fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

فن السيطرة على موجة الراب والمهرجانات

صحوة موسيقية تنتهي بصفقة تجارية.. ماذا بعد السماح لنجوم الراب والمهرجانات بالغناء في مصر؟
ــــــــ رُبع صوت
15 نوفمبر 2022

طاولة اجتماع داخل غرفةٍ ضيقة تشير معالمها بوضوح إلى تاريخها الحكومي العتيق، بدايةً من العلم المصري في الخلفية إلى انعدام التهوية. جلس مصطفى كامل، نقيب الموسيقيين الجديد محاطًا بأعضاء النقابة وميكروفونات المواقع الصحفية وبعددٍ من نجوم الراب، الذين ظهروا كنغمة نشازٍ في المشهد التمثيلي الذي تقمص به كامل شخصية القائد المنتصر الذي يلقي خطابًا للأمة بعد المعركة:

“بسم الله الرحمن الرحيم بيان عام من مجلس نقابة الموسيقيين، بعد دراسة مستفيضة لما يخص شعبة الراب.. قررنا الآتي.. أولًا: أن يكون عدد الفرقة الموسيقية المصاحبة لفن الراب عدد 6 أعضاء من العازفين من الفن الغربي.. هدّيك السماح عادي تشتغل بتراكك اللي انت بتحبه مؤثراتك الصوتية الأوتوتيون.. متع مصر ومتع العالم العربي كله وعايزنكوا تحصدوا جوايز كبيرة وتشرفوا بلدنا بكلمة حلوة وفن حلو..”.

ألقى مصطفى كامل بيان إنهاء أزمة منع حفلات مغنيي الراب في مصر، وسط تصفيق وفرحة عددٍ من الرابرز المحيطين به، ووقفوا جميعًا في النهاية لالتقاط صورة المصالحة الوطنية أمام علم مصر مرددين: “تحيا مصر”. قدّم مصطفى كامل نفسه في هذه الأزمة كنقيبٍ متفتح ومحتضن للشباب، على عكس السابق هاني شاكر (أتمّ فترته الأولى بين 2015-2019 وأعيد انتخابه لفترةٍ ثانية لكنه استقال في صيف 2022)، الذي كان يتخذ موقفًا أكثر تشددًا تجاه مغنيي الراب والمهرجانات.

ولكن الاختلاف الحقيقي بين الاثنين، ليس في موهبة مصطفى كامل في التمثيل فقط، وتوزيعه ابتساماتٍ مزيفة لنجوم الراب وامتداحهم بطريقة الأب أو ناظر المدرسة “عايزين نحبكم وتحبونا ينفع؟ عايزين نحب بلدنا..” ولكن في كون كامل لا يهمه ذوقه الشخصي أو صراع الأجيال و”برستيج” نقابة الموسيقيين، بقدر ما يهمه كيف يستفيد ماديًا من هؤلاء الشباب ووضعهم تحت السيطرة. لأن الصراع الحقيقي هو صراع حول النجاح التجاري للراب والمهرجانات في مصر كأنه اقتصاد موازي وغير رسمي، بعيدًا عن الكيانات الرسمية التي تسيطر على كل منابع الفنون في البلاد.

كيف بدأت الأزمة؟

ظهرت المهرجانات بشكلٍ واسع في مصر بعد ثورة يناير 2011، على يد أبناء الأحياء الشعبية، ونتيجةً للتطور التكنولوجي الذي سمح لأبناء هذه الطبقة بصنع موسيقاهم من خلال برامج التوزيع على أجهزة الكمبيوتر. صنع هؤلاء الشباب في البداية خليطًا بين الأصوات الموسيقية الشعبية المعروفة كالطبلة والصاجات مع الأصوات البشرية، لتناسب أجواء الحفل الراقص أو في المسمى الشعبي “المهرجان”.

