fbpx
المصدر: lionel.viroulaud. تحت رخصة المشاع الإبداعي

المتحف.. مخبأ الحورية المناسب للجميع

لطالما اعتبرت الطبقة السياسية في الجزائر المتحف "منفى" لكل ما هو غير مرغوب فيه في الفضاء العام.
8 أبريل 2021

قبل ثلاث سنوات اقترحت نائب عن التيار الإسلامي في البرلمان الجزائري، نقل تمثال أثري يجسّد امرأة عارية، ويتوسط مدينة سطيف شرقي البلاد، إلى المتحف، بحجة أنه خادش للحياء العام.

استندت النائب آنذاك إلى شكاوى نسبتها إلى سكان المدينة، فحصلت على ردّ لاذع من وزير الثقافة في وقتها عز الدين ميهوبي الذي لم يكتف برفض المقترح، بل اعتبر أيضاً أن من يفكرون بتلك الطريقة “أولى بدخول المتاحف من التماثيل”.

خلق تصريح الوزير جدلاً في وسائل الإعلام  على نحو بدا معه  الخلاف في جوهره صراعاً أيديولوجياً، بين إسلاميين يرون في التماثيل تجسيداً لخلق الله -وفي العارية منها إخلالاً بالآداب العامة وإثارةً للغرائز- وعلمانيين يرفضون إخضاع الفنّ لمعايير الصوابية النسبية.

تمثال إيطالي ومتفجرات محلية

ترجع بدايات الخلاف حول تمثال عين فوارة إلى سنوات حرب الحكومة الجزائرية ضد الإسلاميين الجهاديين، وتحديداً إلى ربيع عام 1997 حين تعرض التمثال لمحاولة نسف بالمتفجرات، استنفرت على إثرها أجهزة السلطات العمومية التي قامت بترميمه في غضون 48 ساعة رداً على مرتكبي الاعتداء.

أنهت الواقعة رمزياً حقبة سلام وتعايش استمرت قرابة مئة عام بين حورية منبع المياه الفوارة والسكان المحليين، استقلت خلالها الجزائر عن فرنسا دون أن يفقد التمثال الموروث عنها مكانته في الفضاء العام، عكس تماثيل أخرى تعرض بعضها للتخريب ورُحِّل بعضها إلى مدن فرنسية تحسباً لمصير مماثل.

المتحف.. مخبأ الحورية المناسب للجميع

المصدر: habib kaki. تحت رخصة المشاع الإبداعي

يقودنا تقفي تاريخ تمثال ‘عين فوارة’ إلى بلدة كارارا (Carrara) الإيطالية الشهيرة منذ العهد الروماني بمقالع الرخام الأبيض، وتحديداً إلى معمل نحّات وصانع ميداليات فرنسي الأب، إيطالي المولد، يدعى فرانسيس بورال دو سان فيدال، كُلِّف عام 1896 بإنجاز معلَم نافورة، بناءً على طلب تقدم به عمدة مدينة سطيف (والذي كان فرنسيا طبعاً) بوساطة من مدير الفنون الجميلة.

ويرجع الفضل في استقدام التمثال إلى أحد أعضاء مجلس بلدة سطيف، الذي اقترح خلال جلسة عمل في يونيو عام 1894 إعادة بناء نافورة الساحة الوطنية المهددة بالانهيار. وتعلق الأمر بمرصوصة حجارة رومانية مشذبة، تنبثق من جنباتها أفواه أسود تتدفق منها مياه منبع “عين فوارة”.

واكتسب التمثال تسميته من تصاعد ثم تلاشي بخار المياه الدافئة خلال موسم الصقيع، قادمة من حمامات رومانية أسفل حديقة رفاوي البعيدة مئة متر عن الموقع. وقد تأخر مشروع تجديد النافورة سنتين بسبب غياب التمويل، ما دفع عمدة المدينة إلى طلب هبة من مدير الفنون الجميلة أثناء زيارة قادته إلى باريس.

تعرّض أبرز عملين خلال مسيرة “سان فيدال” الفنية للتخريب.. أحدهما نافورة نصبت عام 1889 أسفل برج إيفل والآخر تمثال برونزي لرسام فرنسي في ساحة فاغرام في باريس.. بينما اختفت تماثيل أخرى من صنعه.

نُقل تمثال عين الفوارة الذي بلغت تكلفة إنجازه 18 ألف فرنك فرنسي، في رحلة برية شاقة من إيطاليا إلى فرنسا، حيث عُرض عام 1898 بأحد صالونات باريس، قبل أن يشحن في وقت لاحق من السنة ذاتها باتجاه ميناء فيليبفيل (سكيكدة اليوم) شمال شرقي مدينة سطيف، واستغرق وصوله إليها رحلة برية مدتها عشرة أيام، انطلقت بعدها أشغال بناء قاعدة ومحيط التمثال، التي أشرف عليها معماري محلّي يدعى إلدان، واستكملت مطلع القرن العشرين.

