fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

في كازينو لبنان وميدان الخيل.. البحث اليائس عن الحظ

على إحدى الماكينات، ألصق رجل خرقاً مبلولة على المربّعات الأربعة على الشاشة ليحجب الأشكال التي عليها أن تتطابق من أجل الفوز. وبسعيه إلى التخفيف من قلق ترقّبه للنتيجة، تخلّى الرجل عن عينيه مؤقتاً، كأنه يفقأهما أمام قوّة خفيّة تبعثها الشاشة.
ــــــــ المـكـان
21 مارس 2022

«أكل وشرب ضحك ولعب بسط وركب في التاكسيات… الغندرة والفنكرة والبهورة وكتر البطر هلك بيروت». ترتقي أغنية عمر الزعني هذه، بخفّتها، إلى ما يشبه سيرة موجزة للمدينة التي قادها النظام الاقتصادي الخدماتي إلى حتفها. أبناؤها مأخوذون بكشّ الحمام والسهر وشرب العرق وغيرها من الأنماط التي تكاد تجمع كل مفردات ترف بيروت بسياقاته الاجتماعية والاقتصادية.

مع هذا، لا تبدو “التوبة” خياراً وارداً لأهالي المدينة التي تعيش انهيارها الاقتصادي الأكثر حدّة في تاريخ البلاد، فاللعب لا يزال حاضراً كطقس قديم أو كتعويذة أخيرة لإغراء آلهة الربح.

يتمنّى الزعني (1895-1961)، في أغنيته «لو كنت حصان»، أن يكون حصاناً لعائلات سرسق أو فرعون أو الداعوق أو غيرها من العائلات البيروتيّة النافذة التي امتلكت اسطبلات في «ميدان سباق الخيل في بيروت» منذ افتتاحه. بهذا التحوّل الافتراضي، كان سيتاح له النجاة من واقعه الاجتماعي البائس. إذ تلجأ الأغنية التي ظهرت عام 1930 إلى وصف حياة الأحصنة وطعامها الفاخر، كمقارنة كاريكاتورية مع ظروف أبناء الطبقات الفقيرة في تلك الفترة من تاريخ لبنان بتحوّلاتها العديدة منذ منتصف القرن التاسع عشر.

ما وراء الأطعمة الفاخرة للأحصنة، إشارة إلى ترف العائلات البيروتية الثريّة، وهوسها بالمتع القصوى. صحيح أن بعض هذه العائلات لا تزال تملك اسطبلات في المضمار حتى اليوم، مثل آل فرعون وآل دو فريج، إلا أن ذلك لن يجعل أيّ أحد يتمنّى لو أنّه كان حصاناً، كما جرت العادة في السابق. فحالة الأحصنة من حالة المراهنين عليها، ومن حالة المكان والمدينة. وقد احتفل الميدان بعيده المئة عام 2016، على وقع الدعوات اليائسة لإنقاذه، والاتهامات التي تتقاذفها «جمعية حماية وتحسين نسل الجواد العربي»، و«بلديّة بيروت».

في كازينو لبنان وميدان الخيل.. البحث اليائس عن الحظ

الميدان في الستينيات. المصدر: الصفحة الرسمية لميدان سباق الخيل في بيروت

خيول أنهكتها الخسارة.. مراهنات في الميدان الآفل

إن أردت أن تتعرّف إلى وضع الميدان خلال الأزمة، فلا مكان أفضل للقيام بذلك من الإسطبلات أو الحظائر. ستقودك إلى ذلك مظاهر الخيول التي خسرت الكثير من قوّتها ولياقتها. هذا ما يلاحظه عادل، أحد روّاد المكان، بسبب خبرته المتوارثة في تربيتها. في السابق، كان يُسمح للسائس بتولي الاعتناء بجوادين كحدّ أقصى، لكي يتفرّغ للاهتمام بنظافتهما، وإطعامهما، وإخضاعهما للتمرينات اليوميّة. ومع انخفاض سعر صرف الليرة بشكل حادّ في الأشهر الأخيرة، لم يعد هناك من حدّ أقصى لعدد الأحصنة للسائس الواحد، وهذا ما يؤثّر حتمًا على صحّتها، وقوّتها في السباق. يرتبط ذلك بارتفاع سعر العلف، وأسعار أدوية الأحصنة، وما تحتاجه من فيتامينات ومعدّات لحفظ نشاطها. تحت هذه التكاليف الجديدة، آثر عدد من مالكي الاصطبلات التخلّي عن أحصنتهم، على تكبّد تكاليفها الباهظة، ما أدّى إلى انخفاض أعداد الخيول في السباق الواحد إلى خمسة فيما كانت تصل في الماضي إلى ما يقارب 13.