لاحقًا، تطورت المهرجانات بالتوسع في استخدام الإيقاعات والأصوات الموسيقية وتأليف الكلمات بدلاً من الارتجال، وهو ما جعلها تدخل تحت عدّة تصنيفات مثل “الراب الشعبي” أو “إلكترو- شعبي”، وتختلف عن الراب الذي يعتمد في المقام الأول على الكلمات والإلقاء الصوتي للمؤدي على الإيقاع، والذي غالبًا ما يكون غربيًا، وهذا قبل أن تظهر الموجة الجديدة من الراب أو “التراب”، وفيها استخدم الرابرز والمنتجين الموسيقيين إيقاعات شعبية وأصوات آلاتٍ شعبية أيضاً مع الأصوات الإلكترونية، مثل أغنية ويجز الشهيرة “دورك جاي” مع مولوتوف، و”الجميزة” لمروان بابلو، و”شيراتون” لمروان موسى وغيرها.

وبالعودة لما بعد 2011، فقد كان المناخ العام مُرحبًا بالتنوع وبالظواهر الموسيقية الجديدة وسط حالة انفتاح كبيرة في العامين التاليين للثورة. سيطر الجيل الجديد، سواء من المهرجانات أو من الفرق المستقلة، على المنافذ التجارية الرسمية، كالمشاركة في الإعلانات والظهور في البرامج التلفزيونية وإحياء الحفلات، ووصلت إلى حد عمل أفلام سينمائية تجارية من بطولة نجوم المهرجانات تحكي قصة صعودهم مثل أوكا وأورتيجا وغيرهم. ولكن شهر العسل انتهى مع التغيرات السياسية التي طرأت مجددًا بعد عام 2013، وانقلبت الجهات الرسمية سريعًا على الموجة الجديدة وبدأت رحلة السيطرة عليها.

اتبع مصطفى كامل مع نجوم المهرجانات أسلوبًا يقضي بعدم منعهم من العمل ولكنه في نفس الوقت لن يجعلهم زملاء له في النقابة، لاعتراضه على مضمون المهرجانات، هذه السياسة كان الهدف منها جعل مصير المهرجانات تحت رحمة النقابة.. لتقرر هي منعهم في أي وقت والسماح لهم بالعمل وفق مزاجها.

في تلك الفترة كان مصطفى كامل، نقيبًا للموسيقيين في مرحلته الأولى، ويحكي أنه اتبع مع نجوم المهرجانات أسلوبًا يقضي بعدم منعهم من العمل ولكنه في نفس الوقت لن يجعلهم زملاء له في النقابة، لاعتراضه على مضمون المهرجانات، هذه السياسة كان الهدف منها جعل مصير المهرجانات تحت رحمة النقابة. لتقرر هي منعهم في أي وقت والسماح لهم بالعمل وفق مزاجها، ولكن تغير الحال كثيرًا بعد تولّي هاني شاكر نقابة الموسيقيين، بظهور موجات أخرى جديدة من المهرجانات فلم يعد هناك أوكا وأورتيجا فقط، بل عشرات الأسماء التي تتدفق يوميًا إلى الساحة وتحقق نجاحًا كبيرًا.

صاحبَ ذلك ظهور موجة الراب في مصر منذ سنوات، أربكت هذه التطورات هاني شاكر، المطرب الكلاسيكي المحافظ، ودخل في سلسلة من القرارات المتخبطة للتعامل مع الموجات الغنائية الجديدة. ووقع بين أزمتين، الأولى الضغوط المستمرة من أعضاء نقابة الموسيقيين الذين يعانون من قلة العمل وغياب الأضواء عنهم، ويرون أن المهرجانات هي السبب، ويرفضون المساواة معهم في “كارنيه النقابة” من منظور طبقي، والأزمة الثانية في أنه يعرف تمامًا أنه لن يستطيع الصمود في وجه هؤلاء الشباب في ظل الطلب المتزايد عليهم، ولن يستطيع إرضاء المحافظين والرافضين لهم، لذلك كانت استقالته نتيجة طبيعية وحتمية.