لعنة سان فيدال

محاطةً بأشجار الدُّلْب الظليلة، تستند حورية مكشوفة الصدر إلى حجارة تعلو بركة مياه منبع “عين فوارة” العذبة، يرتفع إلى يسارها قوس روماني غير مكتمل، وتمسك بيديها جرتي ماء، يخيل للناظرين إلى انحناءتها أنها على وشك أن تغرف بهما من ماء البركة. تتشابك الجرتان مع شعرها الطويل المموج، وتبدو ملامح وجهها كملامح سيدة خضعت لعمليات تجميل، وهو ما تؤكده أيضاً صورها القديمة.

تحمل قصة هذه القطعة الفنية دلالات تجعلها على ارتباط وثيق بصاحبها، الذي جسدت من الناحية الجمالية ميله لتصوير العري الأنثوي، وتأثره بالحس الفني السائد خلال القرن الثامن عشر، غير أنها أصيبت أيضاً بما يشبه لعنة تطارد أعماله.

تعرض أبرز عملين خلال مسيرة سان فيدال الفنية للتخريب؛ أحدهما معلم نافورة يصور أجزاء العالم الخمسة، نصب عام 1889 بحديقة شون-دو-مارس  أسفل برج إيفل بباريس، عقب حصوله على الميدالية البرونزية في المعرض العالمي الذي احتضنته المدينة، والآخر تمثال برونزي للرسام الفرنسي آلفونس دو نوفيل نصب بساحة فاغرام بباريس، وتمت إذابته في فترة حكومة فيشي خلال الحرب العالمية الثانية، بينما اختفى تمثال آخر من إبداعه كان قد نصب عند تقاطع شارعي بونابارت وآباي، فيما يتعذر اليوم تحديد موقع ثلاثة من أعمال سان فيدال المعروفة، بينها تمثال نصفي لمغنية الأوبرا الفرنسية جان غروني.

متأثراً بالمصير الذي لقيته بعض أعماله، انضم سان فيدال ثلاث سنوات قبل وفاته عام 1900 إلى جمعية أصدقاء المعالم الباريسية، التي تشكلت بهدف حماية التحف الفنية ومكافحة أعمال التخريب، التي لا يزال شبحها يتربص بآخر قطعه المعروضة في الساحات العامة، حورية عين الفوارة.

مخصص للعائلات

تعرض معلم نافورة عين الفوارة لاعتداء ثان في آذار عام 2006، ترتب عنه تشوه خد الحورية الأيسر، وإصابة أنفها وشفتيها بأضرار بالغة، تلته محاولة تخريب ثالثة في كانون الأول عام 2017، حولت مصير التمثال إلى قضية رأي عام، بعد أن جرى تداول مقاطع توثق الاعتداء على نطاق واسع داخل البلاد وخارجها، وقد أظهرت رجلا ملتحياً يرتدي قميصاً أبيض وهو ينهال بمطرقة وإزميل على وجه التمثال وثدييه، إلى أن تمكن من تشويه وإتلاف كليهما، وسط ذهول المارة الذين حاول بعضهم دون جدوى إجهاض الاعتداء.

برز على خلفية اعتداء عام 2017 رأيان؛ أيد أحدهما بقاء التمثال في الساحة العمومية وسط مدينة سطيف، بالاستناد إلى العلاقة العاطفية التي لطالما ربطته بسكان المدينة الذين تعايشوا معه مدة تجاوزت القرن، احتفوا خلالها بوجوده عبر أشعار وأغان شعبية، وأساطير زعمت أشهرها أن من شرب من النبع أسفل التمثال سيعود لا محالة إليه، وطقوس فلكلورية كالتبرك وطلب الحماية والحظ والخصوبة والشفاء من الأمراض.

يعتبر هؤلاء التمثال جزءاً من تاريخ مدينتهم الذي تجب المحافظة عليه، فيما عَثر دعاة “نفي” التمثال إلى المتحف على مبرر لمطلبهم في رواية تاريخية مفادها أن التمثال قد نصب أعلى النبع بغرض إبعاد مرتادي الجامع العتيق القريب من موقع التمثال عن هذا الأخير، وثنيهم عن الوضوء بمائه.

ورغم إقرار كثيرين منهم بالقيمة الرمزية للتمثال، إلا أنهم يتبنون مبرر الإحراج الذي يسببه هذا الأخير للمارة كلما عبروا بجواره، باعتبارهم مسلمين ومحافظين، وهو ما عبرت عنه نائب البرلمان حين قالت إن العائلات باتت تخجل من زيارة المكان.

تحيلنا الحُجتين على نمط تفكير سائد في المجتمع الجزائري، يتوقع أصحابه من الأماكن العامة وبرامج التلفزيون العمومي أن تراعي “حرمة العائلات” وتمتنع عن عرض ما قد لا تستطيع العائلة النظر إليه أو مشاهدته مجتمعة، الأمر الذي يُخضع تلقائياً ما يعرض لرقابة أبوية.