وسط هذه الظروف القاسية، لا تزال النداءات الرسميّة الداعية إلى الحفاظ على الموقع اليوم، تتّخذ من وجهه البرجوازي الآفل حجّةً من أجل إنقاذه. وغالباً ما يتمّ إسقاط الطبقات الفقيرة وأصحاب الدخل المحدود من هذه الدعوات رغم أنهم يشكّلون الفئة الأكبر التي ترتاد المضمار منذ سنوات. دعوات تنطوي على تجريد مبطّن لهذه الطبقات من أحقّية الحصول على مكان ملائم للعب والمراهنة. واللافت أن الفقراء يشيحون بدورهم عن وضعه المتهالك (نتيجة إخفاق مشاريع عديدة كانت قد أعلنت عنها البلديّة)، إذ ينسخون تاريخ الحقبة البرجوازيّة للمكان، كما لو أنّهم يعطون شرعيّة لتردّدهم عليه اليوم للمراهنة.

ما خلا الحاجة إلى الاقتراض من الآخرين من أجل اللعب، لا يستعين المقامر بأيّة أضحية سوى نفسه. يواصل إنفاق ذاته في سلسلة لا متناهية من اختلاق آلهة الحظّ وإماتتها بلحظة واحدة..

نتحدّث عن زمن انقضى منذ عقود، سواء أكان ذلك بسبب الحرب (أبرزها تعرّضه للقصف خلال الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982) أو التحوّلات التي بدأت تطرأ على واقع المدينة. نهار الأحد كان يتصدّر المواعيد على رزنامة هذه العائلات، التي كانت تنزح من أحيائها الفاخرة على تلال المدينة نحو ميدان السباق، في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي. موعد لم يكن يفوّته أيٌ من الديبلوماسيين والأمراء في زيارتهم للعاصمة اللبنانيّة. في تأريخه لبيروت، يشير الصحافي والمؤرّخ سمير قصير إلى تلك الفترة التي كان فيها المضمار مسرحاً للتنافس بين النساء على تسريحات الشعر ووسائل الزينة والتبرّج. إلا أن الإقبال الواسع الذي حصدته المراهنات على الخيول منذ السبعينيات من قبل الطبقات الشعبيّة، بدّل من أهواء هذه الطبقة، ودفعها إلى الكازينوهات التي بدت حينها أكثر إغراء، أبرزها «كازينو لبنان» الذي شيّد سنة 1959 على مشارف بيروت.

ولد المكان من تلك التأثيرات الغربية منذ منتصف القرن التاسع عشر، في وقت كانت فيه بيروت منكبّة على ابتكار وسائل اللهو والملذات الحسيّة. توجّه لم يتجاهله الرحالة لدى مرورهم بالمدينة، فوصفت كتاباتهم وسائل الامتاع المبكرة، منها ظهور طاولات بلياردو في المقاهي الفخمة بأسمائها الغربية، والتي كانت مخصّصة للرجال، قبل أن تفتح أبوابها أمام النساء.

لبّى الميدان، لدى تأسيسه سنة 1916، رغبة هذه العائلات الثرية وأهوائها، كغيره من أمكنة اللهو الأخرى التي أبصرت النور في المدينة منذ مطلع القرن الماضي، من بينهما الملاهي الليلية، إذ عُمّر الميدان بعدما كلّف والي بيروت العثماني عزمي بيك حينها ألفرد سرسق ببناء مضمار لسباق الخيول، برفقة كازينو لم يلبث أن تحوّل إلى مقرّ للمفوض الفرنسي السامي، فيما لا يزال حتى اليوم مقراً للسفير الفرنسي. هكذا اتسم الموقع في سنواته الأولى، بطابع غربي، تماشياً مع موجة التفرنج التي بدأت تجتاح المدينة عن طريق هذه العائلات الثرية نفسها، حيث كانت تتمّ مقارنته بميادين سباق الجياد الأوروبية رغم حضور هذه السباقات في التراث العربي.

