fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

عقاب مضاعف.. سجن وفقدان أهلية

أحيانًا تبدو كل تلك المشقة رفاهية بالنسبة لمسجونين آخرين، ففي السجن هناك ما يعرف باسم «مسجونين فاقدين للأهلية»، وهم السجناء الذين لا تأتيهم زيارات من ذويهم
ــــــــ الطعامــــــــ العمل
16 أغسطس 2022

اعتدتُ في السنوات الماضية على متابعة أصدقاء ومعارف ومصادر صحفية أثناء تحضيراتهم الروتينية لزيارة أحد ذويهم المسجونين، منذ أصبح السجن أمرًا معتادًا في حياتنا وقريبًا للغاية من الجميع. بعضهم تحرر من عبء السجن والزيارات حين تم الإفراج عن سجينهم، والبعض لم يتحرر بعد، فيما يدخل مستجدون ذلك الثقب الأسود الذي يبتلع الكثيرين منذ 2014. تحضيرات تستهلك معظم الوقت إذ عادة ما تتواصل من الزيارة الحالية وتنتهي في الزيارة اللاحقة.. وهكذا. 

تحضيرات للطعام المسموح به في السجن، والذي لن يفسد عندما تمتد الأصابع داخله لتفتيشه، طعام يكفي السجين/السجينة ورفاقهم في الزنزانة، ويجب الموازنة بين الطعام الساخن، وآخر يصلح لتخزينه بضعة أيام، يشمل ربما على بعض الخضروات والفاكهة.

تابعتُ تحضيرات أخرى تتعلق بالملابس والأدوية والكتب والأوراق والأقلام، والتي تخضع كثيرًا لمفاوضات وأحيانًا لمعارك قانونية للسماح بإدخالها. تابعتُ الخطابات التي تدخل وتخرج وربما تمنع هي الأخرى، وربما أرسلت خطابًا أو اثنين، واستلمت عبر الأهل أحيانًا خطابات أو مشغولات يدوية من داخل السجن من بعض الأصدقاء. 

تابعتُ أيضًا مشقة سفر الأسر كل أسبوعين أو شهر من مدينة لأخرى بحسب موقع السجين الجغرافي، لتضاف إلى مشقة الوقوف والانتظار في طوابير الزيارة، يقوم بها الأهل دون كلل أو ملل، وبالتأكيد دون خيار آخر. تكلفة كبيرة مادية وذهنية وعاطفية، لطالما نظرتُ لها بكل تقدير. لكن أحيانًا تبدو كل تلك المشقة رفاهية بالنسبة لمسجونين آخرين، ففي السجن هناك ما يعرف باسم «مسجونين فاقدين للأهلية»، وهم السجناء الذين لا تأتيهم زيارات من ذويهم.

لا ينظم قانون تنظيم السجون رقم 396 لسنة 1956 مسألة فقدان الأهلية. يبدو الأمر أقرب لعرف داخلي. فقدان الأهلية له أسباب عديدة، فبحسب المحامية ماهينور المصري تعود أسباب عدم تلقي المساجين لزيارات من أسرهم لـ «بعد المسافات أو تكلفة الزيارات، أو ناس أهلهم مش موجودين، أو ناس أهلهم مقاطعينهم».

مسارات عشوائية

ما بين يناير 2018 وأغسطس 2021، قضت نسرين المحلاوي (49 سنة)، عقوبة السجن على خلفية اتهامها في خمس قضايا شيكات بدون رصيد تخص شركة كانت تملكها تخصصت في تنظيم المعارض وتدريب الموارد البشرية. قضت نسرين فترة حبسها في عنبر 12 أموال عامة في سجن القناطر الخيرية كـ «فاقدة أهلية». 

«الحاجات دي بتتغرز ومابتطلعش. الحقيقة إن الألم ده ما بيتنسيش. خصوصًا لو انت مش مجرمة وما أخطأتيش في حق حد»، تقول نسرين. 

في نفس الشهر الذي دخلت فيه نسرين السجن، كان حسام العربي (33 سنة) يُرحل من سجن طرة تحقيق بعد قضائه عام كامل من الحبس الاحتياطي على ذمة قضية سياسية، إلى مكان غير معلوم، حيث أُخفي قسريًا أربعة شهور قبل إخلاء سبيله من قسم شرطة الدرب الأحمر بالقاهرة. كُتب على تذكرة حسام في سجن طرة «حسام العربي. 6 أبريل. فاقد الأهلية»، بعد أن اكتشفت إدارة السجن بعد ستة شهور من حبسه أن لا أحد يزوره، هكذا أخبرنا حسام.