وتحرص من المنطلق ذاته الفنادق والمطاعم ومراكز التسوق على إظهار طابعها “العائلي” لكسب ثقة الزبائن، مستغلة ارتباط الأمن في المخيال الجماعي بالثقافة الأبوية، فتدار بذلك الفضاءات العامة ومساحات التعبير وفق منطق يشبع حاجات “العائلة” بدل حاجات الأفراد المتنوعة، وهو ما يرجعه أستاذ علم الاجتماع بجامعة سطيف زين الدين خرشي في إحدى كتاباته إلى استمرار الثقافة القبلية التي سادت في المنطقة قبل حقبة الاستعمار الفرنسي، رغم اندثار دعائمها المادية.

هناك نمط تفكير سائد يتوقع أصحابه من الأماكن العامة أن تراعي “حرمة العائلات” وتمتنع عن عرض ما قد لا تستطيع العائلة النظر إليه أو مشاهدته مجتمعة..

يعاني الفنانون اليوم بشكل خاص من تبعات هذه الثقافة، التي تصنف إبداعاتهم حسب درجة “جاهزية المجتمع لها”، رغم أن أفراده يستهلكون في فضاءاتهم الخاصة منتوجات ثقافية غربية، تتعارض مع فكرهم وخطابهم المحافظ، وهو ما يصفه البعض بالنفاق الاجتماعي.

ويعتبره الأستاذ خرشي تعبيراً عن أزمة مجتمع تعطلت صيرورة تشكله بفعل طبيعة نظام الحكم في الجزائر، وسياسات الدولة الاقتصادية، التي حالت برأيه “دون تشكل اقتصاد يكون الفرد فيه منتجاً للثروة، على نحو يحقق استقلالية المجتمع عن الدولة، ويمكّن من وضع إطار سياسي وقانوني يكفل حرية الفرد”.

ويضيف الأستاذ الجامعي أن “المواطن الجزائري يترنح اليوم بين الحنين إلى ثقافة اختفت أسسها المادية، وبين التطلع إلى نمط عيش فرداني غربي لا تتوفر شروطه الاقتصادية والسياسية، وهي ازدواجية تتباين حدتها بين فرد وآخر حسب المنطقة الجغرافية والانتماء الطبقي للأفراد”.

تسوية غير مكلفة

كلام الأستاذ الجامعي ربما يفسر رفض الكثيرين لتحطيم تمثال عين فوارة (لكن دون شيطنة مرتكب فعل التخريب نفسه)، ويفسر أيضاً دعوة آخرين لنقل التمثال إلى المتحف بدل التخلص منه لأسباب دينية، في نوع من التسوية الظرفية غير المكلفة على الصعيدين الشخصي والجماعي بين الأصالة والحداثة.

إذ يحاول هؤلاء الإفلات من وصم معاداة الفن، ويسعون في الوقت ذاته لإعفاء أنفسهم من الفاتورة المجتمعية المترتبة عن الدفاع عن مشروعية تجسيد العري الأنثوي في الفضاء العام.

لكن اللافت في موضوع التمثال، أيضاً، هو رمزية “المتحف” لدى الطبقة السياسية الجزائرية حيث تعتبره -إسلامية كانت أم لا- منفى لكل ما هو غير مرغوب فيه بالفضاء العام، سواء كان تمثالاً أم خصماً سياسياً. فالمتحف هنا يصبح نقيضاً للفضاء العام، وليس كامتداد له، يصبح غرفة خلفية لكل ما هو شائن ومرفوض.. ولا ينتمي إلى رؤية من بيده خيط من خيوط السلطة.

واستناداً على تصورات مماثلة، تستغل السلطة التي مثلها وقتئذ الوزير ميهوبي أزمة المجتمع العالق بدل السعي لحلها، سلطة تتعمد استعطاف الجزائريين لإضفاء شرعية شكلية على مشاريعها السياسية.

يبرر دعاة “نفي” التمثال إلى المتحف مطالبهم بالقول إن التمثال نصب أعلى النبع بغرض إبعاد مرتادي الجامع عن المكان وثنيهم عن الوضوء بماء النافورة..

وقد كان من أحدث صور هذا الاستغلال خطاب تناقله وسائل الإعلام الرسمية، كان قد ألقي خلال ندوة نظمتها لجنة الوساطة والحوار المكلفة بالتحضير لانتخابات  ديسمبر 2019 المرفوضة شعبياً، والتي كان الوزير السابق ميهوبي أحد داعميها ومرشحيها. وخلال الندوة دافعت إحدى المشاركات عن الديكتاتورية بحجة أنها “تحفظ قيم المجتمع الذي انسلخ عن أصوله” وأن “الحرية ودّتنا في ستين دهية”.

يدفعنا كل ذلك لإعادة التفكير جدياً في هوية من يتعين عليهم أن يوضعوا في المتاحف.. أهم من يعرقل مسار تشكل مجتمع جزائري حديث؟ أم هم ضحايا عرقلة ذلك المسار؟ في انتظار الجواب، تبقى حورية تمثال عين فوارة متكئة على قاعدتها الحجرية وهي تصطنع الدهشة لمدة تزيد عن قرن، كأنما وجدت نفسها.. فجأة وسط الشارع.