لا أوروبي ولا عربي. هكذا هو الميدان اليوم. مساحة هشّة تلتقط ذبذبات المدينة وأزمتها وإخفاقاتها، تمتدّ وسط العاصمة اللبنانية، على مساحة تتجاوز الـ 200 ألف متر مربع. تتخللها بؤرة خضراء من أشجار الصنوبر وتضاعف من عزلتها الجدران المرتفعة التي تسوّرها من نهاية شارع بدارو، وصولاً إلى المتحف الوطني، ثم إلى المدخل المواجه لحرش بيروت مجدّداً. على أبوابه الخلفيّة علّقت لافتات تشير إلى أنه المدخل الرئيسي، لكنك لن تصطدم إلا بأبواب مغلقة بعدما انخفض عدد السباقات جرّاء الأزمة.

في كازينو لبنان وميدان الخيل.. البحث اليائس عن الحظ

المصدر: يوتيوب

من أحد إلى آخر.. المراهنون في انتظار معاش الأسبوع

يحلّ نهار الأحد في بيروت فيبدأ العدّ العكسي لبدء السباق. الساعات الأولى منه مخصّصة للتحليل والتوقّعات وقراءة النشرة التي تصدر عن إدارته قبل يوم واحد. ينتظره المراهنون من أحد إلى آخر، سعياً إلى الفوز براتب أسبوع كامل. المسافة ما بين المدينة والميدان نهار الأحد، محكومة بالتلاعب بالحدود ما بين العمل والعطالة، بين النشاط المتّقد والكسل. وبينما يرتاح معظم السكان نهار الأحد من سباق العمل وجمع المال، ينهمك المراهنون، فالفوز برهان واحد قد يفرش أسبوعهم بعطلة طويلة. يستهزئ اللاعب بوقع العمل اليومي، وفق وصف السوسيولوجي الفرنسي روجيه كايوا لألعاب الحظ بما فيها القمار والمراهنات. ألعاب لا تبالي بالمثابرة اليومية اللاهثة خلف الادخار من أجل المستقبل، بل تصبح «سخرية من جميع الفضائل والصفات المطلوبة في عالم مكرّس لتراكم الثروات».

مهما كبر حلم المراهنين بأسبوع خال من العمل، فإن مصيره التبدّد في لحظات السباق القليلة. لا يتعدّى الزمن لديهم الدقيقة الواحدة. تعلن عنها صافرة الانطلاق، وتنتهي مع بلوغ الجواد الأوّل نقطة الوصول. تنطلق الهتافات قبل الصافرة غالباً. خلال هذا الدقيقة تصبح الصرخات أشدّ وضوحاً، بتحوّلها إلى شتائم لا تترك أياّ من الأحصنة أو الخيالة لدى اقتراب ظهور النتيجة.

دقائق قليلة قبل انطلاق السباق الأخير عند الثانية ظهراً، يمتلئ شباك التذاكر الذي يقف خلفه بائعان فقط. على هذين الرجلين أن يلبيا مئات المراهنين الذين يتسابقون نحوهما ما إن يقترب موعد السباق الأخير. آخر السباقات الخمسة، يختلف عن غيره. إنه الفرصة الأخيرة لتعويض ما أنفقوه، أو لتوسّل أحصنة الربح. أمام أحد البائعين، كان رمزي يتنبّأ بفوز حصانين، هما “شادن” و”حبيب لبنان”، فازت شادن في النهاية.

لا يعتمد رمزي في تقديراته على النشرة فحسب، رغم أنها تورد بعض التوقّعات بأرقام الأحصنة الفائزة. برأيه، قد تخضع هذه الترشيحات إلى التلاعب لأسباب عديدة، منها صرف اللاعبين عن المراهنة على بعض الأحصنة، ما يؤدّي إلى رفع مبلغ الربح في حال فوزها (كلّما كثرت المراهنات على حصان، أدى ذلك إلى انخفاض قيمة الجائزة). بدلاً من ذلك، يعتمد رمزي في خياراته على خبرته الطويلة في تربية الخيول في مزرعة عائلته، فضلاً عن متابعته المتأنية لسباقات الخيول من أسبوع إلى آخر. اعتاد الشاب العشريني أن يأتي من شمال لبنان إلى الميدان مع والده كلّ نهار أحد، هنا يلتقي برفاقه القادمين من كلّ المناطق اللبنانية إلى الميدان. هكذا يبرّر الشاب ذهابه إلى سباق الخيل اليوم، كتقليد عائلي عتيق، لا يمنعه من المراهنة على الأحصنة أحياناً.