سجن بالصدفة

في أثناء إحدى التدريبات التي نظمتها شركة نسرين، كانت هناك مشكلة في سداد إقامات بعض المتدربين في عدد من الفنادق. لحل المشكلة مؤقتًا، حررت نسرين شيكات باسمها لأصحاب الفنادق، لكن أصحاب الفنادق حرروا ضدها محاضر بسبب عدم وجود رصيد، ظنًا منهم أنها تهربت من الدفع، واتخذت المحاضر مسلكها القانوني، دون إبلاغ نسرين بذلك، التي كانت قد سافرت في مهمة عمل للإمارات.

فوجئت نسرين في يناير 2018 بقوة تنفيذ الأحكام، تقبض عليها من مطار القاهرة لدى عودتها إلى مصر، ورحلت إلى قسم شرطة النزهة، ومنه إلى سجن القناطر بعد شهرين.  

رغم علاقتها الجيدة سابقًا بأسرتها، إلا أن أسرة نسرين صدقت الاتهامات الموجهة إليها وتخلت عنها. «أهلي ماتدخلوش. أنا اللي كنت بكلم المحامين. بعت حاجات وأنا في القسم، واتصالحت في شوية قضايا، لغاية ما مبقاش معايا غير شوية فلوس قليلين جدا يكفوني كام شهر. سقطت بعض الأحكام، وفضل عليا أحكام بأربع سنين وتمن شهور»، تحكي نسرين.

أمضت شهر رمضان في قسم الشرطة، حيث كانت زيارات المحبوسين يومية، كل يوم يأتيها أحد الضباط يسألها «نسرين مش هيجيلك زيارة بردو؟»، فترد «لا يا فندم مش هيجيلي زيارة». كان الضباط يعطون نسرين طعامًا من وجباتهم الشخصية، لأنها لا تستلم وجبات من أسرتها. 

السجن مكلف. في الشهور الأولى في سجن القناطر، كان لدى نسرين بعض المال المتبقي، فأجرت سرير ومرتبة واشترت ملابس السجن. «ايجار سرير بـ 500 جنيه في الشهر (20 دولار تقريبًا)، والمرتبة بـ 200 جنيه في الشهر، والناموسية بـ 150 جنيه»، تشرح نسرين أن المال الذي كان بحوزتها صرف في ثلاثة شهور. ساعدها بعض أصدقاءها ماليًا لبعض الوقت، بوضع مال في أمانات السجن، لكن ذلك كان مؤقتًا أيضًا. كان محاميها هو الشخص الوحيد الذي يزورها في السجن، وحين نفد مالها.. «ماشفتش وشه تاني» تقول نسرين. 

«البنات في السجن ابتدوا يلاحظوا إني منعزلة ومفيش فلوس عشان الأصدقاء اللي كانوا بيبعتولي فلوس في الأول بطلوا. زمايلي في السجن قرروا يشتركوا هم ويجيبولي حاجتي من غير ما يقولولي»، تقول نسرين.

أزمة كورونا ومنع الزيارات بعد ذلك تسبب بأزمة للجميع، وجعلتها تشعر بحرج كبير. «كل أصحابي في السجن استنفدوا كل طاقتهم معايا. أهلهم كانوا بيعملوا حسابي في الأكل والشرب والغيارات في الصيف وبطاطين في الشتا ويحطولي فلوس زيادة عشان الفوط الصحية. كنت بحس بالذنب وإنى عبء». 

قررت نسرين في عامها الأخير في السجن أن تبدأ في العمل، وقدمت طلبًا كي يتم السماح لها بالعمل. تقول: «نزلت الكافيتريا وبقيت أشيل كراتين وأشوِلة بصل وبطاطس. في الشهر التالت حصلي تمزق في أربطة الركبة. مستشفى السجن قالولي حصلي تهتك ولازم أريح. كان أصلًا مقابل الشغل في الكافيتريا خرطوشة سجاير كل فترة (ما يعادل 250 جنيه/ 12 دولار تقريبًا)، كان مجهود من غير عائد. بعدها طلبت من نبطشية العنبر تشغلني معاها. مسكت الدفتر ونضافة العنبر وحراسته طول الليل. كنت باخد أربع خراطيش سجاير في الشهر (ما يعادل 1000 جنيه/ 50 دولار تقريبًا)». 