الصراع بين الرسمي والشعبي

كانت الحيلة التي يلجأ إليها البعض للسيطرة على الموجات الغنائية الجديدة: اختيار أسماء معينة من كل فئة، تصبح ممثلة عن الجميع وتحظى بالدعم الرسمي والتجاري، مثل الاهتمام الكبير الذي لاقاه الثنائي أوكا وأورتيجا مقابل تجاهل آخرين من نفس الفئة مثل عمرو حاحا وفيلو والسادات وغيرهم. وبعدها حظي الثنائي عمر كمال وحسن شاكوش بنفس الاهتمام، مقابل تجاهل تام للآخرين مثل عصام صاصا وحودة بندق وحمو الطيخا ومسلم وغيرهم من رموز المهرجانات، وأخيرًا تم حصر الراب في ويجز ومروان موسى وعفروتو دونًا عن بقية زملائهم أيضًا.

تنجح هذه السياسة المعتمدة على الانتقاء الطبقي في تهميش عدد كبير من الفنانين الصاعدين وإعاقة التدفق والمنافسة داخل هذه الفئات، خاصة لدى الذين لا تتوفر لديهم المقومات الرسمية المعروفة للنجومية، بدايةً من أسمائهم الغريبة التي تدل على مستواهم الإجتماعي إلى الاعتبارات الشكلية الأخرى.

وهو ما يفسر قرار هاني شاكر في ذلك الوقت بضرورة تغيير نجوم الراب والمهرجانات لأسمائهم وألقابهم كشرط لدخولهم النقابة، وعاد بعده مصطفى كامل واشترط أن تلغى كلمة “مهرجانات” من قاموسهم مقابل السماح لهم بالعمل. ولذلك أيضًا اتجاه عددٌ منهم إلى الاختلاط بالوسط الفني الرسمي سعيًا للارتقاء الطبقي مثل حسن شاكوش وويجز وعمر كمال ومؤخرًا حمو بيكا.

أضاف مصطفى كامل منهجًا آخر، وهو التعامل مع المجموعة المختارة ممكن يشكلون طبقة “الصفوة” في الراب والمهرجانات، وحصر الصراع معهم، وهو ما سهّل عليه عقد صفقة ناجحة لكل الأطراف ولكن خاسرة للفن وللحركة الموسيقية ..

أضاف مصطفى كامل على الطريقة السابقة منهجًا آخر، وهو التعامل مع المجموعة المختارة ممكن يشكلون طبقة “الصفوة” في الراب والمهرجانات، وحصر الصراع معهم، وهو ما سهّل عليه عقد صفقة ناجحة لكل الأطراف ولكن خاسرة للفن وللحركة الموسيقية. عرف كامل أن أقصى ما يطمحون إليه هو تحقيق نجاح تجاري والاندماج مع الوسط الفني، لذلك رضي هؤلاء بالتنازل عن اسم “المهرجانات” والعمل مع فرقة موسيقية مكونة من 12 عازف على المسرح رغم أن موسيقاهم قائمة بالأساس على المهرجان وخلط وتصنيع الأصوات الموسيقية الإلكترونية بأقل التكاليف والإمكانيات.

نجح ممثلو الراب في تقليل عدد الفرقة إلى 6 عازفين فقط، وتحملوا جميعًا مسئولية بطالة العازفين من أعضاء نقابة الموسيقيين، إذن الصفقة واضحة: “أكل العيش” مقابل أكل عيش الأعضاء معك، بالإضافة إلى الرسوم والضرائب والتسهيلات التي ستدفع للنقابة من وراء عملهم، قد تختلف طريقة تحصيلها عن مجلس النقابة السابق، الذي اتهم بالحصول على رشاوى تصل إلى نصف مليون من مطربين مقابل العمل، أو إحياء حفلات مجانًا بأوامر من أعضاء المجلس.

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

أغاني الراب تقع في فخ المكاتب الحكومية

لم يلتفت أحدٌ مُطوّلًا إلى الشرط الأخطر، الذي مرره مصطفى كامل في بيانه سريعًا، بعرض أغاني الراب والمهرجانات على جهاز الرقابة على المصنفات الفنية أولًا، مما يعني السيطرة التامة عليهم فنيًا وتجاريًا، كان جهاز الرقابة سببًا في تردي أحوال موسيقى البوب، بسبب تحكم موظفين بكلمات الأغاني العاطفية، وتعقد الإجراءات الحكومية الروتينية للحصول على التصاريح. والتي ستصبح أيضًا سببًا في تردي أغاني الراب والمهرجانات التي ستفقد أهم ميزة كونها لا تخضع للرقابة الرسمية وأنها تحمل قاموسًا جديدًا على النقيض من الفن الرسمي للدولة.