إن كانت ألعاب العصور الحديثة قد تخلّت عن طابعها الديني، إلا أن جذورها تضرب في تاريخ الأديان القديمة، وفي الطقوس والكرنفالات كوسيلة أخيرة للتدخّل في المصائر البشريّة

في السابق كانت تصل أعداد المراهنين إلى أكثر من ألفين، أما اليوم فلا يتجاوز عددهم المائتين، يغلب عليهم الكهول. مع هذا، يبدو وجود أعداد الشبان لافتاً أمام خياراتهم الكثيرة المتاحة للمراهنة الإلكترونية، مثل ألعاب كرة القدم. علماً أن بعض المكاتب استحدثت خدمة الكترونية تتيح للناس المراهنة على سباق الخيل نهار الأحد عن بُعد، شرط أن تقتطع نسبة من أرباحهم.

أما الشابات والنساء، فيصعب العثور عليهن، مقابل غياب كامل للعائلات التي كانت تزور المطعم في الطابق العلوي من المدرجات. كان الدخول إلى المطعم في السابق يفرض على الناس مبلغاً مالياً، يؤدّي دوراً في نوع من الفصل الطبقي بين المراهنين، قبل أن تتلاشى هذه الهرميّة أخيراً بعدما أغلق المطعم أبوابه جرّاء الأزمة.

هناك قاعدة غير مكتوبة ينصّ عليها الميدان، مفادها أن من يتعلّم المراهنة على السباق لن يستهويه أي نوع رهان آخر. هذه القاعدة هي شعار سائق التاكسي رشيد، الذي يواظب على المراهنة في الميدان منذ أن تعرّف إليه شاباً. حتى اليوم لم يفلح أي نوع قمار آخر في إغرائه. ملعبه الدائم هو “السبق” كما يسمّيه. وفيه يستطيع أن يراهن بأي مبلغ يجنيه خلال الأسبوع من عمله كسائق أجرة، مهما كان ضئيلاً، إذ أن السعر الأدنى للبطاقة هو خمسة آلاف ليرة لبنانية (يتجاوز سعر صرف الدولار الواحد اليوم الـ 20 ألف ليرة لبنانية).

إن سألت أي أحد في بيروت عن مهن مرتادي سباق الخيل، فسيُجمعون على أن معظمهم من سائقي الأجرة. تبقى هذه انطباعات تتناقلها الألسن في حين لم تؤكّدها أي دراسة حتى اليوم. في هذه الحالة، لا يمكن إثباتها أو نفيها إلا بإحصاء لافتات السيارات الحمراء (لون لافتات سيارات التاكسي) المركونة في الموقف، أو بمحاذاة الرصيف المحيط به. أو قد نستعين من أجل تبرير ذلك بنمط العمل الخاص بسائقي الأجرة الذي يحتّم التفاوت الكبير في رواتبهم بين شهر وآخر. يسلّم السائقون أنفسهم إلى هذه المعادلة يوميّاً.

دورة عملهم بطبيعتها متروكة للصدفة التي تتحكّم باحتمالية العثور على راكبٍ في زواريب هامشية، أو في قضاء نهار كامل على الطرقات الرئيسية من دون التعثرّ بإنسان واحد. كأن هذه الجولات المديدة هي تمرين على اقتطاف الحظ الذي يبدو الأمل الأخير في مدينة بلا أفق.

التضحية والرهان والإنفاق

ليس هناك تاريخ واضح لظهور ميادين سباق الخيل الأولى في التاريخ، إلا أن العصر الروماني يعدّ محطّة أساسيّة لها، ولبيروت حصّتها في هذا العصر، مع اكتشاف مضمار أثري سنة 2008، يضاف إلى ميدان آخر في لبنان يقع في مدينة صور الجنوبيّة. في سباق الخيول تتجلّى إحدى أوجه العلاقة القائمة على الفرجة بين الإنسان والحيوان، والتي ظهرت في حدائق الحيوانات في العواصم الأوروبية منذ القرن الثامن عشر. تلتحق هذه الحدائق، بممارسات متطرّفة مبكرة نحو الحيوانات بلغت قمّتها في العصر الروماني، من خلال التضحية فيها، وزجّها في معارك شرسة للفرجة ضمن حفلات يرعاها وينظّمها الحكّام والملوك بهدف حماية شعبيّتهم. كان لهذه الطقوس الدموية التي تجمع الحيوانات النادرة والثمينة دور آخر يتمثّل في مضاعفة الشعور الجماعي بقوّة الإمبراطورية.