أما السجن نفسه فكان يعامل فاقدات الأهلية «معاملة أولاد الشوارع»، تقول نسرين. «السجن بيجيبوا أكل، بس نوعه سئ والطريقة اللي معمول بيها سيئة. إزاي آكل رز اندلق من الأذان على الأرض، أو خضار مطبوخ في الجردل اللي بنمسح بيه. الأكل مكانش بييجي بطريقة آدمية». 

خرجت نسرين مبكرًا في إفراج شرطي في يوليو 2021، بمراقبة شرطية أسبوعية، بعد رفض أوراقها مرتين، لكنها رحلت إلى قسم شرطة الزيتون، وبقت به شهرًا كاملًا، لعدم تقدم أيًا من أفراد أسرتها ليضمنها، تقول «فيه صديقة في الآخر جت ضمنتني وعملتلي عقد إيجار أوضة. خرجت في 24 أغسطس 2022. كان أول مرة أشوف الأسفلت من 3 سنين و7 شهور».

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

سجن ومقاطعة

في الذكرى السادسة للثورة في 25 يناير 2017، كانت هناك دعوة لمسيرة لاحياءها بحي المعادي جنوب شرق القاهرة. تمهيدًا للمسيرة حوصرت المعادي بأكملها، وتم القبض على حسام العربي من مقهى بالمنطقة، رحل إلى أحد المباني التابعة للأمن الوطني لمدة أسبوعين، ثم ظهر أمام نيابة أمن الدولة العليا متهمًا بنشر أخبار كاذبة ومحاولة قلب نظام الحكم، في قضية عرفت لاحقا باسم «معتقلي دار السلام». 

لاختلافهم معه سياسيًا، قررت أسرة حسام مقاطعته. «أهلي ماجوش زاروني ولا مرة خلال سنة وأربع شهور. وأنا مكنتش عارف ليه مش بيجيلي زيارة. بعت مع أهل زمايلي عشان يكلموا أهلي وكانوا بيقفلوا السكة في وشهم»، يقول حسام مضيفًا «هم فرقوا الناس اللي في القضية في عنابر مختلفة. صحابي اللي في القضية والمساجين اللي يعرفوني كانوا بيبعتولي حاجات من زياراتهم. في السجن اكتشفوا إني فاقد الأهلية بعد ست شهور. مسئول العنبر وداني لظابط لقيته لقيته جايبلي قزازتين زيت وكيسين سكر ومكرونة. كان شكلي سئ جدا، بس خدتهم، وطلبت منه أشتغل». 

الأعمال التي كانت متاحة أمام حسام هي غسل الملابس وكيّها أو خدمة مساجين آخرين. عمل حسام في صناعة منتجات ورقية أو أساور  والتطريز. يقول: «لما كانت بتجيب علبة سجاير في اليوم كان بيبقى كويس»، واستمر حسام في تلقي دعم من زملائه لكن بشكل مجهول، «فيه ناس معرفهمش كانوا بيحطولي بونات تحت الفرش، أجيب بيها أكل وشرب من الكانتين» يوضح حسام. 

بسبب شعوره بالحرج، حاول حسام الاعتماد على «أكل التعيين»، فكان يحاول جعل طعمه مقبولًا قدر الإمكان، حتى يقلل من اعتماده على زملائه. وأكل التعيين عادة ما يكون فول وخبز، فيما يحصل السجين على اللحم ثلاث مرات في الأسبوع. كان حسام يعيد طبخ اللحم المطبوخ بالفعل لتحسين طعمه، وحين لا تفلح المحاولة، يعطي الطعام لقطط السجن. بحسب جدول الزيارات، يتشارك المساجين في العنبر وارد الزيارات، حسام وغيره من فاقدي الأهلية كانوا معفون من ذلك. 

