدث يناير ومن كل مشاركيه واضحًا للجميع. ولكن الأخطر هو اعتياد هذا النمط.

منذ 2013 بدأ نمط جديد من احتجاز وسجن الأشخاص على ذمة قضايا واتهامات غير منطقية ومن دون أدلة، وأصبح الانتقام من حدث يناير ومن كل مشاركيه واضحًا للجميع. ولكن الأخطر هو اعتياد هذا النمط. اعتدنا كمواطنين سواءً مشتبكين مع الحياة العامة أم لا، أن نتقبل الحبس كفكرة لا تنفصل عن حياتنا اليومية، وتقبّلنا الظلم لعجزنا عن التحرك ضده.

تعتاد الشعوب العنف في أوقات الحروب والمجازر، مثلما حدث في رواندا في التسعينات، أو لبنان في الثمانينات، أو الهند في التسعينات وبداية الألفية، او مثلما يحدث في سوريا منذ 2012. وهو اعتياد لحدث غير عادي بسبب كثرة حدوثه، مثلما اعتدنا الدم والقتل وعد الشهداء والمصابين والمحتجزين منذ يناير 2011 وحتى منتصف 2013، او اعتدنا عد الناجيات من العنف الجنسي في ميدان التحرير. 

محمود ممداني، الباحث الأنثروبولوجي والأكاديمي الأوغندي، تناول مجازر رواندا في التسعينات، في كتابه “عندما يصبح الضحايا مجرمين” 2011، ويشرح فيه تاريخ الاستعمار في رواندا، وكيف تم استغلال الفروق القبلية بين قبيلتي الهوتو والتيتسو، حيث تم تمكين أحداهما على الأخرى، عبر منح عدد من الوظائف الحكومية في مواقع قوية لإحدى القبيلتين، مما خلق صراعًا كان مكتوما لفترة، ثم انفجر في حرب أهلية جراء ظلم إحداهما بشكل منظم تاريخياً.

في عام 1994 تم قتل مئات آلاف من المواطنين الروانديين، يصل عددهم في بعض التقديرات لـ 800 ألف، في محاولة لتغيير موازين القوى. هكذا تحول ضحايا الاستعمار إلى مجرمين ينتقمون من جراء الظلم التاريخي. 

نطاق العذاب

أفكر..  متى تنتهي الثورة؟ هل تنتهي بخروج هؤلاء المعتقلين والمعتقلات من السجون، وعليه ينتهي الحدث، الذي انتهى سياسيًا بالفعل، ولكن لم ينته مجتمعيًا بالمرة بسبب كل هؤلاء القابعين خلف الأسوار بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية والأيديولوجية. ولكن يجمعهم جميعاً وجودهم في نفس السجون وتعرضهم لنفس الظلم غير المبرر. 

جزء من اعتياد العنف، هو انهاك شخصين على الأقل في حبس كل شخص، عدة اشخاص تنهك يوميًا عاطفيًا وماديًا وجسديًا في البحث عن الشخص المحبوس والتكفل به ورعايته أثناء حبسه. وعليه حبس الآلف يعني تعذيب مئات الآف غيرهم في رعاية المحبوسين والمحبوسات نفسهم. مما يعني أننا ندخل في نطاق من العذاب لجميع الأطراف فيما عدا السجان. 

تيبس الروح

اعتياد الظلم عملية تتيبس فيها الروح، يجب رفضها إنسانيًا وأخلاقيًا، بشكل صارم وجدي. التعامل مع أرواحنا كأوعية قمامة تحمل كل السيء الذي يحدث حولنا، يضع الذوات في كفة الضحايا. ونحن لسنا بضحايا بل الأوقع أن نرى انفسنا كفاعلين، قمنا ببعض الاختيارات التاريخية، وندفع لها أثمانًا باهظة وغير إنسانية، وتمر على ذواتنا بشكل مدمر.. لكن هل هناك طريق آخر؟

لم نسمع أو نقرأ عن ثورات منتصرة، لم يحدث، وعادة ما تتبع الثورات سنين متعاقبة من الظلم في محاولة من الأنظمة لاستعادة النظام واستعادة مواقع قوّتها. 

يمكن رؤية ما يحدث في مصر نتيجة الثورة، على أنه يعبر كل يوم عن ضعف هؤلاء القابضين على أرواحنا، هم مدركون بشكل واضح وقوي لجرائمهم ومرعوبون منها كل يوم، وعليه يزداد ظلمهم وقتلهم وبطشهم. 

سؤال فشل الثورة أو انتصارها، هو سؤال محدود، يضعنا في ثنائيات متضادة محدودة، وكأن للسؤال جواب. بداخل كل منا إجابة ما، إجابة ترضينا حتى نُكمل أيامنا. هذا بفرض احتفاظنا ببعض الطاقة والإنسانية والقدرة العقلية على التفكير والمراجعة. 

ما غيره الحراك السياسي في المجتمع المصري هو محاولة الإجابة على الأسئلة المطروحة بدون إجابة منذ أكثر من نصف قرن، وهذه المحاولة تعني حدوث ثورة، أليس هذا هو المفهوم الأشمل للتغيير؟ وهل يوجد تغيير مجاني، أو يحدث من تلقاء نفسه؟ التغييرات في تاريخ البشرية تحدث على أجساد وأرواح بشر، لا نعدهم ولا نحصيهم، ولكنهم هم السبب في التغييرات.