يلتقي القمار والرهانات مع التضحيات البشرية والحيوانية ضمن “مفهوم الإنفاق” للفرنسي جورج باتاي، من خلال حضور الخسارة كمبدأ أساسي لكليهما. يضعهما باتاي في خانة النشاط الإنفاقي والاستهلاكي اللامنتج، بعيداً عن الإنفاق المنتج الموجّه من قوى العالم الرأسمالي. ما خلا الحاجة إلى الاقتراض من الآخرين من أجل اللعب، لا يستعين المقامر بأيّة أضحية سوى نفسه. يواصل إنفاق ذاته في سلسلة لا متناهية من اختلاق آلهة الحظّ وإماتتها بلحظة واحدة. يقتصر إيمان اللاعب على الصدفة وحدها، التي تشحن ألعاب الحظّ وتحرّكها، كطقس قديم أو ذبيحة من أجل القضاء على الشدائد.

أمام غياب أيّ أفق أو وعد بمستقبل قريب، تقدّم بيروت سيلاً من النوافذ اللحظويّة. هذا أقصى ما يمكن انتظاره، ما دمت في موقع التلقّي السلبي لهذا الانهيار

انطلاقاً من ضبابية معنى اللعب، يفنّد الأكاديمي الأميركي براين سميث معانيه وخطاباته المتعدّدة في كتابه “التباس اللعب“. إحداها الألعاب كخطاب للمصير، التي تشتمل على ألعاب الحظّ. وإن كانت ألعاب العصور الحديثة قد تخلّت عن طابعها الديني، إلا أن جذورها تضرب في تاريخ الأديان القديمة، وفي الطقوس والكرنفالات كوسيلة أخيرة للتدخّل في المصائر البشريّة. في المقامرة الحديثة، بات الحظ، وفق سميث، الأمل الوحيد لمواجهة مصير الفناء: “إنه لعب الفرصة الأخيرة، وهو لعب كل إنسان. ورغم أنه لعب بائس، إلا أنه الملاذ الأخير أمام الفناء المحتّم”.

لا يشيح سميث عن الوهم كعنصر أساسي لألعاب الحظ التي يبدي لاعبها استعداداً دائماً للاقتناع بالفوز مجدّداً حتى حين يكون تحت وطأة خسارته. يزجّ هذا الوهم بالقمار والرهانات، ضمن التصنيف اللاعقلاني للعب الذي يضمّ أيضاً وسائل لهو الأطفال. يؤدي اللعب في مرحلة الطفولة وظيفة أساسية تتمثّل بـ “إيهام الأنا بالسيطرة على صعوبات الحياة عبر نيل اللذة”، كما صاغها عالم النفس الأشهر في مجال اللعب إريك إريكسون. وفي حين يهيّئ اللعب الأطفال للنضج، وفق إريكسون، إلام يهيّء اللعب الكبار إذاً؟

في الحاجة إلى الحظ والصدفة

يلحظ المخرج اللبناني الراحل برهان علويّة تضاعف عدد بائعي أوراق حظ “اليانصيب” في بداية فيلمه “إليك أينما تكون” (أخرجه بعد عقد على انتهاء الحرب الأهليّة اللبنانية). ترصدهم كاميرته وهم يطاردون المارّة في شارع الحمرا الذي كان شاهداً على نهضة بيروت الثقافية خلال الستينيات. وللمفارقة الساخرة، يتلاشى باب الحظ تماماً من الفيلم، حين تهبط الكاميرا إلى قعر المدينة في رحلة قاتمة تعرّفنا على أشخاص فقدوا القدرة على النوم، كما لو أن أرقهم يحرس ليل المدينة.

وجوه جاحظة تحمل إجابة ضمنيّة على الحاجة إلى التمسّك بالحظ وبالصدفة، التي تكاد تكون ملاذ المدينة الوحيد في الأزمات وبعدها، كما يشير أنسي الحاج في أحد مشاهد الفيلم. فحين يخفق الشاعر اللبناني في العثور على أيّة أهمّية ملموسة للمدينة، يسمّي الصدفة الشعريّة، كخلاص مؤقت لجعلها محتملة، بتشريعها احتمالات لقاء الأحبّة دون مواعيد محدّدة مسبقاً.