وقف مغني الراب عفروتو بجانب مصطفى كامل مرددًا بالموافقة على توبيخه له باستخدام كلمة “شقط”- تعني الإيقاع بالفتيات بالعامة المصرية- في إحدى أغانيه: “عفروتو.. مفيش أشقط دي تاني”، هذه الجملة التي أصبحت معتادة وتستخدم في الأعمال الرسمية أيضًا، يراها نقيب الموسيقيين -الذي غنّى منذ سنوات “قشطة يابا“- محرمةً من الآن، فكيف ستكون إذن تحكمات موظفي الرقابة على بقية الكلمات؟

كشفت الصفقة عن هشاشة موقف نجوم الراب، وتنازلهم عن المكتسبات التي حققوها مؤخرًا في أول اختبار، وأمام أول إغراء من النقابة بالسماح لهم بدخول العالم الرسمي للحفلات وجني الأموال، ظهروا لدى البعض بمظهر التجار وليس الفنانين. لا مانع في استخدام فرقة موسيقية رغم أن فنهم قائمٌ على عدم وجودها من الأساس، لا مانع في الرقابة على الكلمات أو شطب كلمة “مهرجان” أو أي شيء يخالف ما قاموا على أساسه.. مقابل هذه المزايا المحدودة.

لم يعد للفنان أو المنتج الموسيقي إذن الحرية في اختيار الأصوات الموسيقية ولا الكلمات، ناهيك عن المستوى المتوقع أن تخرج به حفلات الرابرز بوجود فرقة موسيقية. وهم في الأساس يعانون من مشكلات عديدة في الأداء بالحفلات حتى قبل قرار النقابة. ويلجأ بعضهم إلى الـ”بلاي باك” بسبب ضعف الأداء الحي وتردي حال الهندسة الصوتية في الحفلات.

نجحت الخطة أيضًا في إحداث انقسام كبير داخل مشهد الراب والمهرجانات المصري، فهناك فئة عُليا أصبحت تعقد الصفقات بالنيابة عن الجميع وتحصل على المزايا، وآخرين لا صوت لهم. وأصبح هناك من يرى أن المكاسب المالية من وراء هذه الصفقة أهم من المكاسب الفنية للحركة الموسيقية الصاعدة، مقابل آخرين رأوا في الأمر انتكاسةً وهزيمةً لفن الراب، ومنهم المنتج الموسيقي المعروف “مولوتوف“، الذي انتفض ضد زملائه بعد صفقتهم واتخذ موقف معادي تمامًا.

رأى مولوتوف أن التحول الأخير جعل من الراب سلعة تجارية بحتة وأبعده عن الشارع المصري، حاول الاعتراض بحذف أعماله مع مروان موسى وعفروتو، المشاركين في المصالحة، واتهم جميع المشاركين بأنهم “بيسلموا الفن وبيبيعوه بأرخص تمن”. هجوم مولوتوف على زملائه، ليس لتفريطهم في حريتهم فقط، ولكن لتفريطهم في حرية غيرهم أيضًا، وتهميش مهنته كمنتج موسيقي، والتي تساءل عن كيف سيكون موقفها بعد شرط العمل مع فرقة من العازفين وتحديد نوعية الآلات الموسيقية بأوامر إدارية على الفنانين؟

لم يعد للفنان أو المنتج الموسيقي إذن الحرية في اختيار الأصوات الموسيقية ولا الكلمات، ناهيك عن المستوى المتوقع أن تخرج به حفلات الرابرز بوجود فرقة موسيقية. وهم في الأساس يعانون من مشكلات عديدة في الأداء بالحفلات حتى قبل قرار النقابة. ويلجأ بعضهم إلى الـ”بلاي باك” بسبب ضعف الأداء الحي وتردي حال الهندسة الصوتية في الحفلات، وكذلك لعدم الاهتمام الكافي بمستوى الحفل وإمتاع الجمهور، فالهدف كان واضحًا من البداية وهو المال.