يحكي حسام: «في الأوضة لما كانوا المساجين يلموا من بعض فلوس عشان يجيبوا مثلا تلج في الصيف أو أيس بوكس، مكانش بيبقى معانا فلوس نساهم، بس طبعًا لما كنا بنشرب من الميه دي، فكان يتقالي: انت مش دافع فيها. أو: طب فين أهلك؟.. فيه حاجات كان نفسي أعملها. كنت محتاج فلوس طبعًا، كنت محتاج حد يتكلم معايا. كان نفسي مثلا حد يجيبلي كراسة وأقلام. كان موكا وياسين عندهم، وكان نفسي أرسم زيهم، مكنتش أقدر أطلب منهم عشان الحاجات على قدهم. كان نفسي في أكلة سخنة. كان واحشني أكل البيت. كنت محتاج غيارات وكاب»، عدد حسام ما افتقده أثناء حبسه. 

انعزل حسام في النهاية عن زملائه. يقول «كنت باخد جنب عشان متقلش عالناس. الأهالي بيجيبوا الحاجات ازاي ربنا أعلم بظروفهم، ماقدرش أطلب من حد يخلي أهله يشيلوه ويشيلوني أنا كمان. كنت بخاف أبوظ ميزانية الناس. أقل زيارة بتكلف 500 جنيه». 

صدر قرار بإخلاء سبيل حسام من القضية في يناير 2018، ومع ذلك لم يخرج، نقل إلى مكان غير معلوم، بحسب كلامه، لمدة أربعة أشهر، تعرض فيهم للتعذيب. يقول «بعد أربع شهور نزلنا عالمحكمة، كان معايا ناس من القضية، أخدنا حكم ست شهور (تظاهر). التخريجة كانت إننا أخدنا إخلاء سبيل وسابونا وخرجت، وقبضوا علينا تاني لما القضية اتحالت. بعد الحكم قعدت أسبوعين في قسم دار السلام، وخرجت من قسم الدرب الأحمر».

ظروف خارجية.. ضد التضامن

«كان فيه زمان ناس بتعمل إعاشة للمساجين، بس الدنيا اتقلبت ومبقاش فيه حد شغال عالملف ده» يقول حسام. في نوفمبر الماضي قرر حسام النشر عن فاقدي الأهلية في السجون، وعن معاناتهم متمنيًا أن يكون هناك حل لذلك. يقول « فيه مساجين كتير بتتعذب بسبب الموضوع ده، ومش عارف إيه ممكن يتعملهم». 

السجن مؤسسة عقابية قائمة على أساس طبقي، تقول ماهينور، موضحة أن هناك ضرورة للنظر للسجن ليس باعتباره انتقام. «مايبقاش التعامل إنهم مجرمين يولعوا بجاز»، تضيف ماهينور أن السجن أيضًا مؤسسة ربحية. توضح «أسعار الحاجات في الكانتين أغلى كتير من الشارع. محتاجين يتعاملوا إن السجن مش مؤسسة ربحية. عشان كدة مش بيطوروا أكل التعيين». 

على مستوى آخر الحياة في السجن تشاركية بشكل كبير، وعادة ما يكون هناك تكافل بين السجناء، أكبر بين السياسيين عن الجنائيين، لكن مع أزمة كورونا ومنع الزيارات التي كانت تخفف قليلًا، ومنع دخول الطعام، تفاقمت الأزمة «كان فيه عنابر محتاجة تكافل من بابها»، تقول ماهينور. في المقابل، العمل في السجن قليل، وفي السجون المزدحمة، لا يجد أغلب المساجين أعمالًا متاحة في السجن، تشرح ماهينور، التي تم حبسها هي نفسها أكثر من مرة على ذمة قضايا سياسية. 

هناك ضرورة، بحسب ماهينور، لأن تضمن السجون وجود طعام جيد ومتوفر وكافي للمساجين، وتوفير احتياجاتهم الأساسية مثل الأدوية، وهناك ضرورة لدراسة حالة المساجين الذين لا يزورهم أحد، على أن يحصلوا على إعانات أو معاشات، تضيف: «وزارة التضامن الاجتماعي ممكن تدفع إعانات».  

قيل لنسرين أثناء فترة حبسها أن السجن به أخصائية اجتماعية، لكنها لم تقابلها أبدًا. تضيف: «السجن كان المفروض يعمل دراسة للحالة الإجتماعية للناس اللي معندهمش زيارات. لو السجن جه قالي اشتغلي شغلانة زي اللي بتشتغليها برة واحنا هنوفرلك وجبة كريمة وغطاء والاحتياجات الأساسية هاحس اني بني أدمة. المفروض يعاملوا الناس معاملة آدمية. عايزين المساجين يخرجوا إزاي صالحين للمجتمع بعد ما اتقهروا جوه».