أمام غياب أيّ أفق أو وعد بمستقبل قريب، تقدّم بيروت سيلاً من النوافذ اللحظويّة. هذا أقصى ما يمكن انتظاره، ما دمت في موقع التلقّي السلبي لهذا الانهيار. في ظروف، كهذه يقدّم اللعب أو القمار، عوالم بديلة مطمئنة كأي إيمان آخر، وقد يشكّل فرصة للانتقام من المنافسة الاقتصاديّة غير العادلة في المجتمع.

ربّما هذا ما يبرّر ارتفاع عدد زوّار كازينو لبنان وفق إحصاءات رسمية لإدارته، تشير إلى ارتفاعه بنسبة تتراوح بين 20  و30% خلال السنة الفائتة، وهي السنة شهدت التدهور الأكثر حدّة في الحالة الاقتصادية. لا يشتمل هذا الرقم على أعداد زوار صالات القمار المنتشرة في ضواحي بيروت، والتي تستهدف طبقات أشدّ فقراً. يوكّد مدير مجلس إدارة الكازينو رولان الخوري، أن الإقبال على الكازينو ازداد في كلّ صالات الألعاب، بما فيها صالة ألعاب ماكينات الحظ (Slot Machines)، التي تستقطب أصحاب الدخل المحدود، والتي تصل فيها أسعار بعض الألعاب إلى مبالغ منخفضة جدّاً.

في زيارة إلى الكازينو أخيراً، كانت هذه الصالة ممتلئة، بما يخالف كلّ التوقّعات. فالزوّار معظمهم من اللبنانيين بعدما انخفضت نسبة السيّاح خلال الأزمة كما يؤكّد الخوري، في حين ظلّ الكازينو لفترة قريبة قبلة للقادمين من الخارج خصوصاً العرب، إذ شكّل منذ افتتاحه 1959، موقعاً متفرّداً في المنطقة لألعاب الميسر. حتى على نطاق البلاد، نال الكازينو الحق الحصري للاستئثار بألعاب بالقمار، فصار ملاذ البيروتيين الوحيد بصالاته، ومسرحه وعروضه المستوحاة من أجواء عواصم القمار العالمية مثل لاس فيغاس.

لم يكن قدوم الحرب، وانقطاع السبل المؤدية إلى الكازينو، إلا فرصة للتحرّر من استحواذه على وسائل المقامرة. ففي ظلّ فوضى الاقتتال، لم يتخلّ السكان عن المقامرة، حيث ظهرت صالاتها في شقّي بيروت الغربية والشرقية. يرصد تقرير نشرته صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” سنة 1986، هذا الانتشار اللافت لصالات القمار، ولأنماط مختلفة من المراهنات في الجانب الغربي كانت تستقطب بنسبة كبيرة الأغنياء ومقاتلي الميليشيات على السواء. ويشير التقرير إلى أن بيروت الغربية، اتبعت هذه الموضة بعد الشرقية التي كانت السباقة في افتتاح هذه صالات، ما يعكس الشعبية التي كانت يحظى بها القمار في كل العاصمة.

في كازينو لبنان وميدان الخيل.. البحث اليائس عن الحظ

المصدر: الصفحة الرسمية لكازينو لبنان

العمى.. عقاب ذاتي وجماعي

تطيل المرأة الستينية الضغط على أحد الأزرار الثلاثة على اللوح أمامها ولا ترفع إصبعها، ولا تنظر إلى الشاشة مباشرة. تصوّب نظرها إلى اللوح فحسب. ما تريده هو كبسة واحدة، كما لو أن الإطالة هذه ستحرك مصعد الربح سريعاً. تزداد طرقات الإصبع عنفاً، لكنها لا تعيد إليها ألفاً واحداً من سعر البطاقة، التي استبدلتها إدارة الكازينو بالفِيَش في السنوات الأخيرة.

ما إن يتداعى الرصيد إلى صفر، تصاب بالذهول كأن أحداً غيرها كان يلعب، وقد فاته التناقص التدريجي للرقم الظاهر على الشاشة. هذا أمل الضربة الأخيرة، الذي يتمسّك به معظم المقامرين حتى الرمق الأخير. لكن لا يبدو أنها ليلة الربح بالنسبة إليها. تشعل سيكارة، ثمّ أخرى من دون أن يجرؤ أيٌ من الموظفين في الكازينو على الاعتراض عليها، رغم أنهم يواصلون تذكير معظم اللاعبين بالتوقف التدخين. ثمّة خطوط حمراء لا يمكن للموظفين تجاوزها مع الزبائن الدائمين، ولو أن إدارة الكازينو كانت قد أصدرت قراراً بمنع التدخين في الداخل، بعد وباء كورونا.