الشيء المثير للحسرة فعلًا، هو أن نجوم الراب لم يشعروا أنهم في موقف أقوى من النقابة في الوقت الحالي، فالموجة العالية أغرقت النقيب السابق هاني شاكر، ودفعت النقيب الجديد إلى تغيير لغة التفاوض بل والاعتذار إلى فناني الراب والجمهور لهجومه السابق عليهم. فكان غريبًا تفريطهم السريع في مكتسباتهم كأنهم في موقف أضعف، رغم الجماهيرية والنجاح التجاري الكبير بدون حتى الحفلات المحلية.

صفقة الراب مع نقابة الموسيقيين

انخدع البعض في تمرد نجوم الراب على القيود، بسبب محتوى أعمالهم المليء بعبارات التفاخر بالقوة والذات والتمرد، ولكن السوق الفني في مصر قادر على احتواء أي تمرد بدون تدخل مساعدة نقابات أو كيانات رسمية حتى. وهو نفس ماحدث مع نجوم الفرق المستقلة بعد 2011. باندماجهم في الإعلانات والمسلسلات والأنشطة التجارية الأخرى، والتي أجبرتهم بمنطق “أكل العيش” إلى التخلي عن المحتويات السياسية والاجتماعية الجريئة، وتخفيف النبرة العالية في الغناء تدريجيًا إلى أن وصلوا إلى الغناء العاطفي التقليدي مثل الجميع في النهاية، وأقرب مثال إلى ذلك ما مرت به فرقة “كايروكي” و”مسار إجباري” وغيرهم.

حافظوا على استمرارهم في الإعلانات والحفلات مقابل الابتعاد عن الشارع والتمرد وعدم غناء أغانيهم السياسية القديمة في الحفلات. نفس الأمر حدث ولكن مبكرًا مع جيل الراب والمهرجانات، فهم من البداية ابتعدوا عن السياسة والقضايا الكبيرة، مقابل هامش حرية في التعبير عن أنفسهم واختيار الكلمات والموسيقى وبعض الموضوعات الاجتماعية التي لا يلحق الحديث بها ضررًا كبيرًا. لكن ظل معيار التواجد في الحملات الإعلانية والأنشطة المرتبطة بالشركات الكبيرة هو أساس المنافسة بين نجوم الراب.

يتبادل نجوم الراب المكايدة والمعايرة في معاركهم الجانبية بمدى الطلب عليهم في الإعلانات وحجم الحسابات البنكية، ومن يقضي أجازته في الجونة؟ ومن يقضي أجازته في دبي؟ طبقوا على أنفسهم من البداية المعايير الطبقية والمادية، وتسللت إلى محتوى بعض أعمالهم أيضاً، ويفسر ذلك سبب خوف نجوم الراب من الاقتراب من عالم المهرجانات، والذين يحظون بتصنيف أقل طبقيًا عنهم. ظهر ذلك بوضوح في تعامل مصطفى كامل مع الفئتين، كان عنيفًا مع المهرجانات لم يسمح لأحد منهم بالوقوف بجانبه في المؤتمر وألقى عليهم الأوامر الفوقية المليئة بالتهديدات، في حين كان ودودًا مع الرابرز ولا تفارق الابتسامة وجهه ويطلب منهم أن يحبوه كما يحبهم.

أين الحفلات الموسيقية التي يتصارع عليها الجميع؟

وسط كل هذه الصراعات، لم تحظ المشكلة الحقيقية لسوق الموسيقى بالنقاش الكافي. والتي تتمثل في سؤال: “أين هي الحفلات التي يتصارع عليها الجميع؟” نحن نعاني من الأساس من غياب الحفلات وقلتها وصعوبة إقامتها. المشكلة الحقيقية هي عدم وجود حرية في سوق إقامة الحفلات في مصر، التي تعيقها عشرات الإجراءات الروتينية المعقدة والقيود الأمنية، التي تسببت في عدم قدرة المسارح الصغيرة خاصة في العاصمة على إقامة الحفلات لمختلف الألوان الموسيقية. 

وأصبح سوق الغناء والحفلات مقتصرًا على طرفين فقط: الغناء الرسمي ومكانه الأوبرا المصرية ومهرجانات وزارة الثقافة، والراب ومكانه في المسارح المفتوحة على أطراف القاهرة، وحفلات الأغنياء في الساحل الشمالي بموسم الصيف، غير ذلك لم يعد أمامك سوى خيارات محدودة للغاية منها “ساقية الصاوي” مثلًا في القاهرة، والتي لجأت أيضًا إلى افتتاح فروع جديدة على أطراف العاصمة هرباً من القيود الأمنية على الحفلات.

انحصرت الحياة الموسيقية أيضًا بين ثلاثية “البوب والمهرجانات والراب” فقط، وابتعدوا جميعًا عن الشارع، فقرار السماح بالحفلات للمهرجانات هو قرار بالسماح لنجوم المهرجانات في إحياء حفلات زفاف الأغنياء والحفلات في الساحل الشمالي. ولكن غير مسموح لهم بإحياء حفلات لجمهورهم الأصلي في الأحياء الشعبية بمصر، ونفس الحال لنجوم الراب.

تحتاج صناعة الموسيقى إلى الابتعاد عن جهاز الرقابة على المصنفات ونقابة الموسيقيين وقيود الأوساط الفنية الرسمية وتركها “في حالها”، وتحتاج نقابة الموسيقيين إلى العمل لفتح الباب أمام المزيد من الحفلات بدون قيود أمنية ومادية، لكي تحل مشكلتها في البطالة. وليس لتحميل الأزمة إلى الراب والمهرجانات.

تملك الدولة أيضًا عدة مسارح كبيرة في القاهرة وتحظى بتسهيلات أمنية وإجرائية، أمام جبال من القيود الأمنية وكثرة الإجراءات والتصاريح للحفلات الأخرى، التي تتكاتف مع الأزمات المادية الكبيرة التي تعيق الحفلات، خاصةً بسبب الضرائب الكبيرة التي تفرضها الدولة على الحفلات. كضريبة الملاهي الليلة التي تقدر تقريباً بأكثر من 25% على التذاكر، و14% ضريبة قيمة مضافة، و5% ضريبة مهن حرة للمصريين و20% للأجانب، خلافًا لتكاليف المسرح والدعاية والأجور، لذلك يقول مدير  ساقية الصاوي، في حوار له منذ 4 سنوات- أي قبل التعويم والتضخم وزيادة الضرائب- أنه يفقد 50% من قيمة التذكرة بسبب هذه التكاليف، فكيف سيكون الحال بعد الأزمة الاقتصادية الحالية؟

تخطت أسعار التذاكر في معظم الحفلات في 2022 الحد الأدنى للأجور في مصر، وتزيد المخاطر بالنسبة للفنانين الشباب والمستقلين في الخسائر المادية وعدم التواجد في الحفلات، في الوقت الذي تقام به في العاصمة حفلات موسمية محدودة وبأسعار باهظة ومقتصرة على الأسماء الكبيرة فقط. يلجأ أحيانا بعض منظمي الحفلات إلى الدفع بعدد من الفنانين في حفلات واحدة، كحل وسط لتفادي أزمة التكاليف وغلاء التذاكر، ولكن ذلك لن يحل المشكلة الرئيسية.

تحتاج صناعة الموسيقى إلى الابتعاد عن جهاز الرقابة على المصنفات ونقابة الموسيقيين وقيود الأوساط الفنية الرسمية وتركها “في حالها”، وتحتاج نقابة الموسيقيين إلى العمل لفتح الباب أمام المزيد من الحفلات بدون قيود أمنية ومادية، لكي تحل مشكلتها في البطالة. وليس لتحميل الأزمة إلى الراب والمهرجانات، والذين كان سبب صعودهم الأساسي الاعتماد الذاتي في الإنتاج الموسيقي كنتيجة للتطور التكنولوجي في صناعة الموسيقى، وهربًا من البطالة وقلة الإمكانيات وغياب شركات الإنتاج في مصر في السنوات الأخيرة.