ليس اللعب على ماكينات الحظ (Slot Machines) المنتشرة في إحدى صالات كازينو لبنان، حالة مؤكّدة، أقلّه بالنسبة إلى اللاعب نفسه، خصوصاً إذا استثنينا الموسيقى المنبعثة من الآلات أمامه. فذلك التردّي في حدّة صوتها، قد يفجّر صوتاً أقوى ما إن يصيب الهدف، وقد ينتهي بصمت مريع يعلن خسارة اللاعب. مقابل هذه الحضور الصوتي، تنحسر الحاجة إلى الرؤية شيئاً فشيئاً، حتى حين يكون النظر مصوّباً إلى الشاشة. وفي حالة الخسارة، تنعدم الحاجة إلى الرؤية تماماً.

دخل ما يُطلَق عليه اقتصاد الكازينو كقوّة متوارية تتحكّم بكل مصاريف اللبنانيين.. تنتقص من رواتبهم كلّ شهر، أو تزيدها، وفق ارتفاع الأسعار والإيجارات والخدمات

على إحدى الماكينات، ألصق رجل خرقاً مبلولة على المربّعات الأربعة على الشاشة أمامه، ليحجب الأشكال التي عليها أن تتطابق من أجل الفوز. وبسعيه إلى التخفيف من قلق ترقّبه للنتيجة، تخلّى الرجل عن عينيه مؤقتاً، كأنه يفقأهما أمام قوّة خفيّة تبعثها الشاشة. أليس العماء عقاباً منذ أوديب؟ لكن هذا العقاب يبدو استباقياً في حالة الرجل، كأنما يضع أمامه الخسارة كاحتمال وحيد، مضاعفاً بذلك من حجم الجزاء الذي تسديه المقامرة إليه بشكل مباشر.

يظهر هذا النمط القهري من العقاب في رسائل الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي النادمة إلى زوجته. وفيها يبدّد نفسه بالاعتذار عن تبديده المال التي كانت تبعثه إليه حين أدمن القمار في ألمانيا. يصنّف سيغموند فرويد تحليله، المقامرة كعقاب ذاتي آخر لدى دوستويفسكي (يضاف إلى نوبات الصرع اللا إرادية التي كانت تصيبه)، نتيجة عقدة أوديب المتمثّلة في قتل الأب، والتي نفّذها لاحقاً أحد أبطال روايته الأشهر “الإخوة كارامازوف”. وعليه، فإن خسارة المال لدى دوستويفسكي كانت فرصته الوحيدة لشتم وإهانة نفسه أمام زوجته مقدّماً لها سيلاً من الاعتذارات، كطريقة أخرى لإنفاق ذاته أمامها.

يبدو “الإنفاق” الفعل الأكثر دقة لتلك العملية المضنية التي كان يخوضها دوستويفسكي، ويخوضها يومياً أيّ مقامر، إذ “أنه لم يكن يستريح إلا حين يفقد كلّ شيء” كما يتوصّل فرويد.

إذا افترضنا وجود مفهوم للعقاب في الحالة اللبنانية الجماعيّة، فإن مقامرة اللاعبين تظهر كفرصة للهرب من عقاب آخر فرض على المواطنين إكراهاً، مع اجتياح تطبيقات صرف سعر الليرة مقابل الدولار لهواتف معظم اللبنانيين. صار لدينا شاشات، وصار لزاماً علينا أن نتابعها كلّ يوم. وإليها دخل ما يُطلق عليه اقتصاد الكازينو كقوّة متوارية تتحكّم بكل مصاريف اللبنانيين. تنتقص من رواتبهم كلّ شهر، أو تزيدها، وفق ارتفاع الأسعار والإيجارات والخدمات. أُخضعت مصائر المواطنين لقوّة السوق السوداء التي تعلنها التطبيقات يومياً. الفارق الوحيد ربّما، أن المقامر يمتلك بعضًا من إرادته، فهو الذي يتحكّم باللعبة، ولو عن طريق العماء.